في الحالة السورية: زيادة الأجور «الوهمية» هي إنقاصٌ فعلي لقيمتها!
عماد طحان عماد طحان

في الحالة السورية: زيادة الأجور «الوهمية» هي إنقاصٌ فعلي لقيمتها!

صدر يوم الثلاثاء 16 آذار، مرسومٌ تشريعيٌ حمل الرقم 2 لعام 2021 ونصّ على ما أسماه «منحة» بقيمة 50 ألف ليرة سورية لكل العاملين في من مدنيين وعسكريين، و40 ألف ليرة لأصحاب المعاشات التقاعدية.

وقبل أي نقاش لحجم هذه «المنحة» مقارنة باحتياجات السوريين، لا بد من الإشارة إلى أنّ مرسوم المنحة (التي هي منحة لمرة واحدة) كان قد سبقه يوم أمس رفع جديد لأسعار المحروقات (وهو رفع دائم وليس رفعاً لشهر واحد!)، بل وهو رفع ستليه كما علّمتنا التجارب المريرة ارتفاعات إضافية. هذا الرفع، يكفي وحده لتغطية المنحة خلال أقل من شهرين. حيث يمكن لرفع سعر الغاز المنزلي وحده بمقدار 1200 ليرة سورية للجرة الواحدة 10 كغ (من 2650 إلى 3850) أن يغطي المنحة خلال 8 أشهر، إذا افترضنا أنها ستشمل 2.1 مليون عامل بين من هو على رأس عمله وبين من هو متقاعد. وإذا أدخلنا البنزين 95 و90 في الحساب، مع افتراض أقل من الواقع بأنّ ثلث الكميات المباعة تباع خارج البطاقة «الذكية»، فإنّ المنحة يمكن تغطيتها بأقل من شهرين...

وجرى رفع أسعار المحروقات طبعاً تحت مسمى «تعديل أسعار». وكلمة «تعديل» هي إحدى الكلمات العديدة ضمن قاموس الاحتيال الذي يستخدمه أصحاب السياسات الليبرالية في سورية منذ سنوات طويلة؛ على غرار «إعادة توزيع الدعم لمستحقيه» بدلاً من تسمية الأمور بمسمياتها والقول تخفيض الدعم... وإلخ.

 زيادة أجور وليس «منحة»

ضمن الحالة المستمرة من الارتفاع الجنوني للأسعار ومن التهاوي المستمر لسعر الصرف، فإنّ أضعف الإيمان هو زيادة أجور وليس «منحة»؛ فحتى لو تعاملنا مع المنحة بغض النظر عن تأثيراتها على السعر (وهو ما سنناقشه لاحقاً)، وافترضنا أنها زيادة حقيقية مؤقتة (لمدة شهر)، فإن قيمتها ستتلاشى خلال أيام من الإعلان عنها مع استمرار تهاوي القدرة الشرائية لليرة؛ فكيف إذا كانت المنحة قد صدرت بالتوازي عملياً مع تخفيض جديد في الدعم عن البنزين والغاز المنزلي؟! ولكن حتى إذا كان الحديث عن زيادة أجور، فإنّه ينبغي التمييز بشكل واضح بين زيادة الأجور الفعلية وزيادة الأجور التضخمية

 زيادة الأجور

إنّ ثلاثة ثوابت أساسية ينبغي أن تبقى في البال دائماً حين التعامل مع مسألة الأجور وزيادتها وهي التالية:

 أولاً: الحد الأدنى للأجور والحد الأدنى لمستوى المعيشة

المؤشر الذي ينبغي أن تقاس إليه الأجور للقول إنّها أجور فعلية وتضمن حياة كريمة للناس ليس الرقم المطلق للأجر لأنّه مجرد رقم لا معنى له دون نسبه إلى القيمة الشرائية أي إلى ما يستطيع شراءه من بضائع، وهذه البضائع يجب أن تحقق الحد الأدنى المطلوب للمعيشة.

