تكنولوجيا القرن الواحد والعشرين.. ورد الاعتبار للاقتصاد الاشتراكي
تخوض كل من الصين والولايات المتحدة صراعاً شديداً في المجال التكنولوجي، إلى حدٍّ يمكن وصف ما يجري بالحرب التكنولوجية التي تنعكس في تفاصيلها عملية التبدل الجاري في الأوزان الدولية، حيث ينخفض وزن الولايات المتحدة الأمريكية والدول الدائرة في فلكها، ويرتفع وزن الصين وروسيا وعدد كبير من الدول التي تنشأ تكتلات جديدة بعيدة عن العالم الغربي.
عبّر عضوا مجلس الشيوخ الأمريكي السابقان، ساكسبي شامبليس وكينت كونراد (وهما الرئيسان المشاركان للمجلس الاستشاري الاقتصادي لمشروع American Edge)، عن تقييمهما لسباق التكنولوجيا القائم بين الولايات المتحدة والصين، وخرجا باستنتاجات صريحة تكشف عمق الأزمة والقلق اتجاه مستقبل الولايات المتحدة في هذا الميدان. وعلى هذا النحو، أصدر معهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي (ASPI) في آذار الماضي 2023 تقريراً ملفتاً يفيد بأن الصين تتقدّم على الولايات المتحدة في البحث والتطوير لـ37 من أصل 44 تقنية فائقة الأهمية أو ناشئة في قطاعات رئيسية مثل الدفاع والفضاء والذكاء الاصطناعي والطاقة والبيئة والتكنولوجيا الحيوية والمواد الفائقة والروبوتات والحوسبة الكمومية.
وتقدّم هذه النتائج - التي جاءت نتيجة دراسة استمرت عاماً وفحص فيها معهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي حوالي 2.2 مليون من البيانات الخام- واحدة من أوضح الأمثلة حتى الآن على جهود الصين لتعزيز نفسها كرقم واحد عالمياً في العلوم والتكنولوجيا. ويأتي ذلك بالتوازي مع سلسلة من الدراسات الحديثة التي نشرت على مدى السنوات القليلة الماضية والتي توثق تقدم الصين في الابتكار التكنولوجي والبحث والتطوير.
ما كانت تخشاه الولايات المتحدة تحول إلى حقيقة!
حذر مركز بلفاست في جامعة هارفارد في شهر كانون الأول من عام 2021 من أن الصين تتقدّم على الولايات المتحدة في تصنيع التكنولوجيا الفائقة وتقنيات الـ5G، وأنه يمكن أن تتفوق قريباً على الولايات المتحدة في مجال الحوسبة الكمومية.
ووجدت دراسة أجرتها لجنة الأمن القومي حول الذكاء الاصطناعي أن الصين تستعدّ لتجاوز الولايات المتحدة كرقم واحد عالمياً في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030. وفي وقت سابق من عام 2023، نشرت مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار (ITIF) تقريراً يفيد بأن الصين قد تجاوزت الآن الولايات المتحدة في الابتكار الكلي، وأثبتت نفسها بالفعل كرقم واحد عالمياً في اعتماد التقنيات المتطورة الرئيسية.
على هذه الأرضية، ترسم الحقائق الأكاديمية، إلى جانب الشهادات المتكررة من قادة الصناعة وكبار المسؤولين والقادة العسكريين، صورة واضحة ومزعجة لواشنطن: تهزم الصين الولايات المتحدة في السباق الجاري لتطوير تقنيات تحويلية للمستقبل. وهذه التقنيات التي تنتمي للجيل التالي (مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية والتكنولوجيا الحيوية) ستغير - بشكل جذري- كل جانب من جوانب الحياة تقريباً. وأياً كانت الدولة التي تطورها أولاً فسوف تتمتع بمزايا اقتصادية وجيوسياسية غير مسبوقة لعقودٍ قادمة.
وخلص مؤلفو الدراسة إلى أنه «إذا نجحت الصين في الفوز بسباق التكنولوجيا، فسوف تستحوذ على تريليونات الدولارات من القيم الاقتصادية، وتدفع العالم للاعتماد التكنولوجيا وسلاسل التوريد الخاصة بها بشكلٍ أكبر، وستوفّر ميزات عسكرية حاسمة من شأنها أن تقوض الأمن القومي للولايات المتحدة وحلفائها».
