صناعة الأساسيات من بيانات 2019 .. ماذا تنتج (صناعة الدولة).. من أين تربح وكيف تخسر؟!

صناعة الأساسيات من بيانات 2019 .. ماذا تنتج (صناعة الدولة).. من أين تربح وكيف تخسر؟!

صدرت المجموعة الإحصائية لعام 2019، وبجولة دقيقة في تفاصيلها يمكن أن نضيء بعضاً من مجاهيل الإنتاج العام بما فيه من دعم اجتماعي وتكاليف فعلية... وهو الذي أصبح يمثّل أساسيات استمرار الحياة، وحيث تتركز الأزمات: لأنه يشمل منظومة إنتاج الطاقة والخبز محلياً بالدرجة الأولى، بعض التفاصيل الاقتصادية للوصول إلى وقائع وتساؤلات حول الأزمات اليومية...

منظومة الصناعة العامة دخل 22% من الإنتاج

الصناعة العامة السورية وبقايا منظومة الإنتاج الصناعي لجهاز الدولة، لا تزال موزعة على قطاعات ومجالات عديدة.. وفي كل مجال: استخراجي، غذائي، نسيجي، كيميائي، معدني، وحتى الموبيليا والأخشاب لا تزال هنالك بنية إنتاجية تعود إلى المراحل السابقة وتكافح للبقاء!
بالمجمل، فإن الصناعة العامة في 2019 أنتجت بضائع قيمها في السوق بلغت: 3224 مليار ليرة، أي: ما يقارب 4,6 مليارات دولار بسعر الصرف الرسمي نهاية العام. ومن هذا الإنتاج حققت فوائض تقارب: 722 مليار ليرة، وحوالي مليار دولار، متمثلة بالناتج الصافي للصناعة العامة.
والفرق بين الرقمين (قيمة الإنتاج والناتج الصافي) هو مجمل التكاليف والمستلزمات المدفوعة لإنتاج هذه البضائع وتشغيل هذه المعامل، وحتى اقتطاع مبالغ لاهتلاك آلاتها.
ما يعني، أنه إذا تعاملنا مع مجمل جوانب الصناعة العامة على أنها بنية مالية أو شركة واحدة، فإن هذه المنظومة تنتج فائضاً ودخلاً إضافياً بمقدار 22 ليرة من كل 100 ليرة بضائع منتجة. وهو ما يدل أن هذه البنية تنتشل بعضها البعض وتستطيع بالمجمل أن تستمر بتوليد دخل إضافي وقيم حقيقية.
ولكن كما يقال، «الشيطان يكمن في التفاصيل». فعملياً ضمن منظومة الصناعة العامة، هنالك رابحون كبار ينتشلون خاسرين كبار آخرين، وهنالك مفاهيم متداخلة تجعل الخسارات غير محققة فعلياً بالكامل.

1006-i1

استخراج وتكرير وكهرباء 90% من الإنتاج يرتبط بالطاقة

رغم استمرار التنوع في بنية المنظومة الصناعية العامة، إلّا أن الإنتاج والناتج يتركزان في مجالات محددة: الاستخراجية والطاقة، بما فيها من استخراج غاز ونفط وإنتاج كهرباء وتكرير في المصافي بالدرجة الأولى...
الرقم الأكبر في إنتاج الصناعة العامة هو رقم الصناعة الكيميائية والبالغ 1044 مليار ليرة، والسر بسيط، فالمكوّن الأساسي هنا هو تكرير البترول أي: إنتاج المصافي، وهذا الرقم الكبير للإنتاج هنا يعكس عملياً قيمة النفط الخام المستورد بجزئه الأكبر، والمكرّر في المصافي لتشكل الصناعات الكيميائية 32% من إنتاج الصناعة العامة.
القيمة التالية تعود للكهرباء والمياه: 30%، تليها الصناعات الاستخراجية: 27%، ومن ثمّ تأتي الصناعات الغذائية التي تتضمن معها التبغ: 4%... والباقي موزع على المجالات الأخرى بنسب قليلة.
أما من حيث الدخل الصافي (الفائض) فإن هذه القطاعات أيضاً هي الخاسر الأكبر والرابح الأكبر، حيث الخسارات تدل عليها الأرقام السلبية للناتج في الغذائية والكهرباء، وبالمقابل، يغطي ربح الصناعة الاستخراجية هذه الخسارات ويجعل الصناعة العامة ذات فائض بالمجمل.

