(لم يكن ينقصنا إلّا القانون)؟! التمويل الصغير طرح غير واقعي

(لم يكن ينقصنا إلّا القانون)؟! التمويل الصغير طرح غير واقعي

صدر القانون رقم 8 المتعلق بالتمويل الصغير... شكلياً تمّ فتح باب حصول محدودي بل ومعدومي الدخل على تمويل صغير، وتحدث الموقع الرسمي لمجلس الوزراء عن (انسيابية الأموال والمنفعة المتبادلة بين الممولين والمقترضين ومكاسب الدخل الوطني) وإلخ.. التي كانت تنتظر بيئة تشريعية (أتت أخيراً) عبر القانون! فهل الأمور فعلاً كذلك؟ وهل غياب التشريعات هو المانع الجدي لعدم تمويل فقراء سورية ليفتحوا أعمالهم الصغيرة؟!

في هذا القانون هنالك شكلياً ثلاثة أطراف، الأول: هو الجهة التشريعية التي أتاحت تغييراً في العلاقة بين الطرفين الآخرين، وهما: المقترضين والمستهدف هنا هو محدود ومعدوم الدخل في سورية، أي: شرائح الشغيلة وصغار المنتجين في كافة القطاعات، والطرف الآخر: هو الممول، أي: الأطراف التي ستنشئ مصارف من هذا النوع وتموّل هؤلاء!

15 مليون ليرة هل تفلح؟!

سنبدأ أولاً من تفصيلين في القانون يتعلقان بمستوى الجدوى على المقترضين، أولاً: من حيث حجم المبلغ، وثانياً: الآجال الزمنية.
يقول القانون: إن مبالغ الإقراض قد تصل إلى 15 مليون ليرة! أي: إنها قد تقل عن ذلك، وفق محددات للسماح بالتمويل، ولم يفصّلها القانون، وستترك للمصارف. وهذا الحد من التمويل كانت قيمته في بداية العام تقارب 6000 دولار، بينما اليوم بعد شهرين فقط أصبحت: أقل من 4000 دولار، بخسارة تقارب الثلث! وذلك بطبيعة الحال مع التهاوي المتسارع في قيمة الليرة، والتسعير في السوق وفق متغيرات صرف الدولار بالدرجة الأولى.
وما قيمته اليوم 4000 دولار قد يستطيع أن يشتري لشاب يتعلم مهنة (الكهربجي) مثلاً عدّة أساسية مستعملة، وربما قد يغطي له شراء دراجة كهربائية مستعملة أيضاً تلبية حاجة مواصلاته، ويسمح له بدخول سوق العمل كمهني يستطيع أن يتحرك بمقدار ما يخدمه شحن بطارية (الموتور)!

كما يمكن لـ 15 مليون أن تشتري لأسرة ريفية بقرتين، وتسمح بتخزين بعض من العلف.... لا يستطيع المبلغ الحالي بحدوده القصوى المذكورة، أن يفتح ورشة خياطة صغيرة، ولا أن ينشئ بيتين بلاستيكيين مع تكاليفهما السنوية، وهو طبعاً لا يمكن أن يغطي التكاليف العقارية والإنشائية لأي مشروع، أي: إنه مشروط بتأمين مسبق للعقار! ولكنه بحدوده الحالية يستطيع في حالات محددة أن يؤمن مصدر دخل إضافي، هذا إذا ما بقي الحد على حاله عند حدود 15 مليون ليرة، والأهم، إذا ما بقيت الأسعار على حالها!
الجانب الآخر يتعلق بالآجال الزمنية لإطلاق هذا التمويل، فالقانون عملياً أوقف مؤقتاً عمل مؤسسات التمويل العاملة في هذا المجال حالياً (على قلتها) وألزمها بالتكيّف مع متطلبات القانون الجديد، وأعطاها مهلة زمنية لهذا التكيّف قاربت عامين... ما يعني: أنّه في حال لم يتم تأسيس سريع لمؤسسات تمويل وفق هذا القانون، فإن التمويل الصغير الذي كان متاحاً بحدود دنيا، متوقف إلى أجل غير مسمّى!
فهل سيبادر الممولون لإنشاء مثل هذه المؤسسات؟! سؤال يأخذنا إلى الشق الآخر والأهم في النقاش، وهو: البيئة الاقتصادية الموضوعية التي تحكم عملياً الإقراض في سورية اليوم.

هل هنالك من يقرض اليوم في سورية؟!