لهذا السبب، لم يجد المؤلفون ما يقترحونه سوى أنه من الأهمية بمكان أن يركز المشرعون على سنّ سياسات تعزز الابتكار وتمنح العقول الأمريكية في القطاعين العام والخاص ما يريدونه لزيادة الاختراقات في هذا المجال: «يجب أن تكون التقارير الأخيرة الصادرة عن معهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي، وغيره من المؤسسات المحترمة، بمثابة دعوة للاستيقاظ. لأكثر من ثمانين عاماً، كانت الولايات المتحدة رائدة العالم الوحيدة في التطوير التكنولوجي والابتكار. لكن هذه البطولة مهددة الآن من خصم مصمِّم لديه الموارد والإرادة لتجاوزنا».
واشنطن العاجزة تتذرع بالخصوصية لإيقاف السباق
كتب الرئيس السابق لفرع آسيا في بنك «مورغان ستانلي» الاستثماري الأمريكي، ستيفن سي روتش، في مقال نشره موقع «بروجيكت سنديكيت» بعنوان «فخ التكنولوجيا الصيني الأمريكي» أن «الحرب التكنولوجية الدائرة الآن بين القوتين العظميين يمكن أن تحدِّد بشكل جديد صراع القرن الواحد والعشرين. ففي حين تستمرّ الصين في لعب اللعبة على الصعيد طويل الأجل، فإن الهجوم التكتيكي الأميركي على صناعة التكنولوجيا في الصين يهدف إلى تحقيق ميزات قصيرة الأجل. إن التكنولوجيا هي مركز الصراع بين الولايات المتحدة والصين، وبالنسبة للهيمنة الأمريكية، يتعلق الأمر بالحفاظ على القوة الجيوستراتيجية ووسائل الازدهار المستدام. أما بالنسبة للصين، فإن هذا هو المفتاح إلى الإبداع المحلي اللازم لقوة صاعدة».
في هذا الميدان، سرعان ما أصبحت شركة هواوي Huawei أكبر تهديد للبنية التحتية للاتصالات في الولايات المتحدة، حيث تحولت - وفقاً للتعبيرات الأمريكية - إلى حصان طروادة الحديث في الولايات المتحدة مع تهديد متزايد حول تقنيات 5G ذات المستوى العالمي.
والمسألة الخلافية الحقيقية هي المفهوم الغامض لـ«دمج التكنولوجيا»، ولا سيما الاستخدام المزدوج للتكنولوجيا المتقدمة للأغراض التجارية العسكرية والمدنية. السلطات الأمريكية مقتنعة بأنه لا يوجد مثل هذا التمييز في الصين. ومن وجهة النظر الأمريكية، تمتلك الصين، وبالتالي جيشها، كل ما يقع في نطاق قطاع التكنولوجيا، من الأجهزة والبرامج إلى البيانات الضخمة ومراقبتها في الداخل والخارج بما في ذلك منصة TikTok الاجتماعية، التي لديها الآن أكثر من 80 مليون مستخدم شهرياً في الولايات المتحدة. المضحك أن هذا يجري وكأن الولايات المتحدة حريصة على خصوصية المستخدمين، متجاهلة أنه على مر السنين، أنتجت وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة العديد من أهم التطورات التكنولوجية في الولايات المتحدة والتي لها تطبيقات تجارية واسعة النطاق. وتشمل هذه الإنترنت كله بحد ذاته، ونظام تحديد المواقع العالمي GPS، واختراقات أشباه الموصلات، والطاقة النووية، وتكنولوجيا التصوير، والعديد من الابتكارات الصيدلانية مثل تطوير لقاح COVID-19.
والتهديد المفترض من هواوي هو غيض من فيض في صراع التكنولوجيا الأمريكية مع الصين. حيث تم توسيع ما يسمى بقائمة الكيانات التي تستخدمها وزارة التجارة الأمريكية لإدراج الشركات الأجنبية في القائمة السوداء لأغراض الأمن القومي، لتشمل سلسلة توريد Huawei، بالإضافة إلى عدد من شركات التكنولوجيا الصينية.
تبدل في موازين الإنفاق على التكنولوجيا والابتكار
في الوقت نفسه، ومع إقرار قانون الرقائق والعلوم لعام 2022، لجأت الولايات المتحدة بشكل فعال إلى التدخل الحكومي لدعم الابتكار التكنولوجي. وفي تشرين الأول 2022، قامت بالخطوة الأخطر والأكبر، حيث فرضت إدارة بايدن قيوداً صارمة على تصدير رقائق أشباه الموصلات المتقدمة، سعياً إلى خنق جهود الصين الناشئة في الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية.
