هل يعيش السوري بـ120 دولاراً؟ أسئلة عن الأجور والكرامة
شهدت السياسات العامة في سورية تحت حكم حافظ الأسد ومن بعده بشار الأسد تحولاً تدريجياً نحو تفكيك منظومة الدعم الاجتماعي التي كانت تُعتبر إحدى الركائز الأساسية للاستقرار النسبي للدولة في العقود السابقة. لم يكن هذا التحول فجائياً أو معلناً بوضوح، بل اتبع أساليباً احتيالية اعتمدت على تقليص الدعم بصورة تدريجية بطرق مباشرة وغير مباشرة: ابتداءً من تقليص مبالغ الدعم التي كانت تُدرَج في موازنات الدولة، إلى تضاؤل الإنفاق الفعلي على بنود الدعم الاجتماعي، وصولاً إلى الإلغاء الكامل للدعم عن بعض السلع والمواد الأساسية، إما بوقف توزيعها عبر «البطاقة الذكية» سيئة الذكر، أو بإعلانات رسمية عن انتهاء دعمها مثلما حدث مع البنزين.
بعد سقوط السلطة السابقة، استبشر السوريون خيراً بمستقبل يحمل فرصاً جديدة لتحقيق العيش الكريم الذي لطالما حُرموا منه سابقاً. وفي خضم هذا التفاؤل، برزت تصريحات وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال المؤقتة، باسل عبد الحنان، كجزء من النقاش العام حول الرؤية المستقبلية للاقتصاد السوري. حيث أكد الوزير، خلال حواره مع قناة «CNBC» عربية يوم الثلاثاء 14 كانون الأول 2025، أن مبلغ 120 دولاراً شهرياً هو «الحد الأدنى الذي يُمكن أن يوفّر حياة كريمة للمواطن السوري»، مشيراً إلى أن «رفع الدعم كاملاً سيكون مرتبطاً بزيادة الدخل، وسيجري تنفيذه تدريجياً».
تفتح هذه التصريحات تفتح الباب أمام نقاش جدي ومُلِحّ حول مدى واقعية هذا الرقم كمعيار للحياة الكريمة في ظل الظروف الاقتصادية الاجتماعية الراهنة. فهل يُمكن اعتبار هذا المبلغ كافياً لتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطن السوري؟ وهل يُعدّ الوصول إليه حداً فاصلاً يمكن بعده إنهاء الدعم عن السلع والخدمات بشكلٍ كامل؟
قصة الدعم الحكومي في سورية: كيف بدأ ولماذا؟
أول ما يلفت النظر في تاريخ سياسات الدعم في سورية هو جذورها العميقة التي تمتد إلى مرحلة ما بعد الاستقلال في أربعينيات القرن الماضي، حيث كانت البلاد آنذاك تواجه تحديات بناء دولة حديثة وسط ظروف اقتصادية اجتماعية صعبة.
وكان الدعم في جوهره آنذاك استجابة مباشرة لحقيقة أن الأجور التي تدفعها الدولة لم تكن كافية لتأمين مستوى معيشي يليق بالمواطن السوري، الذي ظلّ يعاني من فجوة متزايدة بين دخل الأسرة وتكاليف الحياة الضرورية. وشهدت سياسات الدعم الاجتماعي توسعاً ملحوظاً خلال أواخر خمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي، حيث بدأت الدولة تعتمد على آليات دعم منظمة استهدفت السلع والخدمات الأساسية، مثل الخبز والسكر والوقود، إلى جانب خدمات حيوية كالتعليم والصحة، التي قُدمت بالمجان أو بأسعار مدعومة بشكل كبير.
ينسى البعض منا اليوم أن الهدف الأساسي من هذه السياسات كان أعمق من مجرد تأمين الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة، بل كان يسعى إلى تحقيق مستوى معيشي ضروري يضمن الكرامة والاستقرار الاجتماعي.
على سبيل المثال، تشير الإحصاءات إلى أن وسطي إيجار شقة صغيرة في العاصمة دمشق آنذاك كان يتراوح بين 20% و38% من الحد الأدنى الرسمي للأجور، وهو وضع يشير إلى أن السياسات الاقتصادية والدعم الحكومي كانا قادرين على تقليل الضغط الاقتصادي على المواطنين وتوفير بيئة معيشية معقولة. كما أن توفير السلع الأساسية بأسعار مدعومة ضمن إطار منظومة اقتصادية موجهة أسهم في تخفيف الأعباء عن الأسر السورية وجعل الحياة اليومية أقل كلفة مقارنة بدخلهم.
