منذ زمنٍ بعيد: توقف جهاز الدولة عن دفع أجور حقيقية
نشرت جريدة قاسيون في العدد السابق 1064 مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة نهاية شهر آذار 2022، والذي بيّنت فيه أن وسطي تكاليف معيشة أسرة سورية من خمسة أفراد حاجز 2.8 مليون ليرة سورية، مرتفعة بحوالي 833,405 ليرة عن وسطي التكاليف التي تمّ تسجيلها في بداية العام الجاري، وهو أمر لم يكن مستبعداً بالنسبة لملايين السوريين الذين يشهدون ارتفاعاً يومياً ومستفحلاً في أسعار السلع الغذائية الأساسية الضرورية لبقائهم على قيد الحياة.
وأمام هذا الارتفاع غير المسبوق (41% خلال ثلاثة أشهر فقط)، لا يزال حاضراً في الأذهان السؤال عن كيفية عيش الناس في ظل منظومة أجور متدنية إلى هذا المستوى. حيث يمثّل الحد الأدنى للأجور في سورية (92,970 ليرة سورية) مفارقة ليس بالمقاييس المحلية فحسب، بل وكذلك عالمياً.
من 243 إلى 0.4:
منظومة تراجع مستمر
في الحديث عن حجم الفجوة الهائلة بين الأجور وتكاليف المعيشة في سورية، يقفز البعض إلى استنتاج متسرع بأن هذا العطب كان موجوداً منذ الأزل في البلاد، وأن هذه الفجوة كانت حاضرة على الدوام فيها. لكن نظرة عن كثب إلى تطور الأجور في سورية كفيلة بالرد على هذا الاعتقاد، وإثبات أن أجر العامل السوري لم يكن دائماً عند المستوى الكارثي الحالي.
وإذا أردنا اعتماد معيار الذهب كأداة لقياس تطور الأجور الحقيقية السورية، نرى أن هذه الأجور كانت تسير بوتيرة تنازلية متواصلة منذ أواسط الستينيات إلى اليوم، حيث كان الحد الأدنى للأجور في عام 1964 يشتري للعامل 243 غرام ذهب عيار 21، وبعد عشرين عاماً، أي في عام 1984 انخفض الحد الأدنى للأجور إلى حدود 188 غرام ذهب، وواصل تدهوره حتى وصل في عام 2016 إلى 3 غرام، أما اليوم فهو لا يتعدى 0.4 غرام فقط!
لو أردنا قول هذا الكلام بطريقة أخرى لتبيّن لنا حجم الانخفاض الحقيقي في الأجور: فلو كان الحد الأدنى لأجر العامل السوري يشتري المقدار ذاته من غرامات الذهب التي كان يشتريها في عام 1964 لكان يجب أن يكون الحد الأدنى للأجور اليوم 52,132,005 ليرة سورية! ولو كان يشتري مقدار الذهب ذاته الذي كان يستطيع شراؤه في عام 1984 لكان يجب أن يكون الحد الأدنى للأجور اليوم 40,332,580 ليرة سورية.
وحتى لو أردنا ألا نبتعد كثيراً، فلو كان الأجر السوري اليوم قادراً على شراء مقدار الذهب ذاته التي كان يستطيع شراءها قبل ستة أعوام في عام 2016، لكان يجب أن يكون الحد الأدنى للأجور اليوم 654,000 ليرة سورية عوضاً عن 92,970 ليرة!
4.9% من الوسطي العالمي
لا تقلّ صورة الأجور السورية قتامة لو تركنا معيار الذهب جانباً وقوّمناها بالدولار الذي تتم عملية التسعير الفعلي للسلع على أساسه اليوم، حيث يشكّل أساساً للنشاط الاقتصادي في السوق السورية، وترتبط به ما يزيد عن 70% من الأغذية المنتج محلياً.
وبهذه الطريقة، لا يزيد الحد الأدنى لأجر العامل السوري اليوم عن 24 دولار فقط، وهو رقم ليس غير مسبوقاً على الصعيد المحلي فحسب، بل هو رقم صادم حتى بالمعايير الدولية. فبحسب منظمة العمل الدولية، لا يقلّ وسطي الحد الأدنى للأجور عالمياً عن 486 دولار شهرياً. أي أن الحد الأدنى للأجور في سورية لا يعادل سوى 4.9% من وسطي الحد الأدنى للأجور عالمياً.
ما يشتريه الأجر
حتى لو تركنا معياري الذهب والدولار جانباً، فإن السوق كفيلة بأن تكذب الغطّاس، حيث أن أسعار السلع عموماً، وأسعار الغذاء على وجه الخصوص، تكشف عن الوجه غير الإنساني للأجور السورية، إذ أن الـ92,970 ليرة سورية التي يتلقاها العامل السوري لا تكفي لتغطية غذاء الأسرة لثلاثة أيام (هذا دون احتساب تكاليف المعيشة الأخرى، فالحديث هنا عن تكلفة الغذاء الضروري فحسب)، وحتى العامل السوري ذاته، فإن تكلفة غذاءه الشهرية تصل إلى 214,520 ليرة سورية، ما يعني أن الحد الأدنى للأجور لا يكفي لتغطية الغذاء الضروري للعامل بمفرده سوى 14 يوم فقط!
هل هنالك أجر؟
يقودنا هذا بطبيعة الحال إلى إعادة طرح السؤال حول الكيفية التي يعيش الناس فيها في ظل منظومة الأجور هذه. والإجابة البسيطة عن هذا هو أن جهاز الدولة توقف منذ زمنٍ بعيد عن دفع أجور حقيقية للعاملين، فعندما لا يكون الحد الأدنى للأجور قادراً على تغطية وسطي تكاليف المعيشة بأكملها يمكن الحديث عن خلل في الأجور، لكن عندما يكون الفارق بين الحد الأدنى للأجور ووسطي تكاليف المعيشة فلكياً إلى هذا المستوى بحيث لا يغطي سوى 3.2% من هذه التكاليف (كما هو الحال اليوم) لا يمكن الحديث عن وجود أجور أصلاً، بل عن «شيء ما يشبه الأجر» في بلادٍ باتت تعتمد الأكثرية الساحقة من سكانها على الحوالات الخارجية وآليات تكيّف غير انسانية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1065