نهب الدعم والمال العام المازوت والأسمدة نموذجاً نسب لا تقل عن 50%

نهب الدعم والمال العام المازوت والأسمدة نموذجاً نسب لا تقل عن 50%

بعض التفاصيل والمقارنة بين كلف استيراد المازوت والأسمدة، وبين كلف دعمها وفوارق بيعها في السوق توضّح عن أية كتلة من نهب المال العام يتم الحديث...

تضيق قائمة السلع الأساسية المستوردة حكومياً والموزعة بسعر مدعوم أقل من التكلفة، وتبقى منها مجموعة من المواد، أبرزها: الخبز، والمازوت... ويمكن أن تضاف إليهما الأسمدة التي ينشط توزيعها حالياً مع موسم زراعة القمح. إنّ هذه المواد تقدّم مثالاً حيّاً وواضحاً، كيف تتحول كل العمليات الحكومية، وحركة المال العام إلى سلسلة لتمويل جهات الفساد وأزلامه، في تمويل شبكة هي محدد ومنهج عمل، وليست «أخطاء فردية من ضعاف النفوس».

يتم استيراد المواد المدعومة عبر شبكة المستوردين و«نوادي الاستيراد» وفق تعبيرات أخصائيين سوريين... أي: النخبة المحظية بتأمين الأساسيات، وتحقيق عوائد من مخصصات المال العام لها، والكلف هي أعلى من الكلف العالمية بنسبة لم تقل في أية حسبة بسيطة عن 40% سواء في القمح أو المحروقات أو الأسمدة وإلخ... وتصل إلى 100% (كما سيتضح لاحقاً). هذه الكلف لا تجد الحكومات أنها مضطرة لتبريرها، ولم تتم الاستجابة للتساؤلات العديدة حول تفسيرها. التي غالباً ما تُرمى على العقوبات، دون توضيح: كيف، ولماذا، ولمن تدفع كلف العقوبات هذه!؟ وهل فعلاً لا توجد طريقة لتخفيضها؟ وهو ما قيل حوله الكثير دون أي رد رسمي، بما يثير الريبة حول الصمت لفوارق أسعار بهذا الحجم في الأساسيات، يتم دفعها من المال العام لمستوردي المواد الأساسية، وسط خطة تقشف في تأمين الأساسيات من الخبز إلى التدفئة إلى كل جوانب الطاقة والصحة، التي يعتبر المال العام معنياً بتأمينها.

ولكن المسألة لا تقتصر على النهب من فوق وعبر الاستيراد، بل إن السعر المخفّض لهذه المواد والفارق بين سعر السوق والسعر الرسمي هو مفتاح منظومة نهب واسعة.

ربما لا تستطيع أية جهة إعلامية أو صحفية أو اجتماعية أن توثّق بشكل دقيق حجم نهب الخبز المدعوم والمازوت المدعوم والأسمدة المدعومة والأدوية وغيرها... وذلك في ظل ظروف التشديد التي تعيق بيئة الحركة والتفاعل والاستقصاء في سورية تاريخياً واليوم. إلّا أنّ هذه الظاهرة القديمة الجديدة هي سِمة من سِمات عملية دعم المواد في سورية، وحصة شبكات نهب هذه المواد كبيرة، يدل عليها وضوحاً دور الخبز الطويل الذي يصل إلى 3 ساعات في مناطق مكتظة، مثل: جرمانا، ومستوى توزيع مازوت التدفئة، حيث تمّ تقليص الكميات إلى 100 ليتر للأسرة لم يتم توزيعها حتى الآن في أحياء وقرى ومناطق بأكملها في ريف دمشق مثلاً، والمناطق التي تمّ التوزيع فيها شهدت كما يعلم الجميع توزيعاً انتقائياً أو «لسد الذرائع». وربما لا نبالغ إذ نقول: إن القاعدة في توزيع مازوت التدفئة هي نهبه، بينما الاستثناء هو التوزيع للأسر، حتى لا تكون العملية مفضوحة تماماً، الأمر ذاته في السماد والمازوت الموزّع للزراعة، حيث تقول الوزارة: أنه قد تمّ توزيع 70% من المخصصات، بينما تشير بعض المحافظات كما في السويداء إلى توزيع 17% فقط.

الفوارق السعرية هي النقطة الأساسية في عملية النهب من المال العام المخصص لدعم المواد الأساسية، سواء في الاستيراد أو في التوزيع. حيث تدفع الحكومة للمستوردين سعراً أعلى من الأسعار العالمية بنسب هامة، وتحصل شبكات نهب التوزيع على ربح استثنائي من فرق السعر المدفوع للمال العام والمقبوض من السوق... وهو ما سنتحدث عن تقديراته وتفصيلاته لاحقاً.

997-40

مازوت التدفئة نسبة نهب لا تقل عن 65%

الفارق السعري بين ما يدفعه المال العام للمستوردين، والكلف العالمية لاستيراد المازوت يصل إلى 100%، أي: كل ليتر مازوت يحصل المستوردون منه على زيادة تقارب 0,23 دولار، وما يعادل بأعلى سعر صرف للحكومة: 500 ليرة تقريباً.

