شركات الاستثمار... في قلب بنية المال والحكم الأمريكية
شهد العقد الماضي تغيراً في الأوزان الاقتصادية الأمريكية، واختلفت شكلياً مواقع «الكبار»... وبينما كانت بنوك وول ستريت هي أكبر الشركات الأمريكية فإن شركات التكنولوجيا الكبرى تجاوزتها إلى حد بعيد، كما تجاوزت البنوك سابقاً شركات الطاقة والنفط الأمريكية الكبرى، ولكن بعض التقديرات تشير إلى أن هذه التصنيفات غير دقيقة، وبنية المال والملكية، وبالتالي الحكم في الولايات المتحدة معقدة للغاية ومخفية بعناية؟.
تتجاوز القيمة السوقية لشركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الأمريكية، القيمة السوقية للبنوك التجارية الكبرى في الولايات المتحدة. وبمقارنة أكبر خمس شركات في كل منها، فإن أكبر بنك وهو جي بي مورغان قارب 292 مليار دولار في مطلع خريف 2020، بالمقابل فإن مايكروسوفت الشركة الأكبر في عالم IT الأمريكي قاربت 1,359 مليار دولار، آبل 1,286، أمازون 1,233، ألفابيت 919 مليار، فايسبوك 584 مليار دولار وإلخ... وأقلها أكبر من أكبر البنوك التجارية الأمريكية. وهو اتجاه تعزز خلال أزمة الوباء الحالية، حيث ارتفعت قيمة أسهم شركات التكنولوجيا، بينما لم ترتفع أسهم البنوك بالمقدار ذاته. الأمر الذي يعكس طبيعة التوجه المالي ومستقبل الاستثمار الأمريكي، وطبيعة الإنقاذ الحكومي للكبار التي تتسم بطابع الانتقائية.
«إعادة الهيكلة الكبرى»
يتم الحديث في الأوساط المالية الدولية الكبرى، كما في منتدى دافوس مثلاً عن «إعادة الهيكلة الكبرى»، ويبدو أن لشركات التكنولوجيا موقعاً متقدماً في إعادة الهيكلة هذه... وهو لا يعني تراجع أهمية القطاع المالي في المنظومة الغربية والأمريكية حصراً، بل يعكس إلى حد ما التغيرات المرتقبة في النظام النقدي الدولي... والسير نحو العملات الإلكترونية التي تلعب فيها البنوك التجارية دوراً، مقارنة بالأهمية المطلقة لشركات تكنولوجيا المعلومات في إطلاق هذه المنظومة وضبط بياناتها، وهي بمثابة مشروع مشترك بين البنوك المركزية الغربية وشركات التكنولوجيا.
ولكن هذا وذاك لا يلغي حقيقة واحدة، هي أن الإدارة الفعلية لا تزال تتواجد لدى مالكي المال، الذين لا يمكن تحديد معالمهم بدقة بطبيعة الحال، ولكن تمثلهم خير تمثيل صناديق وشركات الاستثمار المالي الكبرى.
من يملك شركات التكنولوجيا والبنوك؟!
عادة ما ترتبط شركات التكنولوجيا الكبرى بأسماء مدرائها التنفيذين الرائدين الذين أصبحوا ضمن القوائم المعلنة لأثرياء العالم: جيف بيزوس، بيل غيتس، مارك روزربرغ، وغيرهم... ولكن هذه الشركات التي تمتلك شكلياً مئات بل وآلاف المساهمين ليست مفتوحة، بل الحصة الأهم من هذه المساهمة تعود إلى صناديق الاستثمار، وشركات الاستثمار المالي الكبرى الأمريكية، وتحديداً أكبر أربع من بينها: بلاك روك، فانغارد غروب، ستايت ستريت كوربورايشن، فيديلتي... وهؤلاء هم المساهمون الأساسيون أيضاً في بنوك وول ستريت، التي تعتبر بدورها مساهماً أساسياً في البنك الفيدرالي الأمريكي. وهم عملياً وفق تقديرات تعود لعام 2015 يمتلكون نسبة: 16% من مجمل ما تملكه شركات الاستثمار المالي عالمياً، التي قاربت حينها 76,7 تريليون دولار.
