السوريون المثخنون بجراحهم يحتاجون أكثر من 1% بكثير!
بعد نحو 14 عاماً من انفجار الأزمة، يجد السوريون أنفسهم في مواجهة تحديات اقتصادية هائلة لا تقل ضراوة عن سنوات النزاع المسلح. حيث دُمرت النسبة الأكبر من البنى التحتية، وتعطّلت القطاعات الإنتاجية بفعل سياسات السلطة الساقطة، وتفاقمت معاناة الشعب السوري نتيجة الارتفاع الكارثي في نسب البطالة، وانهيار الليرة السورية، وتجريف البلاد عبر الهجرة الجماعية للكوادر والكفاءات. ومع انفتاح الأفق للحديث عن مرحلة التعافي وإعادة الإعمار، تأتي تصريحات رسمية تتوقع نمو الاقتصاد السوري بأكثر من 1% في عام 2025، وهي نسبة تبدو بعيدة كل البعد عن الطموحات، والأهم من ذلك أنها بعيدة عن النسبة الممكن تحقيقها اليوم موضوعياً.
تثير هذه النسبة المتواضعة تساؤلات جادة حول قدرة الاقتصاد السوري على النهوض فعلياً في مرحلة ما بعد الحرب، وخصوصاً إذا ما قورنت بتجارب دول خرجت من أزمات وحروب مدمرة، ونجحت في تحقيق قفزات نمو كبيرة خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً. فمن المعروف أن الاقتصاد في مثل هذه الظروف لا يمكن أن يكتفي بنسب نمو متواضعة، لأن الخسائر التي خلفتها الحرب لا تقتصر فقط على الأرقام أو المؤشرات الاقتصادية، بل تمتد إلى تدمير شامل للبنية التحتية والقطاعات الإنتاجية وسبل العيش الأساسية لملايين المواطنين. وفي ظل الحاجة الماسة لتعويض الخسائر وتلبية طموحات شعب أنهكه الصراع، فإن اقتصار النمو على نسبة ضئيلة لا يمثل سوى استمرار لحالة الجمود الاقتصادي، وربما تعميق للأزمة الاقتصادية الاجتماعية القائمة. تحتاج سورية اليوم إلى أكثر من مجرد نمو محدود أو إصلاحات جزئية، فهي تتطلب رؤية اقتصادية شاملة تستهدف إعادة بناء ما دمرته سنوات الحرب، وتحقق نهضة تعيد الحياة إلى القطاعات الحيوية.
أمثلة من التجارب التاريخية: لماذا 1 % نسبة معيبة لسورية؟
توقع وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية في حكومة تصريف الأعمال المؤقتة، باسل عبد الحنان، أن ينمو الاقتصاد السوري بنسبة تزيد عن 1% في عام 2025. تبدو هذه النسبة إيجابية لأول وهلة بالنظر إلى الظروف التي مرت بها سورية خلال السنوات الماضية، لكنها في واقع الأمر أقل بكثير مما يحتاجه بلد خرج من صراع استمر 14 عاماً.
إذا عدنا إلى التجارب الدولية، نجد أن الدول التي خرجت من الحروب والصراعات عادة ما تحقق معدلات نمو مرتفعة في السنوات الأولى من مرحلة إعادة الإعمار.
سجلت فيتنام، على سبيل المثال، بعد نهاية حربها الطويلة، معدلات نمو تجاوزت 6-8% سنوياً خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حيث تمكنت من تحويل اقتصادها المتضرر إلى واحد من أسرع الاقتصادات نمواً في آسيا.
وحققت البوسنة والهرسك، التي أنهت حربها الأهلية في عام 1995، نمواً اقتصادياً بمعدلات وصلت إلى 10% سنوياً خلال السنوات الخمس الأولى بعد انتهاء النزاع.
وعلى هذا النحو يمكن الحديث عن رواندا، التي عانت من إبادة جماعية في عام 1994، وبدأت بإعادة البناء وتحقيق المصالحة الوطنية، وحققت بين عامي 1995 و2000 معدلات نمو تجاوزت 7% سنوياً.
