الدردري... وجه الخراب الاقتصادي يعود متحدثاً عن التعافي
في عالم التسويق، ثمة خدعة تسويقية معروفة باسم «تأثير التباين» أو «تأثير المقارنة». الفكرة الأساسية منها هي تقديم ثلاثة خيارات للزبون، أحدها «جيداً» والآخران أقل جودة أو غير مناسبين، ما يجعل الزبون ينجذب للخيار «الجيد» دون التفكير ملياً بمقدار جودته الفعلية أو حجم التلاعب الذي تعرَّض له، فالعقل البشري يميل إلى اتخاذ قرارات بناءً على المقارنات، وعند وجود خيارات متباينة، يصبح من السهل تحديد الخيار «الأفضل» دون الانتباه لوجود خيارات أخرى من خارج القائمة. من يقرأ التقرير الجديد الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، والتصريحات الأخيرة لمساعد مدير البرنامج ومدير المكتب الإقليمي للدول العربية، عبد الله الدردري، المعروف في أوساط السوريين بوصفه الوجه الاقتصادي الأول لنظام بشار الأسد في سنوات 2003-2011، سرعان ما يشتمّ رائحة هذه الخدعة التسويقية.
استعرض الدردري في مؤتمرٍ صحفي في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، يوم الخميس 20 شباط 2025، نتائج التقرير الذي حمل عنوان «تأثير الصراع في سورية: اقتصاد مُدمَر وفقر مستشر وطريق صعب إلى الأمام نحو التعافي الاجتماعي والاقتصادي». وذكر التقرير مجموعة من الأرقام حول الواقع الاقتصادي الصعب في سورية، مثل أن ثلاثة من كل أربعة أشخاص يعتمدون على المساعدات الإنسانية، وأن معدل الفقر تضاعف ثلاث مرات تقريباً من 33% قبل 2011 إلى 90% اليوم، وأن الفقر المدقع تضاعف ستة أضعاف، من 11% إلى 66%، وأن ثلث وحدات الإسكان دمرت أو تضررت بشدة، وأكثر من نصف محطات معالجة المياه وأنظمة الصرف الصحي أصبحت غير صالحة، وانخفض إنتاج الطاقة بنحو 80% وأكثر من 70% من محطات الطاقة وخطوط النقل متضررة.
لكن الأهم من هذا كله، أن التقرير طرح ثلاثة سيناريوهات رئيسية لنمو الاقتصاد السوري، تختلف فيما بينها بوتيرة النمو المفترضة، وبالتالي في «الجدول الزمني لعودة الناتج المحلي الإجمالي إلى مستوى عام 2010».
ثلاثة سيناريوهات افتراضية لـ«التعافي»... وعلينا أن نختار!
السيناريو الأول الذي يطرحه التقرير هو سيناريو الوضع الراهن الذي يفترض استمرار النمو البطيء الذي تحقَّق بين أعوام 2018 و2024 بنحو 1.3% سنوياً فقط. والنتيجة غير الصادمة في هذا السيناريو أن الاقتصاد لن يستعيد مستوى 2010 قبل عام 2080 تقريباً، أي بعد نحو 55 سنة من الآن (بعض وسائل الإعلام، توقفت في قراءة التقرير هنا، وبدأت بتدبيج عناوين إخبارية من نمط: ليس قبل 2080... سورية تحتاج إلى 5 عقود لتعافي الاقتصاد).
أما السيناريو الثاني، فيفترض تحقيق التعافي (المقصود هو العودة إلى أرقام 2010) خلال 10 سنوات، ويقدر أن ذلك يتطلب معدل نمو سنوي بنحو 7.6% بشكل متواصل. ويؤكد التقرير أن هذا السيناريو «طموح، ولكنه واقعي»، حيث يفوق متوسط النمو الاقتصادي في سورية قبل الحرب (نحو 5% سنوياً وفقاً لتقديرات التقرير)، ويقترب من معدلات النمو في الاقتصادات الناشئة السريعة. ووفق هذا التصور، يمكن بحلول عام 2035 تقريباً أن يعود الناتج المحلي الإجمالي لما كان عليه في 2010. ويشير التقرير إلى أن تحقيق هذا السيناريو لا يعوّض خسائر الناتج التراكمي خلال سنوات الحرب، فحتى عند بلوغ مستوى 2010، يكون الاقتصاد قد فاتته 14 سنة من النمو الضائع كان يمكن تحقيقه لولا الأزمة.
