تحالفات قطاعية وشراكات إنتاجية... في عالم ما بعد الهيمنة الأمريكية

تحالفات قطاعية وشراكات إنتاجية... في عالم ما بعد الهيمنة الأمريكية

وسط اشتداد الارتباك في الاقتصاد العالمي حيث تتداعى الهيمنة الأمريكية والغربية، وتشهد سلاسل التوريد والإنتاج تغيرات كبيرة، يتوجه الاهتمام نحو اتجاهٍ جديد محتمل في طور الإعداد، حيث بدأت العديد من «الدول النامية» في تمتين روابط الشراكات فيما بينها، وهي ليست روابط إقليمية فحسب، بل روابط شاملة تهدف إلى إنجاز تنسيق وتعاون أكبر في قطاعات إنتاجية محددة متباينة من حيث أهميتها على صعيد الاقتصاد العالمي.

سلطت العديد من وسائل الإعلام الضوء على عملية تشكيل تجري الآن دون كثير من الضجيج للمنصات والتحالفات الاقتصادية والتجارية القائمة على أساس توجه عدد من الدول التي تشترك في صناعات أو مواد خام معينة للتنسيق فيما بينها من أجل ضمان وضع اقتصادي أفضل لها والتفلت قدر الإمكان من النهب الغربي التاريخي لهذا الإنتاج. صحيح أن الكثير من هذه المنصات والتحالفات الجديدة قد ارتبطت بتحالفات إقليمية موجودة بالأصل مثل اتفاقية التجارة الحرة القارية الأفريقية، والشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة RCEP في شرق آسيا، ومنظمة شنغهاي للتعاون، إلا أنه من الواضح أن هذه العملية باتت تميل في الآونة الأخيرة لتتخذ طابعاً دولياً عابر للأقاليم والقارات، فإلى جانب إنشاء كتل إقليمية جديدة، إلا أن هذا النشاط الكبير من جانب الدول النامية بدأ يظهر على شكل «اتحادات» و«تكتلات» تجمع فعلياً أكبر منتجي الموارد على تنوعها. وهذا بدوره يعكس الدور المتزايد لهذه الدول من حيث الموارد، وقدرتها على حماية هذه الموارد من النهب الغربي، وطبيعة دورها اللاحق المتوقع في الاقتصاد العالمي.


1116a


تحالفات عابرة للقارات.. تربطها المصلحة المشتركة

واحد من هذه التحالفات القطاعية التي شكلتها الاقتصادات النامية مؤخراً هو منصة جديدة لحماية الغابات المطيرة في العالم (وهي منصة توحّد البرازيل وجمهورية الكونغو الديمقراطية وكذلك إندونيسيا - وهي الدول التي تمثل 52% من الغابات الاستوائية المطيرة في العالم). وفي الوقت ذاته، يجري تشكيل تحالفات خضراء مماثلة من جانب دول نامية أخرى: حيث شكلت سورينام وبنما وبوتان تحالفاً في عام 2021 يهدف إلى تحرير التجارة فيما بينهم وتصفير الكربون في الصناعة وسياسات أخرى، تهدف لدعم تقدم اقتصاداتها «من أجل تنمية خالية من الكربون».
وثمة تحالف قطاعي آخر تمت مناقشته هذا العام وهو تحالف منتجي الليثيوم، والذي سيجمع أعضاء ما يسمى بـ«مثلث الليثيوم»، وهي الأرجنتين وتشيلي وبوليفيا. وتمثل هذه الدول القسم الساحق من الاحتياطيات في أميركا اللاتينية، والتي تمثل هي نفسها ما يقارب 60% من إجمالي الاحتياطيات العالمية لليثيوم.
من جانبها، تحاول إندونيسيا إنشاء كارتيل شبيه بكارتل «أوبك» ولكن للنيكل ومعادن البطاريات الرئيسية الأخرى. وفي هذا الصدد، أعلن وزير الاستثمار الإندونيسي، لاها داليا: «جميعنا نرى إيجابيات إنشاء أوبك من أجل إدارة تجارة النفط لضمان القدرة على التنبؤ للمستثمرين والمستهلكين المحتملين. تدرس إندونيسيا إمكانية تشكيل هيكل إداري مماثل فيما يتعلق بالمعادن التي لدينا، بما في ذلك النيكل والكوبالت والمنغنيز».