تؤكد هذه الأمثلة أن تحقيق معدلات نمو مرتفعة ليس مجرد أمر ممكن، بل هو ضرورة حتمية للدول التي تسعى إلى تجاوز تداعيات الأزمات الكبرى.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن ما جرى في سورية - من حيث حجم الخسائر الضرر- هو «أكبر أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية» وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، فإنها بحاجة إلى معدلات نمو اقتصادية تتجاوز ما حققته الدول الوارد ذكرها في الأمثلة السابقة.
المشكلة الأكبر في الحديث عن نسبة نمو 1% هي أنها تشكك عملياً بكل ما قالته حكومة تسيير الأعمال المؤقتة التي أكدت في تصريحاتها أنها قامت بخطوة جوهرية لتحرير الاقتصاد الوطني من قبضة نخب الفساد التي كانت تابعة للسلطة الساقطة، وهي خطوة تحمل في طياتها إمكانيات هائلة لدفع عجلة النمو الاقتصادي (هذا دون الحديث عن الجهود الإضافية التي يجب بذلها لرفع نسبة النمو). فهذا التحرير، في حد ذاته، يجب أن ينعكس بشكل مباشر على نسب النمو المتوقعة، ولا سيما إذا نظرنا إلى الحجم الهائل للفاقد الوطني نتيجة النهب الممنهج. (تشير دراسات قاسيون إلى أن الفساد المستشري في السبعينيات، والذي كان يلتهم نحو 30% من الدخل الوطني، أخذ بالتفاقم بشكل كبير مع مرور الوقت حتى بلغ مستويات كارثية قُدرت بنحو 60-70% من الدخل الوطني في السنوات الأخيرة قبل سقوط السلطة). وتحرير الاقتصاد من هذه الهيمنة يعني وقف هذا النزيف الكبير، وبالتالي استعادة الموارد الوطنية التي كانت تُهدر لصالح نخبة فاسدة. إذا توقف هذا الفاقد وحده، فإن الناتج الوطني المتبقي سيكون كافياً لتحقيق نسب نمو تتجاوز بكثير «التوقعات» التي أعلن عنها الوزير.
هل يمكن حل مشكلة النمو دون حل مشكلة النهب؟
يواجه طموح السوريين بنسب نمو معقولة عائقاً جوهرياً يتمثل في النهب الممنهج للموارد الاقتصادية، الذي كان ولا يزال سبباً رئيسياً في تدني معدلات النمو لعقود. ولا يمكن الحديث عن أي حل مستدام لمشكلة النمو دون حل جذري لهذه الظاهرة، إذ يشكل النهب العقبة الكبرى أمام تحقيق تراكم استثماري فعال، وتحسين عائدية رأس المال، ورفع معدلات التوظيف والإنتاجية.
النمو والنهب نقيضان لا يمكن أن يجتمعا. يتطلب النمو الاقتصادي، الذي يُقاس بتطور الدخل الوطني وزيادة الإنتاجية، استثمارات فعالة. لكن النهب يعمل على عرقلة هذه العملية من خلال استنزاف الموارد التي يمكن أن تُخصص لتحفيز الاستثمار وزيادة الإنتاج. ربما لا يعلم كثيرون أن عائدية رؤوس الأموال الموظفة في الاقتصاد السوري كانت لا تتجاوز في كثير من الأحيان عتبة 20%، أي أن كل خمس ليرات تُستثمر في الاقتصاد السوري لا تُنتج أكثر من ليرة واحدة كعائد، بسبب النهب وضعف كفاءة رأس المال.
وفوق ذلك، يساهم النهب في تعميق الخلل في توزيع الدخل الوطني. حيث أظهرت إفصاحات السلطة الساقطة في السنة الأخيرة من عمرها 2024 أن حصة أصحاب الأجور في سورية لا تتجاوز 9.2% من الناتج الإجمالي بينما تصل حصة أصحاب الأرباح إلى 90.8%. لا تؤدي هذه الفجوة إلى تفاقم الفقر فقط، بل وتُضعف أيضاً الطلب المحلي، مما يحدّ من إمكانيات النمو الاقتصادي على المدى الطويل.