كميات استيراد المازوت لم تعد واضحة، ولكن إذا أخذنا تقديرات حول مازوت التدفئة فقط، واعتبرنا أنه يوزع خلال شهرين من الشتاء فقط بمقدار: 6,5 ملايين ليتر يومياً وفق تصريحات من وزارة النفط. فإننا نتحدث عن كتلة استيراد لمازوت التدفئة تقارب بالحدود الدنيا: 390 مليون ليتر، وهذه مع الفارق السعري المقدر أعلاه تقارب: 195 مليار ليرة.

مع الإشارة إلى أن الفارق السعري تمّ تقديره بالمقارنة مع التسعير في لبنان، وبناء على آخر تصريحات لوزير التجارة الداخلية، التي أشار فيها إلى أن الكلفة المدفوعة من الحكومة لاستيراد المازوت تقارب وسطياً 1000 ليرة لليتر أي: 0,45 دولار لليتر بأعلى سعر صرف حكومي. بينما في لبنان فإن التسعير الرسمي لليتر المستورد يقارب: 0,22 دولار، وذلك على سعر الصرف الرسمي 3850 ليرة لبنانية مقابل الدولار، ومتضمناً بطبيعة الحال تكاليف الاستيراد والنقل والشحن ومرابح شبكة احتكار استيراد المحروقات في لبنان.

على الضفة الأخرى للنهب عبر الفوارق السعرية، يمكن أن نجري تقديراً لكتلة الأرباح المتحققة من نهب مازوت التدفئة المباع بسعر 185 ليرة لليتر، وبيعه في السوق السورية بسعر 1000 ليرة لليتر تقريباً. أي: مربح في كل ليتر يقارب: 800 ليرة. فإذا ما كانت حصة شبكات الفساد من توزيع المازوت لا تتعدى 20% وهي بالفعل نسبة قليلة قياساً بواقع التوزيع... فإننا نتحدث عن كتلة أرباح تقارب: 60 مليار ليرة. هذا فقط إذا كانت حصة شبكات نهب التوزيع لا تتعدى 7,8 ملايين ليتر خلال شهرين. والحصة أكثر من ذلك، فمخصصات جهاز الدولة تُسرق من المنبع، كما تبين في القمح المستورد، والذي ينقص منه 500 طن في المرفأ!

وبناء على هذا التقدير، إذا كانت الحكومة تدفع لاستيراد هذه الكتلة فقط من مازوت التدفئة 390 مليار ليرة، فإن حصة النهب منها لا تقل عن 65%.

997-111

الأسمدة نسبة نهب لا تقل عن 54%

تتسع عملية توزيع الأسمدة في هذا الوقت من السنة، حيث تتم في الشهر الحالي زراعة مساحات القمح التي تقول الوزارة: إنها تجاوزت مليون هكتار منفّذة. الفوارق السعرية بالاتجاهين كبيرة أيضاً في الأسمدة.

وفي الاستيراد أولاً (حيث يتم استيراد سماد اليوريا بينما توقف معمل الأسمدة لأسباب لا يعرفها أحد بعد أن تم توقيع عقد احتكاره)! الفارق بين السعر المدفوع من الحكومة للمستوردين وبين السعر العالمي لطن السماد يصل إلى أكثر من 200 دولار في الطن، أي: ما يقارب: 450 ألف ليرة كلفاً ومرابح إضافية غير مفسّرة في سعر الطن المدفوع للمستورد من المال العام.

إذ تشير وزارة الزراعة: أن الحكومة تدفع كلفة استيراد طن السماد 1,2 مليون ليرة واصلاً إلى المرافئ السورية. أي: ما يعادل 540 دولاراً تقريباً بأعلى سعر حكومي. إن هذا السعر قياساً بسعر سماد اليوريا في الإقليم مرتفع جداً. وإذا أخذنا مصر على سبيل المثال، فإن سعر الطن فيها: 330 دولاراً تقريباً، وهو قريب من سعر تصدير كل من تركيا والصين لسماد اليوريا بمقدار يقارب 322-316 دولاراً للطن في 2018 وفق بيانات منظمة الفاو. والدولتان هما وجهة الاستيراد الأساسية لسورية.

وعلى ضفة النهب الأخرى عبر شبكات التوزيع المحلية، فإن فوارق السعر هامة ومغرية أيضاً. فطن السماد تبيعه الحكومة للمزارع بـ 193 ألف ليرة وسطياً لليوريا، بينما سعره في السوق يصل إلى 1,3 مليون ليرة أيضاً وفق تصريحات الوزير. ما يعني ربحاً في الطن: 1,1 مليون ليرة!

حتى الآن وزّعت الحكومة لزراعة القمح ما يقارب 85 ألف طن من السماد كدفعة أولى، أيضاً وفق تصريحات وزير الزراعة في مجلس الشعب. إنّ حصة المستوردين والمتنفذين من هذه الدفعة هي ربح غير مفسّر يقارب: 17 مليون دولار، وحوالي 38 مليار ليرة.

