هل سينقِذُ تصنيعُ الدبابات بدل السيارات اقتصادَ ألمانيا؟

هل سينقِذُ تصنيعُ الدبابات بدل السيارات اقتصادَ ألمانيا؟

تستعدُّ ألمانيا لإعادة تسليح نفسها وتستعد لاقتراض ما يصل إلى تريليون يورو، معظمها للإنفاق العسكري. خسرت صناعةُ السيارات الألمانية أمام صناعة السيارات الكهربائية الصينية وعانت من انتكاسة في الصادرات، فتحوَّلت الآن إلى إنتاج الدبابات. إنّ هذه الخطوة لا تشكل تهديداً خطيراً للسلام فحسب، بل تثير أيضاً تساؤلات حول ما إذا كانت هذه النزعة «الكينزية العسكرية» قادرة على مساعدة الصناعة الألمانية على استعادة حيويتها؟ هذا ما يناقشه هنا الناشط السياسي والاقتصادي المعروف، وزير المالية اليوناني السابق، يانيس فاروفاكيس.

ترجمة: أوديت الحسين

استجابت الأسواق المالية الأوروبية بحماس، مرحّبةً بخطة التحفيز العسكري الضخمة. ولسوء الحظ، فإن هذا الحماس ينبع من سوء فهم أساسي؛ إذْ يتوقع «خبراء التمويل» أن تتمكن ألمانيا، من خلال التحفيز المالي، من معالجة الأسباب الكامنة وراء ركودها. ولكن هذا ليس هو الحال.
إن أسباب انحدار الصناعة الألمانية ليس لغزاً. على مدى العقدين الماضيين، انتهجت معظم البلدان سياسات التقشف، في حين طبع عدد قليل منها كميات كبيرة من النقود، ممّا أدى إلى انخفاض الاستثمار الصافي إلى الصفر في غضون 15 عاماً، وخاصة في المجالات المرتبطة بالمستقبل: الطاقة الخضراء، والابتكار الرقمي، والرعاية الاجتماعية. لقد فشل الاقتصاد الألماني في الاستفادة من الثورتين التكنولوجيتين المتمثلتين في الطاقة الخضراء والحوسبة السحابية.
عندما تخلفت صناعة السيارات التي كانت مهيمنة في السابق عن الركب أمام شركات السيارات الصينية، كان رد ألمانيا هو التحول من صناعة السيارات إلى صناعة الدبابات. يبدو هذا جيداً في الظاهر، لكنّه يتجاهل حقيقةً بسيطة: إيرادات صناعة الأسلحة أقل من 10% من إيرادات صناعة السيارات، ومن المستبعد تماماً توقّع أن تُغطي إيرادات الأسلحة هذه الفجوة. هذه ليست استراتيجية، بل هي مقامَرة يائسة.
إذاً، لماذا الأسواق المالية متحمسة للغاية؟ لأنهم يخلطون بين التحفيز العسكري لمرة واحدة واستثمار إنتاجي مستدام طويل الأجل. مهما كان حجم الإنفاق العسكري المؤقت، فإنه لا يستطيع إصلاح نظام السكك الحديدية، أو رقمنة البلاد، أو تحديث شبكة الطاقة، أو استعادة الحيوية الصناعية التي كانت في انحدار لسنوات عديدة. بدلاً من ذلك، سيتم استخدام هذه المبالغ الضخمة لدفع رواتب الجنود الجدد واستيراد البنية التحتية العسكرية. هذا ليس استثماراً، بل استهلاك.
ورغم أن بعض التكنولوجيا العسكرية قد تنتقل إلى الاستخدام المدني، فمن المهم أن نتذكر أنّنا لا نعيش في ستينيات القرن العشرين، عندما كان المجمَّع الصناعي العسكري يقود الابتكار الرقمي. اليوم، تقود الشركات المدنية الخاصة التطوير العسكري، فشركات التكنولوجيا الكبرى هي التي توفر تقنيات الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي للتكنولوجيا العسكرية.
وعلاوة على ذلك، لا يمكن تجاهل قضية الاستدامة المالية. وعلى النقيض من بلدان أخرى في الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا، تتمتع ألمانيا بحيز مالي واسع. من الناحية النظرية، يمكن لألمانيا أن تقترض تريليون يورو لتمويل هذا التوسع العسكري، مما يرفع نسبة دينها إلى الناتج المحلي الإجمالي من نحو 60% حالياً إلى ما يزيد قليلاً على 80% دون التأثير بشكل فوري على استدامة ديونها. ولكنني أعتقد أن ألمانيا لا تملك مساحة ماليّة كافية لدعم قوتها العسكرية الأكبر التي وعدت بها على المدى الطويل، وهو ما قد يهدد استدامة ديونها.
إذا كان معدل النمو الاسمي يساوي معدل نمو الدين الحكومي، أي عجز الموازنة مضروباً في «1+r»، حيث r هو سعر الفائدة الحقيقي، فإن الدين يكون مستداماً. في الوقت الحالي، يبلغ معدل النمو الاسمي في ألمانيا نحو 3%، ويرجع هذا كله إلى التضخم «لأن الاقتصاد الحقيقي راكد». على الجانب الآخر من المعادلة، ينمو الدين الحكومي أيضاً بنسبة تقترب من 3%. على خلفية الركود الاقتصادي وتراجع الصناعة. من هنا حققت الإيرادات والنفقات المالية توازناً مثالياً.
ولكن خطة الحكومة الألمانية لتمويل توسعها العسكري من خلال إضافة دين «أو عجز» لا يقل عن 3% من الناتج المحلي الإجمالي قد تؤدي إلى اختلال هذا التوازن. ومن المأمول أن تؤدي هذه الخطوة إلى دفع نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى 3%، وبالتالي ضمان الاستدامة المالية.
ولكن إذا ارتفع معدّل النمو الاسمي بنسبة 3% بسبب التضخم بنسبة 3%، مع فشل النمو الحقيقي في مواكبة هذا الارتفاع، فقد يكون الأمر على ما يرام في الأمد القريب، ولكن في الأمدين المتوسط ​​والطويل فإن التضخم سوف يؤدي إلى تآكل الطلب الكلي الفعلي، وإضعاف قدرة المجتمع على دفع الضرائب، وبالتالي تفاقم العجز. هل يمكن لتحفيز العجز الإضافي بنسبة 3% أن يعزز النمو الفعلي بنسبة 3%؟ يمكن القول إنّ الاحتمال ضئيل جداً.
تسمى الزيادة في الدخل الحقيقي الناتجة عن كل يورو إضافي يتم إنفاقه «التأثير المضاعف». تظهر البيانات التاريخية أنّ التأثير المضاعَف للإنفاق العسكري أقلّ من 1، أيْ أن كل يورو يتم استثماره في الأسلحة يجلب أقل من يورو واحد من النمو الإضافي في الناتج المحلي الإجمالي.
يعود ذلك أساساً إلى سببين: أولاً، يعتمد جزء كبير من الأسلحة والذخائر والوقود على الواردات، مما يؤدي إلى تدفق قدر كبير من النفقات الجديدة إلى الخارج. ثانياً، معظم مصنعي الأسلحة شركاتٌ احتكارية عملاقة، قادرة على تحقيق أرباح طائلة بفضل قوّتها السوقية. يستحوذ المصنعون على هذا الجزء من الأرباح، ولا يعود إلى الدورة الاقتصادية.
فما هو التأثير المضاعف الذي ستخلّفه الإنفاقات العسكرية الجديدة في ألمانيا اليوم؟ هل هو أقل أم أعلى من 1؟ في الآونة الأخيرة، توقَّع معهد كيل مضاعَفاً قدرُه 1.5، ولكنني أشعر أنّ هذا مجرّد موجة صغيرة من أمواج «النوايا الحسنة» التي تجتاح أوروبا حالياً وتهمّش كلَّ تفكيرٍ عقلاني. لقد رأينا بالفعل أنّ قدراً كبيراً من الإنفاق العسكري الجديد سوف يذهب إلى الأسلحة الأمريكية، في حين سيذهب الباقي إلى نفقات غير فعالة ومنخفضة المضاعفات. وعلاوة على ذلك، ونظراً للأسباب المذكورة أعلاه، فإنّ مثل هذه التدابير التحفيزية قد لا تكون مستدامة على المدى الطويل.

