معطيات من الاقتصاد الروسي بتأثير الحرب في أوكرانيا
عرضنا في مقال سابق الجانب الخاص بأوكرانيا من التأثيرات الاقتصادية للحرب، ونستكمل في هذا المقال استعراض بعض المؤشرات حول تأثير الحرب على الجانب الروسي بحسب ما أوردها الباحث الاقتصادي البريطاني مايكل روبرتس في مدوّنته «الركود التالي» بتاريخ 24 من شباط المنصرم.
تعريب وإعداد: قاسيون
في البداية نذكر ملخصاً عما ذكره الكاتب من خسائر أوكرانيا في الحرب: يقدّر إجمالي القتلى والجرحى من أوكرانيا بنحو نصف مليون عسكري و46 ألف مدني. وفي وقت سابق من 2024، ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية تقييماً أوكرانياً سرّياً لخسائر القوات الأوكرانية بأنها قرابة 80 ألف قتيل و400 ألف جريح. ووفقاً للمصدر نفسه نقلاً عن أرقام حكومية، في النصف الأول من 2024، بلغت الوفيات في أوكرانيا ثلاثة أضعاف المواليد. وبحسب البنك الدولي، ما زال نحو 5.9 مليون أوكراني نازحين خارج البلاد و3.7 مليون نازحين داخلياً. وفي العام الماضي، كانت الخسائر الأوكرانية أعلى بخمس مرات من خسائر روسيا، حيث كانت كييف تخسر ما لا يقل عن 50 ألف عسكري شهرياً. وبعد ثلاثة سنوات من الحرب يبدو أنّ أوكرانيا تتعرض لاستكمال النهب الأمريكي الغربي لما تبقى منها، كما ظهر مؤخراً من حديث عن صفقة المعادن مثلاً، حيث طالب ترامب أوكرانيا بتوقيع تنازل عن أكثر من 50% من معادنها النادرة لصالح الولايات المتحدة مقابل تسليم 500 مليار دولار لإعادة الإعمار. وقال ترامب: «أريد منهم أن يعطونا شيئاً مقابل كل الأموال التي نضعها وسأحاول تسوية الحرب وإنهاء كل هذا الموت. نطالب بالمعادن النادرة والنفط، أيّ شيء يمكننا الحصول عليه». كما قال السناتور الأمريكي ليندسي غراهام بشكل سافر: «هذه الحرب تدور حول المال... أغنى دولة في أوروبا بالمعادن النادرة هي أوكرانيا، بقيمة 2 إلى 7 تريليونات دولار... لذا فإن دونالد ترامب سيعقد صفقة لاستعادة أموالنا، لإثراء أنفسنا بالمعادن النادرة...». مع ذلك يجدر بالذكر بأنّ نصف الرواسب المعدنية عموماً (المقدرة قيمتها بنحو 10-12 تريليون دولار) موجودة في مناطق تسيطر عليها روسيا.
عوامل دافعة للاقتصاد الروسي
سيطرت روسيا أوائل عام 2022 على المقاطعات الأربع الناطقة بالروسية في دونباس في شرق أوكرانيا مما أعطاها دفعة قوية لاقتصادها. وفي عام 2023، بلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي 3.6% وأكثر من 3% في عام 2024. وما يزال اقتصاد الحرب في روسيا صامداً.
وعلى الرغم من تفاقم النقص الحاد في العمالة الروسية (منها ديموغرافية وطبيعية)، ورغم تجنيد الجيش الروسي عشرات الآلاف من الرجال في سن العمل (انضمام 10 إلى 30 ألف عامل للجيش كل شهر، أي نحو 0.5% من إجمالي العرض)، لكن هذه التغيرات استفاد منه بالمقابل العمّال الروس في القطاعات غير العسكرية؛ حيث زاد الأمان الوظيفي النسبي مع تردّد المديرين في تسريحهم. وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية من الحرب، تغلبت روسيا على العقوبات، رغم استثمار قرابة ثلث ميزانيتها في الإنفاق الدفاعي. فزادت من التجارة مع الصين وبيع نفطها إلى أسواق جديدة، جزئياً باستخدام «أسطول ظِلّ» من الناقلات لتجنب سقف الأسعار الذي كانت الدول الغربية تأمل أن يقلل التمويل العسكري الروسي. وصدّرت نصف نفطها إلى الصين عام 2023، وأصبحت أكبر مورِّدٍ للنّفط للصين. وقفزت الواردات الصينية إلى روسيا بأكثر من 60% منذ بدء الحرب، حيث زوّدتها الصين بتدفق ثابت من السلع بما في ذلك السيارات والأجهزة الإلكترونية، مما سدَّ فجوة واردات السلع الغربية المفقودة. وبلغ حجم التجارة بين روسيا والصين 240 مليار دولار في عام 2023، بزيادة تفوق 64% منذ عام 2021، قبل الحرب.