إذا كان الأجر مليون ليرة شهرياً وكانت المليون ليرة تشتري كيلو بطاطا، فإنّ الأجر يساوي كيلو بطاطا وليس مهماً هل هو مليون أم مليار... بالنسبة للحد الأدنى لمستوى المعيشة وفقاً لمؤشر قاسيون، فهو عند حدود 732 ألف ليرة سورية لأسرة من 5 أشخاص (قبل التضخم الإضافي الأخير الذي قد يصل به إلى تخوم مليون ليرة شهرياً). بينما وسطي الأجور ما يزال يراوح عند حدود 60 ألف ليرة سورية، وهذه «المنحة» لن تزيده، لأنها لمرة واحدة فقط، وهي لن تكفي لإيصال أصحاب الأجور إلى الحد الأدنى لمستوى المعيشة حتى لمدة شهر واحد، بل ولا حتى لمدة أسبوع.

ثانياً: ربط الأجور بالأسعار

إذا افترضنا أنّ السياسة الأجرية بنيت على أساس ربط الحد الأدنى للأجور بالحد الأدنى لمستوى المعيشة، فهل هذا كافي؟ لا. ينبغي أن يكون الارتباط مستمراً وليس لمرة واحدة؛ أي أنّ الحد الأدنى لمستوى المعيشة ينبغي أن يتم حسابه بشكل دوري (كل ثلاثة أشهر مثلاً) وأن يجري تعديل الأجور آلياً على أساس التغيرات التي تجري ضمنه (والناتجة عن التضخم أو الانكماش، أي عن تغير الأسعار)... وينبغي أن يكون ذلك حقاً للعمال وليس مكرمة أو منحة...

ثالثاً: مصدر زيادة الأجور

مصدر زيادة الأجور ينبغي أن يكون مصدراً حقيقياً وليس تضخمياً. قبل الحديث عن المقصود بالمصدر الحقيقي، فالمقصود بالتضخمي هو أن الدولة تقوم عملياً بطبع أوراق إضافية من عملتها المحلية واستخدامها في زيادة الأجور، أو أن تقوم الدولة برفع أسعار بضائع معينة وتغطي الزيادة في الأجر من ذلك الرفع... بهذه الطريقة وكما توضح التجربة السورية الملموسة وكما تقول القوانين المعروفة في علم الاقتصاد، فإنّ الزيادة التضخمية ستكون بأحسن الأحوال زيادة وهمية، أي أنّ أسعار البضائع سترتفع بالمقدار الكافي لالتهام تلك الزيادة. ولكن هذا بالإطار النظري البحت وفي أوضاع مستقرة، أما في أوضاع كالوضع السوري المتداعي، فإنّ الزيادة التضخمية تسرع انهيار سعر الصرف وتطلق يد التجار لالتهامها استباقياً والتهام أقسام من القيمة الشرائية للرواتب ما قبل الزيادة...

هل هذا يعني أنّ الزيادة تكون دائماً ضارة؟ بالتأكيد لا، هي تكون ضارة حين تتم بالطريقة التي تتم فيها بسورية (علماً أنّ الحديث هنا هو عن منحة وليس زيادة) أي زيادة تضخمية وبلا مصدر.

كيف تكون الزيادة حقيقية؟ حين تكون من مصدر حقيقي... وكيف تكون من مصدر حقيقي؟ هنالك أحد احتمالين لا ثالث لهما: إما أن يكون البلد في حالة نمو اقتصادي يسمح بتخصيص جزء من النمو في زيادة الأجور، وهذه ليست الحالة السورية الراهنة نهائياً. الاحتمال الثاني هو أن تتم زيادة الأجور على حساب الأرباح، لأنّ الثروة الوطنية في نهاية المطاف هي بابان: أجور وأرباح... وطريقة التوزيع في سورية هي طريقة إجرامية بكل معنى الكلمة، وقد كانت في بدايات الأزمة تتم بشكل (20% من الثروة تذهب لـ 80% من السوريين، و80% تذهب لـ 20%)... والأرقام الآن أكثر إجراماً بكثير، حيث يكاد لا يحصل 90% من السوريين على 10% من الثروة...

زيادة الأجور ممكنة، وبمعدلات جدية، حين يصبح ممكناً أن يمد الشعب السوري يده على جيوب الحرمية الكبار الذين يتحاشى جهاز الدولة بكل سلوكه إقلاق راحتهم وأرباحهم...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1010
آخر تعديل على الإثنين, 22 آذار/مارس 2021 23:53