لكن سياسة الولايات المتحدة الصارمة هذه محكوم عليها بالفشل لأن حربها التكنولوجية مع الصين مليئة بالتكتيكات والاستراتيجية قصيرة الأمد مقابل التخطيط الصيني طويل الأمد. المفارقة هنا أنه في حين استجابت الولايات المتحدة بقوة للتهديدات التكنولوجية السابقة من الاتحاد السوفيتي خلال حقبة الحرب الباردة، وخاصة سباق التسلح النووي والتحدي الفضائي الذي شكله إطلاق سبوتنيك، فقد تخلت منذ ذلك الحين عن هذا التقدم: انخفض البحث والتطوير الممول فيدرالياً إلى 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، أي أقل بكثير من الذروة البالغة 1.9% في عام 1964.
فوق ذلك لم تستثمر الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة استثماراً كافياً في البحوث والعلوم الأساسية التي تشكل بذرة الإبداع. في عام 2021، انخفضت حصة البحوث الأساسية في إجمالي الإنفاق على البحث والتطوير إلى 14.9%، أي أقل بكثير من الذروة البالغة 18.8% في عام 2010. والجهود الأخيرة لا تحدث فرقاً يذكر، على سبيل المثال، فإن 21% فقط من التمويل بموجب قانون Chip مخصص للبحث والتطوير.
لهذا، لا عجب أن الصين تتحرك وتتفوق. ففي مطلع القرن، كانت تنفق 0.9% فقط من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير، أو ما يقارب ثلث حصة الولايات المتحدة البالغة 2.6%. وبحلول عام 2019 (العام الأخير للأرقام المنشورة)، كانت الصين تنفق 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي على البحث والتطوير، أي 71% من حصة الولايات المتحدة البالغة 3.1%. هذا فضلاً عن أن الولايات المتحدة تتخلف في تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، في حين تنتج الصين حالياً عدداً أكبر بكثير من شهادات الدكتوراه في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات مقارنة بالولايات المتحدة.
إن جزءاً من افتقار الولايات المتحدة إلى الركائز الأساسية للقيادة التكنولوجية - سواء في مجال البحث والتطوير أو رأس المال البشري - هو نتيجة لنفس الأزمة التي أدت إلى العجز التجاري المزمن في الولايات المتحدة، حيث ميل الولايات المتحدة إلى إلقاء اللوم على الصين عن مشاكلها الخاصة هو مجرد ذريعة.
في الوقت نفسه، يشير روتش إلى أن نهج الصين المتين لا يخلو أيضاً من بعض نقاط الضعف، خاصة فيما يتعلق الذكاء الاصطناعي: في حين أن استحواذ الصين على البيانات الضخمة توفر مزايا كبيرة لتطبيقات التعلم الآلي، فإن تقدمها في هذا المجال سوف مهدد بالتباطؤ إن لم تحدث زيادة مطردة في قوة الحوسبة. وفي هذا الصدد، فإن الهجوم التكتيكي الأميركي على الرقائق المتقدمة التي تشغّل قوة الحوسبة للذكاء الاصطناعي في الصين يستهدف على وجه التحديد هذه الحلقة الضعيفة في سلسلة الابتكار في الصين. والأخيرة تفهم ذلك جيداً وتبحث بالفعل عن سبل التصدي له.
حتى لو توقف الصينيون.. لن تستطيع الولايات المتحدة اللحاق
خوفاً من أن تتفوق الصين على الولايات المتحدة في الذكاء الاصطناعي، يطالب بعض الخبراء الغربيين بفرض توقف مؤقت معتمد من قادة التكنولوجيا على أنظمة الذكاء الاصطناعي «الخارجة عن السيطرة».
في رسالة مفتوحة، دعا المئات من قادة التكنولوجيا والأساتذة والباحثين، بما في ذلك إيلون ماسك، إلى «توقف فوري لمدة ستة أشهر على الأقل» في تطوير جميع أنظمة الذكاء الاصطناعي، وحذروا من أن التطور السريع لأنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة يطرح عدداً من التحديات الأمنية، بما في ذلك الصعوبات التي يمكن أن يواجهها المبدعون عندما يتعلق الأمر بفهم هذه «العقول الرقمية» الجديدة والتنبؤ بها. لكن الرسالة أثارت ردود فعل متباينة، حيث جادل البعض بأن تعليق الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي الأمريكي لا يعني أن الصين ستفعل الشيء ذاته، وهذا يمنح الصين ميزة تنافسية في هذا المجال.