1006-i2

الصناعة الاستخراجية الرابح الحاسم

رغم أن الصناعة الكيميائية تشكّل ثلث الإنتاج، إلّا أنها مرتبطة بالدرجة الأولى بتكرير البترول، أي: باستيراد النفط الخام في الظروف الحالية، حيث تحمّل مستوردات النفط الخام على قيم الإنتاج الصناعي... بينما تقوم المصافي بأخذ أجرة تكرير قد لا تتجاوز 2% من قيمة النفط المستورد تشكل فوائض هذه الصناعة. فرغم مساهمتها بثلث الإنتاج لا تساهم إلّا بـ 2% من الناتج الصافي للصناعة العامة، أي: الدخل الفائض بعد إزالة التكاليف.
أما الرابح الأكبر والحاسم فهو الصناعة الاستخراجية، حيث فائض الدخل أو الناتج الصافي بلغ 745 مليار ليرة، وما يقارب 1,1 مليار دولار.
وعملياً لا تشكل تكاليف استخراج الغاز والنفط والفوسفات وغيرها من جوانب هذه الصناعة إلّا نسبة 15% من قيمة مبيعاتها، وهي التي تباع للجهات الحكومية الأخرى: فمثلاً يباع النفط للمصافي، ومن ثمّ لشركة محروقات، ويباع الغاز للكهرباء وجزء لمحروقات أيضاً. أي: من وزارة النفط إلى وزارة الكهرباء ووزارة التجارة الداخلية التي تتبع لها محروقات. وسنعود لهذا الترابط لاحقاً.
والصناعة الاستخراجية هي سبب وجود فائض في الصناعة العامة، بينما الفوائض الأخرى هامشية...
الكهرباء خاسر ولكن بـ 224 مليار ليرة فقط
الخاسر الأكبر فعلياً في الصناعات العامة هي الكهرباء والمياه، فرغم أن هذا القطاع لا يسجّل خسارة في الناتج إلّا 2,6 مليار ليرة، إلّا أن خسارته الفعلية المتمثلة في الكهرباء هي أكبر من ذلك إذ تقارب 224 مليار ليرة... وهي خسارة تحصيل وليست دعماً!
فالكهرباء بمحصلتها العامة مسعّرة حكومياً عند حدود التكلفة، والفارق بين الكلفة وتسعيرة بيع الإنتاج يقارب 2,6 مليار ليرة فقط، فرغم دعم تسعيرة الكهرباء المنزلية وبيعها بأقل من التكلفة، إلّا أن الكهرباء الصناعية وللجهات العامة تحديداً وللورش والقطاع التجاري جميعها مرتفعة وأعلى من التكلفة.
ولكن الخسارة تأتي من أن هذه الأسعار لا يتم تحصيلها، فعملياً التحصيل الكهربائي لا يتجاوز 5% من المبيعات المتوقعة... ويقارب 50 مليار ليرة، وهذا نتيجة للهدر وللتهرب الكهربائي والسرقات. ما يعني أن 987 مليار ليرة تقريباً لا يُسترد منها إلّا 50 ملياراً!
ومن جهة أخرى، فإنّه كما ذكرنا سابقاً، جزء هام من تكاليف الكهرباء يتم دفعه لوزارة النفط، فأكثر من 85% من تكاليف الكهرباء هي مدفوعات لثمن الطاقة المستخدمة من غاز بالدرجة الأولى وفيول ومازوت بكميات أقل. ما يعني أن 713 مليار ليرة من كلف الكهرباء تتحول إلى أرباح لقطاع الغاز والنفط.
لتكون الكلفة الفعلية للكهرباء تقارب 224 مليار ليرة... وأقل من أرقام دعمها الضخمة المخصصة في الموازنات الحكومية.
وإذا ما تمّ تحسين التحصيل ومتابعة شبكات سرقة الكهرباء من مواضع الاستهلاك الكبير وغير الضروري في الفنادق والمحال التجارية الكبرى والمنازل والقصور الفارهة في المناطق التي لا تشهد انقطاعات كهرباء (يعفور مثالاً)... أو تمّ تنظيم كهرباء مناطق عشوائية كبرى بعد إمدادها بتغذية أعلى ومحولات (لأن العشوائيات التي تحصل فيها سرقات كهرباء تعاني عملياً من انقطاع مستمر في التيار الكهربائي، وتغذية أقل من التقنين بكثير، وسيفضل السكان دفع فاتورة منزلية منخفضة بعد تنظيم الكهرباء مقابل تحسين إمدادهم بالطاقة وحصولهم على حقهم في التقنين!).
بإجراءات من هذا النوع يمكن أن يرتفع التحصيل أربع مرّات ويغطي تكاليف الكهرباء نهائياً أو جزئياً على الأقل.