ورغم الحرب ارتفعت الأجور في روسيا بنسبة مزدوجة الرقم، ووصلت معدَّلات الفقر والبطالة إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق. وبالنسبة لأصحاب الدخول الأدنى في البلاد، ارتفعت الرواتب على مدى الأرباع الثلاثة الماضية بشكل أسرع من أي شريحة أخرى من المجتمع، حيث سجلت معدل نمو سنوي بلغ نحو 20%. وتنفق الحكومة مبالغ ضخمة على الدعم الاجتماعي للأسر، وزيادات المعاشات التقاعدية، وإعانات الرهن العقاري، وتعويض أقارب أولئك الذين يخدمون في الجيش.
لكن التضخم ارتفع بشكل كبير وانخفضت قيمة الروبل بشكل كبير مقابل الدولار، مما أجبر البنك المركزي الروسي على رفع سعر الفائدة إلى أكثر من 20%.
إدارة اقتصاد الحرب لتعزيز الدولة بدل تدميرها
الطريقة التي تعاملت بها الدولة الروسية مع اقتصاد الحرب أدت إلى جعلها مؤسسات الدولة تتدخل بطريقة تتجاوز كثيراً من الطرق السائدة في عملية اتخاذ القرار في القطاع الرأسمالي فيما يتصل بالمجهود الحربي الوطني، فلقد أحلّت الاستثمار الحكومي محل الاستثمار الخاص في عدة مجالات. ومن عجيب المفارقات أنّ هذا الأمر تسارع في حالة روسيا بسبب انسحاب الشركات الغربية من الأسواق الروسية وبسبب العقوبات. فقد استولت الدولة الروسية على كيانات أجنبية أو أعادت بيع بعضها إلى رأسماليين روس ملتزمين بالمجهود الحربي.
بلغ الإنفاق على البناء الجديد والمعدات ذات التقنية العالية والمعدات الجديدة أعلى مستوى له في 12 عاماً عند 14.4 تريليون روبل (136.4 مليار دولار)، بزيادة 10 في المائة عن العام السابق. وتجاوز معدل نمو الاستثمار معدلَ نمو الناتج المحلي الإجمالي بهامش أوسع من أي وقت مضى على مدار السنوات الخمس عشرة السابقة، وفقاً لمركز «التحليل الاقتصادي الكلّي والتوقعات قصيرة الأجل» ومقرّه موسكو.
وتتمثل الوجهات الرئيسية للاستثمارات غير المسبوقة التي تجتذبها البلاد حتى الآن في إحلال الواردات، والبنية الأساسية الموجهة نحو الشرق، والإنتاج العسكري. والهندسة الميكانيكية، التي تشمل تصنيع المنتجات المعدنية النهائية (الأسلحة)، وأجهزة الكمبيوتر، والبصريات والإلكترونيات، والمعدات الكهربائية، وهي واحدة من أسرع المجالات نمواً في مجال الاستثمار.
وظلّ العديد من خبراء الاقتصاد الغربيين يقولون على مدى السنوات الثلاث الماضية إنّ الاقتصاد الروسي سوف ينهار. وزعموا أن النقص الحاد في العمالة، والتضخم المستمر والمتصاعد الناجم عن الإنفاق العسكري المتزايد والعقوبات المشددة على نحو متزايد، من شأنها أن تؤدي في النهاية إلى أزمة اقتصادية تجبر موسكو على التخلي عن أهدافها في أوكرانيا وإنهاء الحرب بشروط أكثر قبولاً لدى كييف وحلفائها.