الأصول التي تديرها هذه الشركات الاستثمارية الأربع فقط قاربت في مطلع 2020: 19,82 تريليون دولار، أكبرها لدى بلاك روك: 7,9 تريليون، فانغارد: 6,41 تريليونات، ستايت ستريت: 3,1 تريليونات، فيديلتي: 2,4 تريليون دولار.
بلاك روك تدير أموال الإنقاذ الأمريكي
إحدى أكبر هذه الصناديق هي بلاك روك، ويبدو أن لها دوراً فاعلاً في عملية إعادة الهيكلة التي تجري خلال الأزمة الحالية، فالشركة التي تأسست في عام 1988 تعود بسلسلة تأسيسها إلى ليمان براذرز البنك الأمريكي الكبير المفلس في أزمة 2008، ووزير التجارة الأمريكي السابق جي بيترسون، وقد كان رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي حتى وفاته في 2007.
في آذار 2020، عندما أقر الفيدرالي الأمريكي ووزارة الخزانة إطلاق المساعدات المالية للاقتصاد الأمريكي بتريليونات الدولارات، أقروا آلية جديدة للقيام بعملية ضح الأموال من الفيدرالي وعبر الحكومة إلى الاقتصاد. وأنشأوا شركة جديدة لهذه الغاية سميت SPV (أداة المهمات الخاصة)، التي يحدد الفيدرالي الأمريكي المساهمين فيها، ومقابل كل 1 دولار من رأس مالها يمكن للفيدرالي أن يضخ 10 دولارات من القروض. ومهمة هذه الشركة أن توزع المال على الاقتصاد بناء على تقديرهم للأوليات والمخاطر والمرابح وغيرها... والأهم في هذا الشأن: أن بلاك روك هي التي تدير هذه الشركة.
إن أولويات الاستثمار وتوجيه التدفق المالي الدولي وضمن الاقتصاد الأمريكي تحديداً، تحددها هذه الشركات إلى حد بعيد، وهي بالتالي تدير تعاظم القيمة السوقية لهذا القطاع أو ذاك... وكله طبعاً وفقاً لمعدلات الربح والوظيفة التي يحققها القطاع. استثمارات ستايت ستريت وترتيب أولوياتها توضح إلى حد بعيد أهمية القطاعات ومركزتها في أمريكا، فاستثماراتهم الأكبر في شركات تكنولوجيا المعلومات الكبرى، ثم في البنوك التجارية الكبرى، وتتبعها استثمارات في شركات النفط الأمريكية، وشركات المجمع الصناعي العسكري، وشركات القطاع الطبي الأمريكي.
*المعلومات نقلاً عن الاقتصادي الروسي البروفيسور فالنتين كاتاسانوف
من يملك شركات الاستثمار... دورة مغلقة!
أما حين يتم السؤال عمّن يملك شركات الاستثمار الكبرى؟! فإن هذه الشركات ستعطيك جواباً بأن شركات التكنولوجيا تمتلك حصصاً، والبنوك تمتلك حصصاً أيضاً، وكذلك الشركات الكبرى الأخرى! ولن تستطيع الوصول إلى أسماء الأسر والمالكين الذين يملكون كل ما سبق في هذه البنية المعقدة، والذين يديرون من خلال هذه البنى البنك الفيدرالي الأمريكي الذي يدير بدوره ويضبط العلاقة مع مجمل البنوك المركزية للمنظومة الغربية، ويدير الحكومة الأمريكية، بل تدير إلى حد بعيد العملية الديمقراطية الانتخابية عالمياً، فمثلاً: أبرز المرشحين لمنصب رئاسة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا بعد المستشارة الألمانية ميركل، هو فريدريك ميرز الذي عمل إدارياً رفيعاً في بلاك روك شركة الاستثمار المالي الأمريكية الأكبر.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 998