اقتصاد أوكرانيا: من خسائر الحرب إلى استكمال نهبها بعد الحرب
تصادف هذه الأيام نهاية العام الثالث من الحرب بين أوكرانيا وروسيا، والتي يبدو أنها أوشكت على نهايتها، حيث أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سعيه لتسوية سلمية عبر المفاوضات المباشرة مع روسيا. ويبدو أنّ عملية الإذلال العلني التي تعرَّض لها زيلينسكي من جانب ترامب أمام الكاميرات (في 28 شباط 2025) لا تهدف فقط للرضوخ لمتطلّبات إنهاء الحرب، بل وكذلك لمتطلبات استكمال النهب الأمريكي الغربي لما تبقى من أوكرانيا بعد الحرب. نلخّص في المادة الآتية جوانب من الخسائر الاقتصادية لأوكرانيا في الحرب، وبعض ما ينتظرها من أطماع إمبريالية ما بعد الحرب، بحسب ما أوردها الباحث الاقتصادي البريطاني مايكل روبرتس في مدوّنته «الركود التالي» بتاريخ 24 من شباط المنصرم.
يريد ترامب استعادة ما أنفقته الحكومة الأمريكية على أوكرانيا حتى الآن، فضلاً عن ضمانات للإنفاق المستقبلي لإعادة بناء الاقتصاد. ورغم شكواه من التحويلات الضخمة للأموال إلى أوكرانيا، ولكنها تنطوي على معلومات مضلّلة، لأنّ غالبية الأموال التي خصصتها الولايات المتحدة لأوكرانيا بقيت في الحقيقة داخل أمريكا نفسها لتمويل القاعدة الصناعية العسكرية المحلية وتجديد المخزونات الأمريكية، وجنت شركات الأسلحة الأمريكية أرباحاً ضخمة من هذه الحرب.
الآن يطالب ترامب أوكرانيا بتوقيع تنازل عن أكثر من 50% من معادنها النادرة لصالح الولايات المتحدة مقابل تسليم 500 مليار دولار لإعادة الإعمار. قال ترامب: «أريد منهم أن يعطونا شيئاً مقابل كل الأموال التي نضعها وسأحاول تسوية الحرب وإنهاء كل هذا الموت. نطالب بالمعادن النادرة والنفط، أيّ شيء يمكننا الحصول عليه». وقال السناتور الأمريكي ليندسي غراهام بشكل سافر: «هذه الحرب تدور حول المال... أغنى دولة في أوروبا بالمعادن النادرة هي أوكرانيا، بقيمة 2 إلى 7 تريليونات دولار... لذا فإن دونالد ترامب سيعقد صفقة لاستعادة أموالنا، لإثراء أنفسنا بالمعادن النادرة...». لكن يجدر بالذكر بأنّ نصف الرواسب المعدنية عموماً (المقدرة قيمتها بنحو 10-12 تريليون دولار) موجودة في مناطق تسيطر عليها روسيا.
الخسائر البشرية والاقتصادية
يقدّر إجمالي القتلى والجرحى من أوكرانيا بنحو نصف مليون عسكري و46 ألف مدني. وفي وقت سابق من 2024، ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية تقييماً أوكرانياً سرّياً لخسائر القوات الأوكرانية بأنها قرابة 80 ألف قتيل و400 ألف جريح. ووفقاً للمصدر نفسه نقلاً عن أرقام حكومية، في النصف الأول من 2024، بلغت الوفيات في أوكرانيا ثلاثة أضعاف المواليد. وبحسب البنك الدولي، ما زال نحو 5.9 مليون أوكراني نازحين خارج البلاد و3.7 مليون نازحين داخلياً. وفي العام الماضي، كانت الخسائر الأوكرانية أعلى بخمس مرات من خسائر روسيا، حيث كانت كييف تخسر ما لا يقل عن 50 ألف عسكري شهرياً.