وقد عزا العديد من المحللين هذه «العلامات على ارتفاع درجة الحرارة» إلى الإنفاق المرتفع على الحرب في أوكرانيا، مشيرين إلى الإنفاق العسكري القياسي الذي من المتوقع أنه تجاوز 7% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024. ومع توقع ارتفاع الإنفاق الدفاعي بنحو 25% هذا العام، وهو ما يمثل نحو 40% من إنفاق الحكومة الفيدرالية، أثار البعض احتمال انزلاق روسيا إلى «الركود التضخمي»، وهو ما يجمع بين التضخم المرتفع وانخفاض النمو أو انعدامه.
عجز متواضع رغم أعنف حرب في أوروبا منذ 1945
على الرغم من خوضها لأعنف حرب في أوروبا منذ عام 1945، تمكنت موسكو من تمويل الحرب بعجز متواضع في الميزانية يتراوح بين 1.5 و2.9% من الناتج المحلي الإجمالي منذ عام 2022. ونتيجة لذلك، لم يضطر الكرملين إلّا بالكاد إلى الاقتراض لتمويل الحرب. كما ارتفعت العائدات الضريبية الناتجة عن النشاط المحلّي منذ بدء الحرب. وبنحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي، تتمتّع روسيا بأصغر نسبة دين حكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي بين اقتصادات مجموعة العشرين. لذا، على الرغم من انقطاعها عن معظم المصادر الخارجية لرأس المال، تظل روسيا أكثر من قادرة على تمويل الاستثمار المحلي والإنفاق الحكومي بمواردها الخاصة.
على مدى العامين الماضيين، سجلت روسيا فائضاً في حسابها الجاري بنحو 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي. وطالما تستطيع روسيا الاستمرار في تصدير كميات كبيرة من النفط، فمن غير المرجح أن يتغير هذا.
قفزت عائدات النفط والغاز الروسية بنسبة 26% العام الماضي إلى 108 مليارات دولار حتى مع انخفاض إنتاج النفط والغاز المكثف اليومي في عام 2024 بنسبة 2.8%، وفقاً لمسؤولين حكوميين روس نقلاً عن رويترز. وعلى الرغم من بقائها الدولة الأكثر خضوعاً للعقوبات في العالم في عام 2024، فقد صدرت روسيا رقماً قياسياً بلغ 33.6 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال في ذلك العام، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 4% عن العام السابق.
توقع معهد التمويل الدولي انخفاض سعر التعادل المالي للنفط في روسيا (المبلغ اللازم لموازنة الإنفاق في الميزانية) إلى 77 دولاراً للبرميل بحلول عام 2025، بدعم من التعافي في عائدات النفط والغاز. وفي الوقت نفسه، فإن سعر التعادل الخارجي للنفط (السعر اللازم لموازنة الحساب الجاري الخارجي)، عند 41 دولاراً للبرميل، هو ثاني أدنى سعر بين كبار مصدري الهيدروكربونات. وهذا يعني أن سعر نفط الأورال الحالي يلبي أكثر من نقاط التعادل هذه.
وبحسب مايكل روبرتس فإنّ أياً من هذا الاستثمار في «اقتصاد الحرب» لن يدعم نمو الإنتاجية في روسيا في الأمد البعيد. وسوف يعود اقتصاد الحرب في روسيا إلى التراكم الرأسمالي عندما تنتهي الحرب. ويظل الاقتصاد الروسي مرتبطاً بشكل أساسي بالموارد الطبيعية. فهو يعتمد على الاستخراج بدلاً من التصنيع. والإنتاج الحربي غير منتج في الأساس لتراكم رأس المال في الأمد البعيد. ويسلط الضوء على نقطة ضعف تتعلق بغياب ما يكفي من التقدم التكنولوجي في روسيا لإلغاء الاعتماد كلياً على الواردات عالية التقنية. ويتابع روبرتس: حتى مع الحوافز المالية الضخمة، فإنها لم تنتج بعد تقنيات مناسبة لسوق التصدير التنافسية إلى جانب الأسلحة والطاقة النووية، حيث تخضع الأولى بالفعل للعقوبات والثانية على وشك أن تخضع للعقوبات.