لكن ما يثير القلق اليوم هو الانحراف الحاد عن هذا النموذج، الانحراف الذي بدأ في منتصف الستينيات وشهد تسارعات شديدة منذ بداية الألفية الجديدة، حيث أصبحت التكاليف الأساسية للحياة بعيدة تماماً عن متناول شريحة واسعة من الشعب السوري. على سبيل المثال، لم يعد إيجار شقة صغيرة في العشوائيات، وليس في مناطق العاصمة النظامية، ضمن إطار قدرة معظم الأسر، حيث يتجاوز الإيجار اليوم ضعفي أو حتى ثلاثة أضعاف الحد الأدنى للأجور في أحسن الأحوال.
ما ينبغي لفت الانتباه إليه هنا هو أن هذا التدهور يعكس تغيّراً بنيوياً في دور الدولة ووظائفها. ففي حين كان الدعم الاجتماعي سابقاً جزءاً من التزام الدولة بالحماية الاجتماعية وضمان الحد الأدنى من الاستقرار الاقتصادي، فإن النهج الذي اتبعته السلطات لاحقاً ارتكز على تقليص هذا الدعم تدريجياً، مما أدى إلى تحميل المواطن وحده العبء الأكبر لتكاليف المعيشة المتزايدة.
فهم تاريخ الدعم في سورية يوضح لنا أن هذه السياسات لم تكن مجرد أداة اقتصادية، بل كانت تعبيراً عن علاقة محددة بين الدولة والمجتمع، علاقة اهتزت مع مرور الوقت بسبب تغير الأولويات والسياسات، تاركةً المواطن أمام واقع أكثر قسوة وتعقيداً.
هل تكفي الـ120 دولاراً لتأمين «الحياة الكريمة»؟
لا شك أن أي زيادة في دخل العاملين المنتجين في سورية تُعد خطوة إيجابية، لكنها مشروطة باحتفاظ هذه الزيادة بقيمتها الحقيقية، أي بما تستطيع أن تشتريه من خدمات وسلع في السوق. في هذا السياق، يبرز التساؤل حول الأساس الذي استند إليه وزير الاقتصاد لتحديد مبلغ 120 دولاراً كحد للحياة الكريمة.
إذا انطلقنا من حسابات واقعية، يمكننا استحضار تقديرات «قاسيون» لتكاليف المعيشة في سورية في بداية العام الجاري التي أثبتت أن الحد الأدنى المطلوب لتغطية تكاليف المعيشة الأساسية (الحد الأدنى للتكاليف وليس الوسطي) بلغ 9 ملايين ليرة سورية شهرياً. وباحتساب سعر الصرف الحالي، فإن هذا الرقم يعادل نحو 782 دولاراً، ما يعني أن المبلغ الذي حدده الوزير (120 دولاراً) أقل بنسبة تصل إلى 551% من هذا الحد الأدنى.
ولا يجب أن ننسى أن الحديث عن الحد الأدنى لتكاليف المعيشة لا يعني أن الهدف المطلوب هو رفع الأجور لتغطيته وحسب، بل المطلوب هو بناء سلم أجور عادل يضمن حياة كريمة لجميع الفئات. فالحد الأدنى الذي نتحدث عنه هو معيار لقياس مستويات المعيشة، وليس مجرد رقم يعبر عن الحد الأدنى للأجور. وبالتالي، فإن الوصول إلى مستوى معيشي كريم للمواطنين يجب أن يكون رؤية شاملة تتجاوز مجرد تأمين الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة، لتشمل توفير خدمات صحية وتعليمية جيدة، وضمان سكن ملائم، وفرص عمل مستقرة بأجور تكفل العيش الكريم.
تُظهر الفجوة بين الواقع الذي تعكسه أرقام تكاليف المعيشة وبين «الطموحات» التي يعبر عنها تحديد الوزير مبلغ 120 دولاراً شهرياً كمقياس للحياة الكريمة التحديات الكبرى التي تواجه السوريين في صياغة نظامهم الاقتصادي القادم. فلا يمكن اختزال مسألة الحياة الكريمة في رقمٍ يتجاهل المتغيرات الاقتصادية الاجتماعية والواقع المعاش الذي يثقل كاهل المواطن السوري يومياً.