خسائر التعلم للأطفال الأوكرانيين بلغت نحو 90 مليار دولار، أو ما يساوي حجم الخسائر في رأس المال المادي حتى الآن. وتُظهِر الدراسات أنّ الأطفال الذين يعيشون السنوات الخمس الأولى من حياتهم في حالة حرب، تنخفض درجات الصحة العقلية لديهم إلى نسبة 10% عندما يصبحون في عمر 60–80 سنة.
انخفض الناتج المحلي الإجمالي في أوكرانيا بنسبة 25%، ويعيش الآن 7.1 مليون أوكراني إضافي في فقر. وانخفض تصنيع الحديد والصلب من 1.5 مليون طن شهرياً قبل الحرب إلى 0.6 مليون طن شهرياً حالياً.
وتفتقر أوكرانيا بشدة إلى القوى العاملة للإنتاج أو المشاركة في الحرب. فقد بلغ معدل البطالة 16.8% في كانون الثاني 2025، وترك العمال المَهَرة البلاد، ومَن تبقّوا جُنِّدَ معظمهم في الجيش. ولا تزال أوكرانيا تعتمد كلياً على دعم غربيّ (ما لا يقل عن 40 مليار دولار سنوياً للخدمات الحكومية والسكان والإنتاج). وتعتمد على الاتحاد الأوروبي في تمويل الخدمات المدنية، وعلى الولايات المتحدة في تمويلها العسكري بالكامل، وهو ما يشكل «تقسيماً مباشراً للعمل». وعرض صندوق النقد والبنك الدوليِّيَن أموالاً مشروطة بأن تثبت أوكرانيا قدرتها على «الاستدامة» بمعنى القدرة على سداد القروض في وقت ما. ولذلك، إذا لم تتحقق القروض الثنائية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (قروض وليست مساعدات)، فلن يمدِّدَ صندوق النقد الدولي برنامجه الإقراضي.
وهذا يعيدنا إلى ما سيحدث لاقتصاد أوكرانيا إذا انتهت الحرب مع روسيا. فوفقاً لأحدث تقديرات البنك الدولي، ستحتاج أوكرانيا إلى 486 مليار دولار للسنوات العشر المقبلة للتعافي وإعادة الإعمار (بافتراض انتهاء الحرب هذا العام)، وهذا يعادل ثلاثة أضعاف ناتجها المحلي الإجمالي الحالي تقريباً. وقد بلغت الأضرار المباشرة الناجمة عن الحرب الآن قرابة 152 مليار دولار، مع تضرر أو تدمير نحو 2 مليون وحدة سكنية (%10 من إجمالي المساكن) وتدمير 8400 كيلومتر من الطرقات، ونحو 300 جسر.
بعض أرقام النَّهب الغربي لأوكرانيا
حتى الأراضي والموارد الأوكرانية التي بقيت تحت سيطرة كييف بيع جزء كبير منها لشركات غربية، فباتت 28% من الأراضي الصالحة للزراعة في أوكرانيا مملوكة الآن لمزيج من الطغمة الأوكرانيين والشركات الأوروبية والأمريكية الشمالية، وبعضها لصندوق الثروة السيادية للمملكة العربية السعودية. واستثمرت شركة نستله 46 مليون دولار في منشأة جديدة في منطقة فولين الغربية، وتخطط شركة باير الألمانية العملاقة للأدوية والمبيدات الحشرية لاستثمار 60 مليون يورو في إنتاج بذور الذرة في منطقة جيتومير الوسطى. أكبر شركة دواجن في أوكرانيا (وهي MHP) يملكها المستشار السابق للرئيس الأوكراني بوروشينكو، وقد تلقت هذه الشركة أكثر من خُمس إجمالي القروض من البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية في العامين الماضيين، وتوظف الشركة 28 ألف شخص وتسيطر على نحو 360 ألف هكتار من أراضي أوكرانيا (بمساحة أكبر من دُويلة لوكسمبورغ(.
