خلف ضباب رفع الدعم: تخفيض أجور ملايين السوريين

خلف ضباب رفع الدعم: تخفيض أجور ملايين السوريين

لم تكن قد استقرت أصداء القرار الحكومي القاضي برفع الدعم عن شرائح محددة من الشعب السوري، حين بدأت تتزايد المؤشرات على أن العملية برمتها ليست سوى خطوة أولى على طريق رفع الدعم الحكومي بشكل كامل، وعلى نحوٍ شديد السرعة يهدّد حياة ملايين السوريين بالمزيد من التدهور وسوء الحال.

قبل الدخول في الحديث عن القرار الحكومي الأخير، وعن النغمة «الجديدة» حول رفع الدعم عن جميع الشرائح، لا بد من الوقوف مجدداً عند فكرة الدعم بشكل عام وإعادة وضعها على بساط التشريح بغية فهم الضرورات التي تتحكم بالسياسات المرتبطة بهذه المسألة.

الأجور الفعلية وعلاقتها بالدعم

في البداية، لا بد من فهم أن فكرة الدعم الحكومي من أساسها هي اعتراف بعدم كفاية الأجر الذي يتقاضاه العامل، وبأنه من الضروري أن يجري دعمه لتغطية الفارق أو جزء من الفارق بين هذا الأجر والحد الأدنى لتكاليف المعيشة الضرورية.
وكما أشرنا سابقاً، فإن الدعم في سورية كان تعبيراً عن اختلال التوازن بين الأجور والأرباح، بحيث تميل الكفة بشكل حاسم لمصلحة أصحاب الأرباح، وكذلك تعبير عن اختلال العلاقة بين الأجور الحقيقة والحد الأدنى لتكاليف المعيشة الضرورية.
ورغم أن الجميع يتحدث اليوم عن رفع الدعم أو الإبقاء عليه، إلا أن المسألة الجوهرية لا تكمن في الدعم بحد ذاته، بل في العلاقة بين الأجور الحقيقة وتكاليف المعيشة.
من هنا، ينبغي طرح السؤال: ما الذي يعنيه رفع الدعم عن المواطنين السوريين في الجوهر؟ الإجابة ببساطة هي أنه ما لم يتم رفع الأجور الحقيقية / الفعلية بحيث تتوازن مع تكاليف المعيشة فإن رفع الدعم يعني المزيد من تخفيض الأجور الحقيقية وتراكم المزيد من الثروات المنهوبة لدى أصحاب الأرباح.
بطريقة أخرى، فإن ما يجري عملياً خلف ضباب رفع الدعم هو تحرير أسعار السلع، وتحرير الأسعار هذا لا يمكن أن يستقيم ولا يمكن أن يكون عادلاً دون أن يوازيه:
أولاً: تحرير الأجور، بمعنى أن يكون أجر العامل قادراً على تغطية تكاليف المعيشة. ودون هذا الشرط فإن تحرير الأسعار سيكون تعبيراً محضاً عن نهب واسع لمصلحة أصحاب الأرباح.
ثانياً: ربط الأجور بالأسعار المتغيرة في السوق، وهو ما يحتم إيجاد مؤشر متغير (شهري، فصلي...)، بحيث تتغير الأجور دورياً لتتوازن مع تكاليف المعيشة وفقاً لهذا المؤشر.

ليس توجهاً جديداً

لا بد من الإشارة إلى أن الرغبة الدفينة بإنهاء الدعم الحكومي ليست وليدة اللحظة، ولا هي ناتجة عن ظروف الأزمة في البلاد كما يروج بعض من أوكلت إليه مهمة «تبرير» العملية من محللين وكتبة، بل إن عودة سريعة إلى مسار السياسات الاقتصادية في البلاد تكشف أن هذه الرغبة كانت حاضرة على الدوام، بل وأكثر من ذلك، إن انفجار الأزمة في عام 2011 يعود في جزء أساسي منه إلى سياسات اقتصادية كارثية تولى اتخاذها فريقٌ اقتصادي حمل لواء رفع الدعم عن الشعب السوري.