وأخيراً، يعتبر التقرير أن السيناريو الثالث هو الأكثر تفاؤلاً من الناحية النظرية ويتمثل في محاولة تعويض الفاقد من الناتج خلال الحرب، وليس فقط استعادة مستوى 2010. ويخلص التقرير إلى أنه لتحقيق اللحاق بمسار النمو الافتراضي لسورية دون عوامل الحرب خلال 10 سنوات فقط (أي بحلول 2035 تقريباً)، يلزم معدل نمو سنوي استثنائي يقارب 21.6%. ويصف التقرير هذه الفرضية بأنها «نظرية بحتة».
وعليه، يُظهر التقرير، من خلال طرحه للسيناريوهات الثلاثة، محاولة واضحة لتسويق السيناريو الثاني باعتباره الخيار الأكثر واقعية ومعقولية. فبينما يقدم السيناريو الأول صورة قاتمة للوضع الراهن مع نمو بطيء يُبقي الاقتصاد في حالة ركود لخمسة عقود، ويطرح السيناريو الثالث هدفاً نظرياً بعيد المنال يتطلب معدلات نمو غير مسبوقة، يبرز السيناريو الثاني كحل وسط «طموح لكن واقعي».
هذا الأسلوب في العرض يدفع القارئ أو صانع القرار إلى تبني السيناريو الثاني كخيار وحيد عملي، والتركيز على هذا السيناريو هو محاولة عملياً لتقليل التوقعات وتوجيه الرأي العام نحو القبول بنسبة نمو سنوي 7.9% كحد أقصى، رغم أن تجارب اقتصادات أخرى ناشئة أو خارجة من أزمات تشير إلى إمكانية تحقيق معدلات نمو أعلى، خاصة في ظل ظروف إعادة الإعمار والاستثمارات الكبيرة المطلوبة.
الأسوأ من ذلك هو أن التقرير، وتصريحات الدردري التي أعقبته، تشترط لتحقيق السيناريو الثاني مجموعة من «الإصلاحات» التي تتمحور فعلياً حول «تعزيز بيئة الأعمال، وجذب الاستثمارات، مع التركيز بشكلٍ خاص على القطاع الخاص، بما في ذلك الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم».
ألا توجد محفزات أخرى لتسريع التعافي؟
يؤخذ على التقرير أنه ركز على تحديات إعادة الإعمار الكمية (كالفجوة في الناتج المحلي والبنية التحتية المدمَّرة، وحاجات التمويل والاستثمار)، لكنه لم يتعمق فعلياً في بعض محفزات النمو النوعية التي يمكن أن تختصر زمن التعافي الاقتصادي. ومنها سياسات التصنيع، والاستثمار الحكومي في البنية التحتية والقطاعات الإنتاجية، وحشد الموارد المحلية، ورأس المال البشري.
التقرير وإن أشار إلى ضرورة إعادة تنشيط قطاعات الزراعة والنفط والتصنيع وتحسين بيئة الأعمال، إلا أنه لم يطرح رؤية واضحة لسياسات صناعية موجَّهة تقود عجلة النمو والتي تعني أن تحدد الدولة قطاعات ذات أولوية وتوفر لها الدعم والحوافز من إعفاءات ضريبية وحماية جمركية لتحفيز قيام صناعات وطنية قادرة على المنافسة.