والحكومة الأوكرانية ملتزمة «بالسوق الحرة» للاقتصاد في مرحلة ما بعد الحرب، ما يعني مزيداً من تحرير سوق العمل إلى ما دون الحد الأدنى من معايير العمل في الاتحاد الأوروبي، أي ظروف العمل الشاقة؛ وخفض الضرائب على الشركات إلى الحد الأقصى والخصخصة الكاملة للأصول الحكومية المتبقية.
هذه ليست سوى بعض المؤشرات على أن أصول أوكرانيا سيتم تقسيمها من قبل القوى الغربية. الشهر الماضي، وقّع زيلينسكي قانوناً جديداً يوسِّع خصخصة البنوك المملوكة للدولة في البلاد. يأتي ذلك في أعقاب إعلان الحكومة الأوكرانية في تموز الماضي عن برنامج «الخصخصة واسعة النطاق 2024» الهادف لجذب الاستثمار الأجنبي إلى البلاد وجمع الأموال للميزانية المتعثرة. وتشمل الأصول الكبيرة المقرَّر خصخصتها حالياً أكبر مؤسسة لإنتاج خام التيتانيوم في البلاد، والمنتِج الرائد للخرسانات ومصنعاً للتعدين. ولدى السلطات الأوكرانية تصوّر عن خصخصة ما يقرب من 3500 شركة مملوكة للدولة في قانون صدر عام 2018، وينص على أن الأجانب (شركات ومواطنين) يمكن أن يصبحوا مالكين. تتم الآن خصخصة مئات الشركات الأصغر حجماً، مما جلب إيرادات بلغت 9.6 مليار هريفنيا أوكرانيّة (181 مليون جنيه إسترليني) في العامين الماضيين. يتضمن هذا برنامجاً فرعياً مدته 7 سنوات يسمى SOERA لما يسمّى «إصلاح الشركات المملوكة للدولة» في أوكرانيا، بتمويل من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) وبالشراكة الثانوية مع وزارة الخارجية البريطانية.
ورأس المال البريطاني يسيل لعابه، فبحسب وثائق صادرة مؤخراً عن وزارة الخارجية البريطانية توفّر الحرب «فرصاً» لأوكرانيا لتنفيذ «بعض الإصلاحات المهمة للغاية». وأشار تقرير سابق عن المساعدات البريطانية لأوكرانيا إلى أن «المملكة المتحدة تأمل في جني الفوائد للشركات البريطانية من إعادة إعمار أوكرانيا».
وتتماشى هذه المخططات مع تجريد أوكرانيا من النقابات العمالية وأنظمة الضرائب التجارية الصارمة واللوائح التنظيمية وأي عقبات رئيسية أخرى تحول دون الاستثمارات المربحة لرأس المال الغربي المتحالف مع الطغمة الأوكرانية السابقة.
وتُقدِّر المصادر الأوكرانية تكلفة ترميم البنية الأساسية؛ تمويل المجهود الحربي وخسائر مخزون الإسكان والعقارات التجارية والتعويض عن الوفاة والإصابة وتكاليف إعادة التوطين ودعم الدخل وتعويض الدخل المفقود الحالي والمستقبلي، بأنها ستصل إلى تريليون دولار، أو ست سنوات من الناتج المحلي الإجمالي السنوي السابق لأوكرانيا (نحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي سنوياً أو 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي لمجموعة الدول السبع لمدة ست سنوات). وبحلول نهاية هذا العقد، حتى لو سارت إعادة الإعمار على ما يرام (وحتى بافتراض استعادة جميع موارد وأراضي أوكرانيا التي سيطرت عليها روسيا خلال الحرب، أيْ صناعة شرق أوكرانيا ومعادنها)، فإنّ الاقتصاد الأوكراني سيظلّ أقل بنسبة 15% من مستواه ما قبل الحرب.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1216