1116-1


منصات قطاعية جديدة.. وأخرى «على الطريق»

يتوقع الكثير من الاقتصاديين أن هذه المنصات القطاعية الجديدة ستكون واحدة من أكثر الوسائل الفعالة التي ستثبت كفاءتها في تنظيم آليات العرض وأسعار السلع الأساسية. حيث شهدت مثل هذه المنصات نجاحات ملحوظة مؤخراً، مثل مجموعة «أوبك+» التي لعبت دوراً فاعلاً في تنسيق إمدادات النفط للموردين الرئيسيين من العالم النامي وروسيا.
في جوهرها، ستنطوي هذه المنصات على ضمان قوة اقتصادية أكبر وأسعار أكثر عدلاً من المنتجين الرئيسيين في العالم إلى المستهلكين. وبطبيعة الحال، سينعكس ذلك في تعميق أزمة المراكز التي اعتادت على نهب هذه الثروات والمواد الخام بالأشكال الصريحة المباشرة وغير المباشرة، وسيدخل السياسات الاقتصادية لدى هذه الدول في ارتباكٍ شديد في ظل الارتفاعات الموجودة أصلاً في أسعار الكهرباء والغذاء ونقص العمالة واضطراب سلاسل التوريد وما إلى ذلك، وبطبيعة الحال، فإن أي زيادة في قدرة الدول النامية على حماية نفسها وثرواتها من النهب الغربي سينعكس مزيداً من الاتساع في الهوة التي تنجرف إليها الاقتصادات الغربية.
وفي المجال المالي، من المرجح أن تؤدي زيادة القوة السوقية للدول النامية في مجال الموارد إلى مزيد من التوسع في الاحتياطيات التي تحتفظ بها الصناديق السيادية لاقتصادات الجنوب العالمي. وقد عكس صعود هذه الصناديق السيادية، إلى حد كبير، الدور المتنامي للاقتصادات «النامية» مثل الصين والاقتصادات الغنية بالموارد مثل روسيا والعديد من الدول في منطقة الخليج وشرق المتوسط.
نتيجة لذلك، ارتقت صناديق الثروة السيادية - مثل «صندوق الثروة السيادية في سنغافورة GIC»، و«مؤسسة الاستثمار الصينية CIC»، و«جهاز أبو ظبي للاستثمار ADIA»، للوصول إلى مراكز متقدمة في مجال الاستثمار المؤسساتي في الأسواق العالمية. وفي حين أن هذه الصناديق السيادية وغيرها الكثير أصبحت لاعباً أكبر في الأسواق المالية العالمية، لم تكن توجد منصة شاملة توحد الصناديق الرئيسية التابعة لدول «الجنوب العالمي». في هذا الصدد، كانت إحدى المبادرات التي نوقشت في السنوات الماضية هي إمكانية إنشاء مثل هذه المنصة لاقتصادات «بريكس»، كما يمكن أن يشمل إطار «بريكس+» الموسّع بعض صناديق الثروة السيادية الرائدة من منطقة شرق المتوسط أيضاً.
ومن أجل المضي قدماً في عملية إنشاء تحالفات قطاعية، يتوقع اقتصاديون عديدون أن يكون هنالك عدد من المجالات التي قد تظهر فيها منصات قطاعية ذات مشاركة كبيرة من جانب الاقتصادات النامية في السنوات القادمة، مثل:

  • العناصر الأرضية النادرة.
  • منتجو المواد الغذائية الأساسية والأسمدة.
  • أماكن المياه الصالحة للشرب والحفاظ على المياه.
  • «أوبك للغاز»
  • منصات خضراء توحّد الدول حول هدف خفض صافي الانبعاثات الكربونية.

وجرى فعلياً استكشاف بعض هذه المسارات. ففي حالة فكرة «أوبك للغاز»، ثمة بالفعل اليوم مجموعة من الدول التي تجمع بعض منتجي الغاز الرئيسيين، مثل منتدى الدول المصدرة للغاز (GECF). وكانت هنالك اقتراحات بأن منتدى GECF يمكن أن يؤدي دوراً في سوق الغاز على غرار الدور الذي تلعبه «أوبك» في قطاع النفط. مع ذلك، أعلن نائب رئيس الوزراء الروسي، ألكسندر نوفاك، أن GEFC لا تملك حالياً سلطة تنظيم سوق الغاز وتتصدى حالياً وفي المقام الأول إلى مهمة تبادل المعلومات والبحوث المشتركة. وأشار نوفاك كذلك إلى أن هنالك أيضاً صعوبات متجذرة في تنظيم سوق الغاز نظراً لأنه ليس متطوراً مثل سوق النفط من حيث الإنتاج والتوريد والتجارة الفورية. وبناء على ذلك، قد تتحسن الظروف مع مرور الوقت لإنشاء آليات تنسيق سوق الغاز بين منتجي الغاز الرئيسيين في العالم النامي.