1006-23

الصناعات الغذائية خسارة 56 ملياراً

الخاسر الثاني في الصناعات العامة هو ضمن قطاع الغذائية والمشروبات والتبغ وفق التصنيف الحكومي، فإن هذه الصناعات لا تحقق فائضاً بل خسارة تقارب 56 مليار ليرة...
تنجم هذه الخسارة عن تكاليف دعم الطحين، وهي عادة ما تُحمّل على المؤسسة العامة للمطاحن، التي تخسر بمقدار أكبر من 56 مليار ليرة، ولكنّ أرباح الصناعات الغذائية الأخرى تستطيع أن تنتشل جزءاً هاماً من تكاليف الدعم. فتعوّض أرباح التبغ مثلاً جزءاً هاماً من خسائر الطحين، والتبغ هو أكثر هذه الصناعات ربحاً... لتأتي بعده الصناعات الغذائية الضرورية الأخرى، التي تنتج بكميات أقل مثل: الكونسروة والحليب والألبان والأجبان وغيرها، وكذلك منتجات تكرير السكر الخام.
إن موازنة 2019 خصصت 333 مليار ليرة لدعم الخبز، ولكن يبدو أن إنتاج الصناعات الغذائية الأخرى خفف من الأرقام الحكومية الاستثنائية التي تضخّم حجم الدعم ومخصصاته بشكل غير مفهوم أو مبرر... لتقتصر خسارات الصناعات الغذائية على 56 مليار ليرة.
الصناعات الأخرى فائض 10% من الإنتاج
الصناعات التحويلية الأخرى المصنفة ضمن: الملابس والمنسوجات، والموبيليا والأخشاب، والمنتجات غير المعدنية، والمنتجات المعدنية الأساسية والمنتجات المعدنية المصنعة... حققت ناتجاً صافياً قارب 20 مليار ليرة من أصل إنتاج إجمالي بسعر السوق 189 مليار ليرة أي: نسبة تقارب 10,5%، والتكاليف قرابة 90% من قيمة الإنتاج. وهو معدل منخفض، وتحديداً إذا ما قارناه مع صناعات القطاعات الخاص السورية، حيث معدل الناتج الصافي للإنتاج يقارب: 36% في هذه القطاعات ذاتها.
يمكن للصناعة العامة بطبيعة الحال أن تلتحق بهذه النسبة، أو أن ترتفع عنها، لتغطي خسائر صناعات أساسية أخرى يجب أن تبقى مدعومة أو مسعّرة بسعر منخفض، مثل: الطحين والكهرباء على الأقل... وهي عملية تتطلب مستوى إنفاق إنمائي أعلى، أي: استثمار لترميم البنية القديمة، وتتطلب تحرراً من تقييد أوامر الشراء والدفع والتعاقد، أي: مرونة أكثر، وتتطلب بطبيعة الحال تقليل الهدر والفساد.

1006-i3

أرقام الصناعة العامة توضّح، أن جهاز الدولة السورية ووظيفته الاقتصادية الاجتماعية الأساسية لا يزال يقوم بدوره في تأمين الطاقة بالدرجة الأولى، وبكلف أقل من دوره في تأمين رغيف الخبز. فالصناعة العامة 90% من إنتاجها يدور حول تأمين الطاقة: استيرادها وتكريرها، والاستخراج، وتوليد الكهرباء عبر أنواع الوقود المنتجة.
ولا تزال الصناعة الاستخراجية تؤمن فوائض أساسية، تغطي خسارات بسيطة في المطاحن التي تدعم رغيف الخبز، والتي لا نحتاج معها إلى أكثر من 300 مليار ليرة، تقول الحكومة: إنها لدعم الخبز في 2019، ومبالغ وصلت إلى 400 مليار ليرة لشراء القمح!
كما أن الكهرباء هذا القطاع المأزوم والمتشابك مع النفط، ليس خاسراً بهذا المقدار الذي يتطلب كما تقول الحكومة تخصيص دعم له بمقدار 720 مليار ليرة في موازنة 2019! فعملياً هذا المبلغ الذي قد تدفعه الجهات الحكومية من مخصصات الموازنة، هو ذاته الربح الذي يفترض أن تعطيه وزارة النفط للمالية العامة كربح صناعة استخراجية! وتكاليف الكهرباء الفعلية قد لا تتجاوز 224 مليار ليرة يمكن تغطيتها بزيادة التحصيل من سرقات الكهرباء الكبرى...
الطاقة وتأمينها ليست مكلفة لهذه الدرجة التي تثقل بها الحكومة رؤوسنا بمبالغ وتريليونات الدعم، وهذه المبالغ لا تنفق فعلياً على إنتاج الطاقة، أولاً: لأن أرباح الصناعة الاستخراجية تغطي جزءاً لا بأس به من تكاليف الطاقة، وثانياً: لأن هذه المبالغ يتم توفيرها أو تغيير وجهات إنفاقها وتقليل كميات الطاقة المتوفرة.
إن لم يعاد ترتيب بيت المالية العامة، والتوقف عن تضخيم الأرقام والتركيز على تأمين الأساسيات على الأقل، من طاقة وخبز، فإن وظيفة جهاز الدولة ودوره الاقتصادي ليست مقدسة، بل هي مرهونة بالوقائع وتأمين الحاجات الدنيا... وعدم تأمينها هو خطر على بقاء الدولة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1006