في هذا الصدد، قال كبير باحثي الدفاع الدولي في مؤسسة راند، تيموثي هيث: «الصين هي المنافس الأكثر شراسة لأمريكا في مجال الذكاء الاصطناعي.. وما يجعلها مشكلة بالنسبة للولايات المتحدة هو أن لديها موارد ضخمة للذكاء الاصطناعي ولديها مجموعة مختلفة من القيم. وهذا يعني أن الصين قد تكون مستعدة لاستخدام الذكاء الاصطناعي بطرق تهدد المصالح الأمريكية».
رغم أن الصين رائدة عالمياً في أبحاث الذكاء الاصطناعي، فإن استجابتها لـChat GPT-4 الجديد وOpenAI (المحولات التوليدية المدربة مسبقاً)، تسببت في خيبة أمل المستثمرين الغربيين. في هذا الصدد، قال نائب رئيس ومدير الأبحاث في مركز التقنيات الناشئة، بول شاريت، إنه «في الوقت الحالي، تتخلف شركات التكنولوجيا الكبرى في الصين عن شركات التكنولوجيا الأمريكية في إنشاء وتنفيذ نماذج لغوية كبيرة، لكنها بالتأكيد تعمل بجد على ذلك».
وأثارت المخاوف التي أحدثتها برامج مثل GPT-4 نداءات مماثلة لتلك الواردة في الرسالة المفتوحة المذكورة سابقاً. في حين أن الكثيرين في هذا المجال يعترفون بأن وقف البحث والتطوير لصالح البروتوكولات الأمنية في الولايات المتحدة أمر مهم، فإن «الصين لن تبطئ تطوير الذكاء الاصطناعي في المجال التجاري أو العسكري».
أعرب الأستاذ في كلية برات للهندسة بجامعة ديوك، سلطان ميجي، لوكالة «نيوزويك» الأمريكية، أن من شأن التوقف المتعمد في تطوير الذكاء الاصطناعي الأمريكية أن يمنح الصين ميزة مطلقة: «إنهم يستثمرون مبالغ ضخمة من المال في الذكاء الاصطناعي ونحن نكافح بالفعل لمواكبة ذلك قدر ما نستطيع.. هذه واحدة من أكبر السباقات في مجال التكنولوجيا في الوقت الحالي ونحن بحاجة إلى تسريع استثماراتنا في الذكاء الاصطناعي».
جذور التطور التكنولوجي.. ودور ثورة ماو تسي تونغ
كانت هناك تغييرات كبيرة في العلوم الصينية خلال فترة حكم القائد الشيوعي، ماو تسي تونغ. يذكر الباحث جوزيف نيدهام، في كتابه «العلم والحضارة في الصين»، أن ماو قدّم دعماً حكومياً كبيراً هو الأول من نوعه لتطوير العلوم الأساسية والتطبيقية. حيث رسّخ برنامج «العلوم الشعبية» الذي أطلقه ماو النزعة نحو العلم لدى عامة الناس في محاولة لتحسين الإنتاجية والأمن القومي. والبرنامج - كما يشرح الكاتب ماسون جي- «حاول إشراك كل فرد في عملية التطور العلمي، مع التأكيد على الحاجة إلى فضح الأسطورة القائلة بأن العلم هو فقط للنخبة».
أدى نهج ماو إلى عدد من الإنجازات الرئيسية. ويتجلى ذلك في تطوير برامج الصين الصاروخية والنووية والأقمار الصناعية. حيث أجرت جمهورية الصين الشعبية أول تجربة نووية لها في عام 1964. وأطلقت البلاد أول قمر صناعي لها «كراسني فوستوك» في عام 1970. وثمة مجال آخر تطور بسرعة هو البحث الطبي والرعاية الصحية. وكل ذلك بفضل عملية «تعميم العلوم وشعبنتها» التي فعلتها الماوية في الصين.
وفي المؤتمر الـ19 للحزب الشيوعي الصيني في تشرين الأول 2017، أكد إنه يريد أن تصبح الصين «أرض المبتكرين». لاحقاً، في أيار 2018 ، قدّم الرئيس الصيني، شي جين بينغ، اقتراحاً طموحاً لقادة المجتمع العلمي في البلاد. وحثهم على «السعي لتجاوز تخوم العلوم والتكنولوجيا» وأن يصبحوا «طليعة الابتكار في عصر جديد». ووفقاً له، كان المهمة الرئيسية هي أن تصبح الصين «مركزاً عالمياً رئيسياً للعلوم والابتكار»، ومنذ ذلك الحين، خطت الصين خطوات شاسعة في تثبيت نفسها كقوة أولى في هذا المجال.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1145