إذا كانت سورية تطمح إلى تحقيق معدلات نمو معقولة، فلا بد من اتخاذ خطوات حاسمة للقضاء على النهب. حيث يجب أن تكون الأولوية لإعادة بناء نظام اقتصادي قائم على العدالة الاجتماعية، تُخصص الموارد فيه لتلبية احتياجات الناس لا الاستحواذ عليها من نخبة ضيقة.
رفع عائدية رأس المال ومعدلات التراكم الوطني هما الشرطان الأساسيان لتعزيز الإنتاجية ورفع نسب النمو. ولكن هذه الأهداف ستظل بعيدة المنال إذا لم يتم كبح النهب الذي يستنزف الموارد ويحول دون استخدامها بفعالية.
وبناءً عليه، نكرر ما قلناه على صفحات هذه الجريدة مراراً من أن حل مشكلة النمو في سورية ليس مجرد قضية اقتصادية، بل هو معركة سياسية واجتماعية بالدرجة الأولى تتطلب إرادة حقيقية وتعبئة شعبية واسعة لفرض الاتجاه المطلوب.
العائدية هي كلمة السر... فكيف نرفعها؟
كلمة السر لتحقيق نمو اقتصادي مستدام في سورية هي العائدية، التي تعكس قدرة الاستثمارات على تحقيق عوائد كبيرة تتجاوز تكلفتها وتدفع عجلة التنمية. وكان تدني نسب العائدية في سورية يمثل العقبة الأبرز أمام تحقيق النمو كما أسلفنا سابقاً. لكن رفع هذه العائدية إلى مستويات أعلى بكثير، قد تصل إلى 100% أو أكثر، ليس أمراً مستحيلاً إذا ما تم التركيز على استثمارات تستند إلى الميزات المطلقة التي تتميز بها سورية، بدلاً من مجرد الاعتماد على الميزات النسبية التقليدية التي أصبحت غير كافية.
الميزات النسبية، مثل المواد الخام كالنفط والقمح والقطن، تعتمد على توافر الموارد الطبيعية، لكنها تتعرض لمنافسة شرسة في الأسواق الدولية، ما يُبقي هوامش الربح محدودة للغاية. وقام النموذج الاقتصادي السوري بشكل أساسي على هذه الميزات، حيث ركز على تصدير المواد الخام بدلاً من تصنيعها، مما أدى إلى ضعف العائدية وفقدان الفرص لتحقيق قيمة مضافة عالية محلياً.
على النقيض، فإن الميزات المطلقة هي تلك الموارد أو المنتجات التي تنفرد بها سورية نتيجة ظروف جغرافية أو طبيعية خاصة، مثل بعض المنتجات الزراعية الخاصة بسورية والنباتات الطبية النادرة والأحجار الطبيعية... وغيرها. ويمكن لهذه الموارد أن تحقق عوائد ضخمة إذا تم استغلالها بشكل صحيح، عبر إنشاء صناعات محلية تحولها إلى منتجات ذات قيمة مضافة عالية تُنافس في الأسواق العالمية بأسعار مميزة. فبدلاً من تصدير المواد السورية كمنتج خام، يمكن تحويلها إلى منتجات نهائية تُباع بأضعاف السعر، مما يعزز العائدية ويوفر فرص عمل محلية.
تتطلب الاستفادة من الميزات المطلقة تجاوز الوضع الاقتصادي الحالي وبناء نظام اقتصادي عادل يضمن توزيع الموارد بما يخدم مصلحة الشعب السوري. فالنهب المنظم الذي استنزف الموارد الوطنية لعقود كان العقبة الرئيسية أمام تحقيق التراكم الاستثماري الضروري للنمو.
اقتصاد قائم على استثمار الميزات المطلقة إلى الحد الأقصى محلياً لا يحقق فقط عائدية عالية، بل يعزز السيادة الاقتصادية لسورية ويقلل التبعية للخارج. بدلاً من استنساخ نماذج اقتصادية تعتمد على تصدير المواد الخام، تحتاج سورية إلى استراتيجية تقوم على تطوير الصناعات المرتبطة بميزاتها الفريدة. وهذه الرؤية ليست مجرد خيار اقتصادي، بل هي ضرورة وطنية تمثل الحل الأمثل لتحقيق الاستقرار والنمو.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1211