كيف يجب أن ترتفع الأجور في سورية؟
أي زيادة حقيقية في الأجور لا يمكن أن تكون مجرد إجراء رقمي، بل عملية تتطلب معالجة جذرية للخلل البنيوي في الاقتصاد السوري. ولتحقيق زيادة حقيقية وفعالة في الأجور، يجب النظر إلى ثلاثة عوامل أساسية تضمن أن تكون هذه الزيادات فعلية غير وهمية وذات أثر إيجابي على حياة السوريين:
أولاً: ربط الأجور بالأسعار، حيث لا يمكن تقييم أي زيادة في الأجور بمعزل عن قدرتها الشرائية في السوق. الأجر الذي لا يغطي احتياجات المعيشة الأساسية ليس أجراً، حتى لو وصلت قيمته الرقمية إلى مليار. لذلك، يجب أن يكون الحد الأدنى للأجور مرتبطاً بتكاليف المعيشة الحقيقية وفق حسابات دقيقة تشمل الغذاء، والسكن، والنقل، والصحة، والتعليم، والاتصالات، والاحتياجات الأخرى الضرورية جميعها. ولا يجب أن يهدف هذا الربط إلى تغطية الحد الأدنى لتكاليف المعيشة فقط، بل إلى توفير مستوى معيشي كريم يضمن للمواطن حياة تتجاوز حد الكفاف.
ثانياً: ربط الأجور بتغيرات الأسعار بشكل دوري، فحتى إذا تم ربط الأجور بتكاليف المعيشة، فإن تأثير هذا الربط سيزول إذا تُركت الأسعار لترتفع بلا ضوابط، مما يؤدي إلى تآكل القيمة الحقيقية للأجور. لذلك، يجب أن يتضمن أي نظام للأجور آلية واضحة وشفافة لتحديث الأجور بشكل دوري يتماشى مع التغيرات في تكاليف المعيشة (شهرياً، أو ربع سنوي، أو سنوياً). وهذه ليست منّة من الدولة أو أرباب العمل، بل يجب أن تكون حقاً أصيلاً للمنتجين السوريين يضمن استقرار قدرتهم الشرائية في مواجهة تقلبات السوق.
ثالثاً: أي زيادة في الأجور تصبح غير مجدية إذا كان تمويلها يعتمد على تحميل المواطنين أعباء إضافية، كما يحدث عند إلغاء الدعم أو رفع الضرائب بطريقة غير عادلة. يجب أن يأتي التمويل الحقيقي لزيادة الأجور من مصادر اقتصادية مستدامة وغير تضخمية، أهمها:
- تعزيز الإنتاج الوطني، عبر رفع كفاءة القطاعات الإنتاجية الحقيقية كالزراعة والصناعة، مما يساهم في زيادة الإيرادات الحكومية من مصادر حقيقية وليس عبر الاستدانة والمساعدات الخارجية أو التضييق على المواطنين.
- استهداف كبار الناهبين للثروات الوطنية الذين يستحوذون على النصيب الأكبر من موارد البلاد، بينما يعاني 90% من السكان من التهميش الاقتصادي. اجتثاث الفساد الكبير بشكل فعلي يمكن أن يحرر موارد ضخمة لدعم الأجور وتحقيق العدالة على الصعيد الاقتصادي.
- فرض ضرائب تصاعدية عادلة تستهدف الثروات الكبيرة والأرباح غير المنتجة، بدلاً من تحميل العمال والمنتجين عبء الضرائب غير المباشرة.
رفع الأجور ليس مسألة تقنية تتعلق بأرقام أو نسب مئوية، بل ينبغي أن ينظر إليه بوصفه أحد أدوات إعادة توزيع الثروة وتصحيح الخلل في بنية الاقتصاد السوري. والنجاح في هذا المشروع يتطلب رؤية متكاملة تستهدف زيادة الإنتاج، وضبط الأسعار، ومكافحة الفساد، بما يضمن أن تكون زيادة الأجور جزءاً من عملية أوسع لتحقيق التغيير الحقيقي في البلاد بعد كل ما دفعه شعبها من أثمان.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1210