1116b


حتى الغرب يبحث عن تحالفات.. ولكن

في موازاة ذلك، شرعت ما تسمى بالاقتصادات المتقدمة في إنشاء تحالفاتها الخاصة في مجال الموارد الطبيعية. على سبيل المثال، شكّل الاتحاد الأوروبي «تحالفاً أوروبياً للمواد الخام» بهدف إشراك جميع «أصحاب المصلحة المعنيين»، بما في ذلك الجهات الفاعلة الصناعية والدول الأعضاء والنقابات العمالية والمنظمات غير الحكومية ومنظمات البحوث والتكنولوجيا والمستثمرين.
كان أحد الأسباب المعلنة لإنشاء هذا التحالف هو «تنويع مصادر الإمداد بموارد الأرض النادرة بعيداً عن الصين»، لكن مع مرور الوقت، يبدو أن نتائج هذا الاتجاه ضعيفة التأثير: فبعد خمسة سنوات على تأسيسه، لا تزال الصين تقدم 90% من موارد الأرض النادرة للاتحاد الأوروبي.
وتشكيل مثل هذه المنصات يتماشى مع «استراتيجية دعم الأصدقاء» التي تم الاتفاق عليها في عام 2022، وهي استراتيجية غربية «تهدف لإعادة توجيه سلسلة التوريد نحو البلدان التي تشترك في نفس القيم السياسية». وبدأت هذه الشراكات في اتخاذ نطاق عابر للحدود حيث يتعاون الاتحاد الأوروبي مع اقتصادات أخرى في مجال الموارد المعدنية مثل كندا (تهدف الشراكة بين حكومتي كندا والاتحاد الأوروبي التي تم إبرامها في عام 2021 إلى تأمين سلاسل التوريد للموارد الطبيعية الحيوية للتصنيع).
وثمة تحالف آخر أطلقته النخبة الغربية، وهو يتعلق بـ«التنمية المستدامة في تعدين الموارد الطبيعية»، ففي عام 2022، أطلقت كندا وأستراليا وفرنسا وألمانيا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ما أسموه «تحالف المعادن الحرجة المستدامة لتحسين استدامة تعدين المعادن الضرورية لإزالة الكربون»، وتم الإعلان عن ذلك في قمة التنوع البيولوجي COP15 في مونتريال.
لكن الغرب محكوم عليه بالفشل في بناء تحالفات قطاعية جديدة لأن أكبر الموارد في العالم موجودة في دول الجنوب العالمي وليست عنده. ودول الجنوب هذه تحاول بناء تحالفاتها الخاصة، وبالتالي، سيضطر الغرب إلى الانضمام، عاجلاً أم آجلاً وبشكل فردي أو جماعي، إلى الإقرار بالأمر الواقع والتسليم بإمساك الدول الصاعدة في الجنوب العالمي بزمام السيطرة على ثرواتها الوطنية.
كان الغرب القوة المهيمنة في العالم لعدة قرون، لكن قوته تتضاءل. بينما «الجنوب العالمي» آخذ في الصعود، وبلدانه تزداد قوة كل يوم. وعلى طول الخط، نرى كيف لم يعد الغرب قادراً على إملاء الشروط بشكل كامل على الجنوب العالمي كما كان يفعل من قبل، وهو مجبر على التكيف مع النظام العالمي المتغير.
تتطلع دول الجنوب العالمي إلى دول أخرى، مثل الصين وروسيا، لتسريع خلق بنية جديدة دولية تنهي ما شهده الجنوب العالمي من تدخلات غربية سافرة في بلدانه، ولهذا، نرى اليوم كيف أن عدداً كبيراً من الدول لم يعد على استعداد لأن تكون صديقة أو تابعة للغرب. ولا سيما أن أمثلة التعاون الجديد غير الغربي ماثلة أمام هذه الدول، مثل الصين التي حققت الصين نجاحاً كبيراً في بناء تحالفات قطاعية جديدة وعرضت على «دول العالم الثالث» ما لم يقدمه الغرب: الشراكات الجديرة بالثقة، والمنفعة المشتركة، والتشبيك.
تقف العديد من دول الغرب اليوم عند مفترق طرق حقيقي. يمكنها إما أن تستمر في طريق العزلة والانحدار، أو يمكنها التكيف مع النظام العالمي والإقرار بالموازين الجديدة التي لا تسمح لها بفرض الهيمنة على دول العالم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1116
آخر تعديل على الخميس, 13 نيسان/أبريل 2023 12:08