لا استثمارات منتِجة

بعيداً عن هذه المخاوف الاقتصادية الكلّية، هناك سؤال أكثر إلحاحاً: ما هي بالضبط طبيعة ما يسمى «الاستثمار»؟ إن شراء الدبابات، وإصلاح الطرق السريعة، واستبدال أجهزة الفاكس القديمة في المكاتب الحكومية قد يكون لكلّ منها مبرراته الخاصة، ولكنها ليست استثمارات منتِجة لأنها لا تستطيع تمويل نفسها وتوليد الإيرادات اللازمة لسداد الديون المتراكمة.
وعلى النقيض من ذلك، فإنّ الألواح الشمسية، والبطاريات عالية التقنية، والقطارات الجديدة عالية السرعة، واستثمارات رأس المال السَّحابي، هي استثمارات منتِجة لأنّها تولِّد دخلاً يسدِّد تلقائياً الاستثمارَ الأوّلي.
وبطبيعة الحال، فإنّ التدابير التحفيزية سوف تخلق على المدى القصير وهمَ التعافي. إنّ المتعة قصيرة الأمد التي يجلبها اقتراض المال تُخفي جوهرَ الركود الهيكلي. لكن عندما يتلاشى الحماس حتماً، فسوف تجد ألمانيا نفسها عادتْ إلى نقطة البداية.
ولكن بعد ذلك سوف تكون ألمانيا مُثقَلة بإنفاقٍ عسكري أعظم وعجزٍ ماليٍّ أكبر على نحو دائم، وعلى النقيض من الولايات المتحدة، لن يكون لديها بنكٌ مركزي يدعمها ويقدِّم المساعدة لوزارة المالية. هذا ليس حلّاً لتقليص الصناعة أو الركود المزمن، بل هو اضطرابٌ مكلف وخطير.
لذلك، لا ينبغي لنا أنْ ننخدع بالأرقام الكبيرة والكلمات العملاقة. إنّ إعادة تسليح ألمانيا لم يكن طريقاً إلى النهضة الصناعية بل كان أحدَ أعراض تراجُعها. وما لم تَستيقظْ أوروبا وتواجِه حقيقةَ مأزقها البنيوي، فإن هذه الممارسة الكينزية العسكرية لن تؤدي إلّا إلى تسريع انحدار القارة. عليهم أن يتوقفوا عن أحلام اليقظة، فقد حان الوقت لاستثمار أموال حقيقية في الطاقة الخضراء والابتكار الرقمي وسبل العيش الاجتماعية. لكن في القارة الأوروبية يبدو أن مثل هذه اللحظة لا تأتي أبداً!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1219