أما حصّة شبكات نهب مخصصات السماد المدعومة، إذا ما افترضناها لا تتجاوز 20%، فإنها تصل إلى مرابح: 18 مليار ليرة تقريباً.

وإذا ما كانت الحكومة تنفق على استيراد هذه الدفعة من الأسمدة 100 مليار تقريباً، فإن حصة الكلف الإضافية والنهب عبر الاستيراد وعبر شبكات التوزيع قد لا تقل عن 54%.

997-110

خلاصة

• تقول الحكومة، بأن نفقات موازنتها ستبلغ 8000 مليار ليرة، وأن حصة الدعم في هذه الموازنة ستصل إلى 4000 مليار ليرة تقريباً. إنّ هذا الدعم إن أُنفق... فهذا الدعم إلى حد بعيد وهمي، وهذا لا يعني أنّه غير مدفوع، بل يعني أنّه يدفع ولا يحقق غاية دعم الإنتاج واستهلاك الأساسيات إلّا بالحدود الدنيا، بل هو يحقق غاية أخرى، هي تمويل شبكات هدر واسعة سواء عبر تضخيم كلف الاستيراد، أو عبر نهب المخصصات وبيعها بسعر السوق.

• المثالان المأخوذان من مازوت التدفئة وسماد اليوريا يشرحان الكثير، فهما مادتان تكاليف استيرادهما أعلى من تكاليف الأسعار في لبنان ومصر بنسبة بين 63% وصولاً إلى 100% كلفاً إضافية غير مفسّرة على فاتورة الاستيراد، تدفعها الحكومة لنوادي الاستيراد الضيقة التي لا يحظى بصفقاتها إلّا كل «متنفذ ذي وزن». وهي تُحسب دعماً لا تملّ الحكومة من إعادته وتكراره «وضربنا بمنيّة» بينما هو كلفة إضافية غير مفسّرة، قد تكون في معظمها مرابح لدوائر النهب العالية.

• على الضفة الأخرى لنهب هاتين المادتين، فإن توزيع المواد المدعومة هو مصدر تمويل لشبكة فساد وارتزاق واسعة، تتم عبر الفارق بين سعر الحكومة المنخفض وسعر السوق المرتفع، وهي تحقق مرابح لهذه الشبكات بمعدل 450- 520% ربح صافي بالمقارنة مع التكلفة. إن هذه المعدلات هي حافز لتستنفر كل شبكات النفوذ والميليشياوية والبيروقراطية لتحصل على حصة.

• إذا كانت الحكومة تنفق خلال شهرين على مازوت التدفئة 390 مليار ليرة، فإن حصة النهب أو الهدر غير المفسّر بالاتجاهين لا تقل عن 250 مليار ليرة. وإذا كانت تنفق على دفعة السماد الأولى الموزعة حتى الآن 100 مليار تقريباً، فإن الحصة الضائعة منها لا تقل عن 54 مليار ليرة.

• وفق هذا المقياس وبحساب بسيط فإن 4000 مليار ليرة للدعم، يمكن أن تتحول إن أنفقت فعلياً إلى أكثر من 2000 مليار ليرة لشبكات الهدر والنهب.

• لا بدّ أن صراعاً يكتنف أوجه القوّة والهدر والنفوذ في إدارة المال العام، بعضهم يريد رفع الدعم وتحرير السوق ويستخدم الهدر كذريعة... غير مكترث بآثار رفع سعر الطاقة والسماد والأدوية التي يمكن أن تفاقم الكوارث الإنسانية السورية، فرفع أسعار المازوت جزئياً في الشهر الماضي، رفع أسعار الخضار والفواكه المحلية بنسبة 28% تقريباً وفق بعض التقديرات! بينما تتمسك جهات وأطراف أخرى بالدعم لغاية أساسية هي: الحصة المتمثلة بنهب المال العام من مخصصات الأساسيات، العملية المنظمة التي تؤدي إلى عدم وصول المواد المدعومة إلى المستهلكين، ووصول كتلة مماثلة على الأقل للبيع في السوق، وهي ما تشكّل مصدر ربح سهل واستثنائي، ويعزز شبكة النهب التي تدير جهاز الدولة استيراداً وتوزيعاً.

• نهب الدعم معضلة سياسية وليست اقتصادية فقط، فالدعم إبقاؤه ضرورة سياسية واجتماعية لدرء المزيد من الكوارث، والنهب استئصاله هو مهمة سياسية لأنّه يهدد المجتمع وبقايا دور جهاز الدولة، ويدفع نحو مزيد من تمويل الميليشياوية والفوضى. معضلة لا حل لها بمراقبي التموين، أو بتحرير الأسعار... تتطلب جهود مجتمع كامل ليكون قادراً على الإمساك بزمام المال العام، ووجهات إنفاقه، ومراقبة توزيعه ومحاسبة ناهبيه، تتطلب بنية سياسية واجتماعية مختلفة لدرء الكارثة التي لا يمثل النهب المنظم للمال العام إلّا أحد أوجهها وأذرع استدامتها.

النسخة الإنكليزية

معلومات إضافية

العدد رقم:
997
آخر تعديل على الإثنين, 28 كانون1/ديسمبر 2020 21:46