عوامل قد تفاقم مشكلات روسيا الاقتصادية
الانحدار الديموغرافي، وتدهور جودة التعليم الجامعي، وقطع العلاقات مع المدارس الدولية، وهجرة الأدمغة، من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم هذه المشاكل. ومن المرجح أن تتسع الفجوة التكنولوجية، مع اعتماد روسيا بشكل متزايد على الواردات الصينية والهندسة العكسية (النسخ). ومن المرجح ألّا يتجاوز نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي المحتمل في روسيا 1.5% سنوياً، لأن النمو مقيَّد بشيخوخة السكان وتقلص أعدادهم وانخفاض معدلات الاستثمار والإنتاجية.
الواقع أن الاقتصاد الروسي القائم على الحرب في وضع جيّد يسمح له بمواصلة الحرب لعدة سنوات قادمة إذا لزم الأمر. ولكن عندما تنتهي الحرب، قد يواجه انحداراً كبيراً في الإنتاج والعمالة.
لقد أدت الحرب في أوكرانيا وطريقة إدارتها من الجانب الغربي إلى إيقاع الشعب الأوكراني في أيدي الحكومات الغربية المؤيدة للسوق الحرة والمعادية للعمال والتي ستسمح لرأس المال الغربي بالاستيلاء على أصول أوكرانيا واستغلال قوتها العاملة المتضائلة.
عواقب على الاقتصاد الأوروبي
لم تدمر الحرب أوكرانيا فحسب؛ بل أضعفت الاقتصاد الأوروبي بشكل خطير مع ارتفاع تكاليف الإنتاج بسبب فقدان واردات الطاقة الرخيصة من روسيا. ولكن يبدو أن الزعماء الأوروبيين يريدون مواصلة الحرب حتى لو انسحب ترامب. وهم يكافحون بشدة للحصول على الأموال اللازمة للقيام بذلك وتقديم المزيد من المساعدات العسكرية للحكومة الأوكرانية المحاصرة. ويقترح بعض الزعماء إرسال قوات إلى أوكرانيا. ويريدون «الحرب وليس السلام».
إن القرار الذي اتخذه حلف شمال الأطلسي وقادة التيار الرئيسي في أوروبا بمضاعفة الإنفاق الدفاعي من نحو 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط بحلول نهاية العقد، بزعم مقاومة الهجمات الروسية الوشيكة إذا نجح بوتين في تحقيق سلام رابح هذا العام، هو قرار سيِّئ لهم بالقدر نفسه. وهذا مبرر بشكل سخيف على أساس أن الإنفاق على «الدفاع هو أعظم منفعة عامة على الإطلاق» بحسب زعم برونوين مادوكس، مديرة تشاتام هاوس، «مؤسسة الفكر» للعلاقات الدولية، والتي تعبّر بشكل رئيسي عن وجهات نظر الدولة العسكرية البريطانية. وخلصت مادوكس إلى أن: «المملكة المتحدة قد تضطر إلى اقتراض المزيد لدفع تكاليف الإنفاق الدفاعي الذي تحتاجه بشدة. وفي العام المقبل وما بعده، سيتعين على الساسة أن يستعدوا لاستعادة الأموال من خلال تخفيضات إعانات المرض والمعاشات التقاعدية والرعاية الصحية... وفي النهاية، سيتعين على الساسة إقناع الناخبين بالتنازل عن بعض مزاياهم لدفع تكاليف الدفاع» بحسب قولها. ونتلقى نفس الرسالة من زعيم الحزب الفائز في الانتخابات الألمانية.
وسوف يعني هذا تحويلاً هائلاً للاستثمارات من الخدمات والمزايا العامة التي تشتد الحاجة إليها، ومن الاستثمار التكنولوجي إلى إنتاج الأسلحة غير المنتجة والمدمرة. وهذا من شأنه أن يفرض قدراً هائلاً من عدم اليقين بشأن مستقبل أوروبا ككيان اقتصادي رائد خلال ما تبقى من هذا العقد وما بعده.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1218