من الذي يعمل في الإقراض في سورية اليوم وكيف يعمل؟! عملياً منظومة المصارف العاملة في سورية لا تقوم بالإقراض تقريباً... فالمصارف الحكومية تحرّك بالدرجة الأولى أعمال الحكومة، والمصارف الخاصة تقدم تسهيلات ائتمانية للمودعين الكبار الذين يضعون جزءاً من أموالهم فيها. وتقوم المنظومة المصرفية بدور خدمي بسيط لتسيير أعمال مودعيها، ويدل على هذا حجم الربح التشغيلي القليل الذي تحصل عليه هذه المصارف، بل والخسارات التي تسجّلها بعضها. المصارف تقوم بتسليف مودعيها الكبار من أموالهم، وتقدم لهم خدمات ترتبط بتجارتهم الخارجية ومدفوعاتهم لا أكثر. وهي عملياً تستمر في العمل ضمن البيئة الاقتصادية السورية المضطربة، بناء على الوعد الكامن في المستقبل حول إعادة الإعمار ومحاولة (الصبر) لحجز موقع في سوق قد تشهد أعلى معدلات ربح لاحقاً نتيجة حجم الدمار الموجود. وينبغي الانتباه إلى ما جرى في العام الماضي ويجري في العام الحالي: فكلما (أظلمت السماء السورية) وزادت احتمالات تأخر التسوية السياسية وانفتحت احتمالات تدهور اقتصادي وسياسي، كلما أعطت هذه المنظومة المصرفية (الخاصة تحديداً والمربوطة إقليمياً) مؤشرات على إمكانية مغادرتها السوق، أو تضييق أعمالها، وتحديداً مع تشديد العقوبات.

والمقصود بهذا، أن البيئة الاقتصادية السياسية هي التي تحدد عمل المصارف في الإقراض... وأية مؤسسة ساعية للربح لن تقوم بإقراض قطاعات إنتاجية بالليرة السورية، وبمعدلات فائدة محدودة وتقارب 13%، بينما الليرة يمكن أن تفقد ثلث قيمتها خلال شهرين فقط لدواعٍ سياسية واقتصادية كلية!
المفارقة، أن القانون لا يعوّل فقط على المستثمرين والممولين المحليين، بل يضع بنداً لتأسيس مؤسسات الإقراض الخاصة المذكورة، بأن تتم بمشاركة شريك إستراتيجي! ورغم ترك مفهوم الشريك الإستراتيجي غير مشروح وتسليم الأمر لمجلس النقد والتسليف ليحدد صفاته لاحقاً، إلا أنّه يوحي بجهات، مثل: مصارف استثمار، أو شركات تمويل كبرى إقليمية الطابع. وهو تعقيد قد يؤخّر تشكيل مثل هذه المصارف الموعودة، التي إن تأسست فإنّها قد لا تسمح بتحويل عاطل عن العمل إلى كهربجي، وربّة منزل ريفية إلى مربية أبقار، إذا ما استمر تدهور الليرة بهذا المستوى!

إنّ أي شخص يمتلك الحدود الدنيا من المعرفة الاقتصادية، يعلم أن إنشاء مؤسسات تمويل جديدة، ولأفقر الفقراء، ودون ضمانات، ليس له أرضية اقتصادية واقعية في الظرف السوري حالياً، والمشكلة ليست في البيئة التشريعية!
فحتى مصارف الدولة التي يفترض ألّا يكون محددها الأوحد تحقيق الربح، تقوم بإقراض محدودي الدخل من الموظفين وأصحاب الرواتب، الذين تستطيع أن تمسك بهم من مصادر دخلهم الدورية، بل وتطلب مقابل ذلك شروطاً تعجيزية تقريباً، مثل: كفالات لعشرات الرواتب لإعطاء قرض بسيط، وضمانة رهن عقار لحالات أخرى بأضعاف قيمة القرض!

كما ينبغي التذكير، أن مؤسسات التمويل الصغير التي كانت تعمل في سورية بشعارات (إنسانية) بل وتعلن أن منظومة إقراضها جزء من أعمالها غير الربحية... كانت تسترد القروض الصغيرة الممنوحة بمعدل 1.5، أي تضيف نسبة تفوق 50% على قيمة القرض مقابل خدمة التقسيط!
فإذا ما كان جهاز الدولة والمؤسسات غير الربحية تفرض مثل هذه الشروط على تمويل الفقراء في سورية، فكيف يعقل أن نتوقع مبادرة مستثمرين وممولين لتأسيس إقراض صغير بشروط ميسّرة لشريحة اجتماعية أصبح بينها أكثر من 12 مليون جائع! ولماذا سينظر إلينا هؤلاء المستثمرون بعين الرأفة، أو حتى لماذا قد يبادرون (لاستثمارنا) بينما لم يبق لدى عموم السوريين ما يمكن أن يقدموه بعد أن جوعتهم منظومة (مصاصي الدماء)؟! قد يبادر بعض أمراء الحرب لتبييض أموالهم مستخدمين تشريعات من هذا النوع، وحينها فليحاول أي سوري أن يحصل على أي مبلغ ممكن من أمثال هؤلاء، ولكنّ هذا لن يُسمن ولن يغني من جوع، ولن يكون أكثر من فقاعة صغيرة حول (إحسان) الأثرياء...

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1007
آخر تعديل على الإثنين, 01 آذار/مارس 2021 02:10