img_20220208_103157_200

وفورات من أجل سد عجز المالية؟

منذ اتخاذ قرار رفع الدعم عن شرائح من المواطنين، تذرّع عددٌ من الوزراء والمسؤولين بحجة وجود عجوزات في المالية العامة للدولة، وأن هذا القرار سيسمح - حسب زعمهم- بتقليص نسبة العجز في المالية. والسؤال البديهي هنا من المسؤول عن وجود هذا العجز أصلاً؟ ومن أوصل الدولة إلى هذا المستوى من الشح في الإيرادات؟ في الإجابة عن هذا السؤال، يشيح المبررون بنظرهم عن السياسات الحكومية التي قامت على مدار السنوات الماضية بتصفية مختلف قطاعات الإنتاج الوطني من صناعة وزراعة وسياحة، وساهمت بتسريع انهيار العملة الوطنية، وتخلت - فوق ذلك- عن واحد من أهم مصادر إيرادات الدولة حين جددت عقود شركات الاتصالات التي كان يجب عودة ملكيتها للدولة في عام 2015. يشيحون بنظرهم عن هذا كله ويصدّرون للسوريين حجة يتيمة هي العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية (والتي بالمناسبة، استفاد منها الفساد الكبير في سورية وحقق ثروات هائلة يمكن اعتبارها أيضاً واحد من مصادر إيرادات الدولة، لو كان هنالك من له مصلحة بحل مشاكل الناس فعلاً).
ووفقاً للأرقام الحكومية، فإن عدد الأسر التي تم رفع الدعم عنها جراء «المرحلة الأولى» من رفع الدعم بلغ 596 ألف أسرة، ما يعني أنه تم استبعاد قرابة 3 ملايين مواطن سوري من الدعم على اعتبار أن عدد أفراد الأسرة الواحدة وسطياً هو خمسة أشخاص. وتم رفع الدعم عن هؤلاء اعتماداً على معايير باتت مادة للتندر، مثل امتلاك العائلة سيارة سعة المحرك فيها أكثر من 1500 سي سي، وسنة صنعها 2008 وما بعد، أو امتلاك أحد أفراد الأسرة سجلاً تجارياً من الدرجة الممتازة والأولى والثانية والثالثة والرابعة… وغيرها من المعايير التي اجتهد السوريون في إثبات خطئها خلال الأيام الماضية من خلال استعراض الحالات العديدة التي تم رفع الدعم فيها عن العائلة رغم حاجتها الماسة إليه.
أما عن نسبة «تقليص العجز» الذي حققته هذه العملية، فقد أعلنت الحكومة أن العملية «خففت من العجز في المشتقات النفطية» بحوالي ترليون ليرة سورية، إلا أن هذه الأرقام تظل موضع شك بالنظر إلى غياب آلية واضحة لقياس مقدار الدعم الحقيقي الذي تقدمه الحكومة، وبالتالي غياب آلية مماثلة لقياس العجز، فمعظم الأرقام التي يجري تداولها حول مقدار الدعم الحكومي تستند إلى مجرد تقديرات وإلى الأرقام التي تم رصدها للدعم في الموازنة الحكومية (قدّر الدعم بـ5.5 ترليون ليرة سورية في موازنة العام 2022)، ومن المعروف أن التقديرات التي تحملها الموازنات عادة ما تكون أعلى بكثير من حجم الدعم الحقيقي الفعلي الذي لا يمكن معرفته إلا من خلال قطع حسابات الموازنة (آخر قطع حساب للموازنة تم إجراؤه عن عام 2013).
بالإضافة إلى ذلك، فإن نسبة العوائل والأفراد الذين تم «استبعادهم من الدعم» في «المرحلة الأولى» فقط تخالف بشكلٍ صريح تقديرات الأمم المتحدة التي تشير في تقاريرها إلى أن نسبة الآمنين غذائياً في البلاد لا تتعدى 6% من مجموع السكان، ما يعني أن 94% من السوريين غير آمنين غذائياً، كما تشير إلى ما يزيد عن 90% من السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر.

الرفع الكامل للدعم مقابل بدل مادي

لوحظ مؤخراً ارتفاع الحديث في أوساط الحكومة ومجلس الشعب عن الاتجاه نحو رفع الدعم بشكل كامل عن الشعب السوري مقابل «تعويض» مادي، على أن يترك المواطن في السوق ليواجه سلعاً بأسعارها العالمية أو أغلى من العالمية (نتيجة الأرباح التي يجنيها سماسرة الاستيراد المستفيدين من العقوبات الاقتصادية).
ومهما بلغ المقابل المادي الذي يجري الحديث عنه فإن قيمته سرعان ما ستتبخر جراء الارتفاعات الكارثية التي ستشهدها أسعار السلع في السوق. فلو افترضنا جدلاً أن الحكومة ستقدم مقابلاً مادياً هو 200 ألف ليرة لكل أسرة شهرياً (وهو رقم أكبر من الرقم المتداول إعلامياً!) فإن الحد الأدنى لأجر العامل السوري الذي هو الآن 92970 ليرة سورية سيصبح 292,970 ليرة، بينما وصل وسطي تكاليف المعيشة وفق حسابات بداية هذا العام إلى 2,026,976 ليرة، ما يعني أن الحد الأدنى للأجور لن يغطي - بعد احتساب المقابل المادي- سوى 14.4% من وسطي تكاليف المعيشة، هذا على افتراض أن الأسعار بقيت ثابتة، فكيف الحال لو أخذنا بالحسبان الارتفاعات الجنونية في أسعار السلع بعد قرارات رفع الدعم؟

الإجهاز على الدولة

سبق لقاسيون أن شرحت في أكثر من موضع أن عمليات رفع الدعم تستهدف في المقام الأول إنهاء أي دور اجتماعي لجهاز الدولة، بمعنى إنهاء دوره التنظيمي والإبقاء على دوره القمعي بهدف الحفاظ على نمط محدد لتوزيع الثروة. وهي العملية التي سرعان ما تنعكس في ارتفاع حدة الاحتقان الاجتماعي، جراء انتقال ملايين المواطنين من حالة إلى حالة أسوأ، ودفع الكثير من هؤلاء المواطنين لإيجاد سبل مغادرة البلاد. احتقان اجتماعي لا يمكن لأحد أن يبت في مآلاته حالياً.
بهذا المعنى، فإن رفع الدعم ليس إجراءً حكومياً عادياً وإنما تعبير عن انسحاب الدولة من دور الرعاية الاجتماعية، وهو انسحاب كانت قد بدأت أولى خطواته منذ ما قبل الأزمة، ويتسارع اليوم إلى حدٍّ ينهي حتى استثمار الدعم كيافطة نظمت تحتها عمليات نهب واسعة جردت السوريين من مكتسبات انتزعوها على مدار السنوات.

 

(النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1056
آخر تعديل على الثلاثاء, 01 آذار/مارس 2022 16:11