ويؤكد التقرير الحاجة إلى إعادة بناء البنى التحتية الأساسية كشرط للنمو، لكنه يفترض ضمنياً أن تمويل الجزء الأكبر من ذلك سيأتي عبر الاستثمار الخاص أو المانحين. غير أن التجربة التاريخية تؤكد بأن نجاح الدولة مرهون باضطرارها لقيادة دفة الاستثمار بشكل مباشر في المراحل الأولى للانتعاش، خاصة عندما يكون القطاع الخاص منهكاً ولا يمتلك القدرة المالية أو الرغبة لتحمّل مخاطر ضخمة. والأمر الملفت أن الاستثمار الحكومي لعب دوراً حاسماً في تعافي الكثير من الاقتصادات بعد الحروب (بما في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا نفسها بعد الحرب العالمية الثانية، حين ضخت الحكومات معونات واستثمارات هائلة لإعادة بناء الطرق والجسور ومحطات الطاقة والمصانع المدمرة. وكذلك في الاتحاد السوفييتي الذي استطاع إعادة الإعمار بسرعة قياسية رغم عدم حصوله على مساعدات خارجية، وبالاعتماد فقط على موارده الذاتية).
أي سيناريو مطلوب وممكن في سورية؟
يجب أن يكون سيناريو النمو في سورية استثنائياً بحكم الضرورة، مدفوعاً بحاجات ملحة تتجاوز الاعتبارات الاقتصادية التقليدية إلى الأبعاد السياسية والاجتماعية والوطنية. فالنقطة المحورية الأولى لأي تعافٍ اقتصادي هي تحقيق نمو سنوي لا يقل عن 10-15%، وهو معدل نمو ضروري ليس فقط لتعويض الفاقد خلال سنوات الحرب، بل أيضاً لمعالجة الأزمة المعيشية الحادة التي يعاني منها أكثر من 90% من السوريين. ويجب أن يستند هذا النمو إلى إعادة توحيد السوق الوطنية، عبر تفاهمات سياسية واقتصادية تعيد التكامل بين مختلف المناطق السورية، مما يتيح إعادة تدفق الموارد والسلع والأيدي العاملة بشكل سلس ويعيد تفعيل البنية الإنتاجية للبلاد.
لتأمين هذا النمو، لا بد من إطلاق برنامج اقتصادي وطني شامل يدمج بين التصنيع والزراعة والاستخراج والطاقة، بحيث يُعاد بناء الاقتصاد وفق هوية مستقلة غير تابعة، وإنما تستفيد من التنافس العالمي لتحقيق مصالحها الوطنية. ويستوجب ذلك استثمارات ضخمة في البنية التحتية والإنتاجية، مع ضمان دور قوي للدولة في قيادة عملية التنمية، على الأقل بالاستفادة من نماذج اقتصادات الرعاية الاجتماعية في أوروبا في السبعينيات والثمانينيات، حيث يجب أن تضمن الدولة السورية إعادة توزيع الثروة لمصلحة أصحاب الأجور، مع حماية القطاعات الحيوية من الاحتكار والاستغلال.
ولا بد أن يكون أحد المحركات الأساسية للنمو هو إعادة بناء القطاع العام الإنتاجي الذي جرى تفكيكه وتخسيره عمداً في عهد السلطة الساقطة، وذلك عبر إعادة تأهيل المصانع، وتوجيه الاستثمارات نحو مجمّعات زراعية صناعية تعظّم القيمة المضافة وتؤمن الاكتفاء الذاتي، مما يسمح لاحقاً بالانتقال إلى الصناعات الثقيلة والتقنيات المتطورة. ولتمويل هذا النمو، يجب تحرير الموارد الوطنية من قبضة النهب والفساد، ورفع نسبة عائدية الاستثمارات بما في ذلك عبر الاستفادة من الميزات المطلقة في الاقتصاد السوري.
على المستوى الدولي، ينبغي أن تستغل سورية مرحلة التعددية القطبية الراهنة لتوسيع خياراتها الاقتصادية، عبر شراكات متوازنة مع دول كالصين وروسيا والهند ودول أخرى، مع الحفاظ على استقلالية القرار الاقتصادي. ومن أجل تحقيق ذلك كله، لا بد من توافق سياسي شامل يؤمن وحدة البلاد، ويعيد صياغة العلاقة بين الدولة والشعب، بما يضمن أن يكون الاقتصاد السوري في خدمة الشعب وليس العكس. بهذا الشكل، يمكن تحقيق قفزة نوعية في معدلات النمو، ليس فقط لإنقاذ البلاد من الفقر، بل لتأسيس اقتصاد وطني قوي ومستقل قادر على تأمين السيادة الاقتصادية والاجتماعية لسورية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1216