عامان من التدهور الاقتصادي السوري السريع... و«السياسات القناصة»
تعيش سورية أزمتها السياسية لعامها العاشر على التوالي، وقد كانت الأزمة الاقتصادية رديفاً دائماً للتداعي السياسي، بل كانت أساساً ومقدمات لها... ولكن ما كان يجري حتى عام 2018 هو مرحلة في الأزمة الاقتصادية، وما جرى ويجري خلال عامي 2019-2020 هو مرحلة أخرى، أصبح فيها التدهور الاقتصادي المتسارع أساساً لاهتزاز البنية، ووصول الأزمات الاجتماعية إلى كوارث إنسانية.
نستعرض بعضاً من أبرز تجليات الأزمة، والسياسات المرافقة لها، والتي يمكن وصفها بصفة «القناصة» حيث متابعة مفاصل السياسات خلال العامين، يبين أنّها تسعى إلى تكييف الأزمات باتجاه أساسي: استمرارية قدرة شريحة ضيقة على اقتناص الفرص، فقط لا غير!
الليرة والأسعار التعبير المكثّف
إن قيمة العملة الوطنية، هي واحدة من أهم المؤشرات على مستوى البنية الاقتصادية ككل، وتدهور قيمتها السريع خلال العامين الماضيين قياساً بالدولار والذهب، وقياساً بتكاليف سلة المعيشة، هو أوضح مثال على مستوى الركود العميق وتدهور البنية الإنتاجية المحلية، وارتفاع الطلب على العملة الأجنبية، ووسائل نجاة الأثرياء، سواء من يحولون ليراتهم إلى دولار أو ذهب أو عقارات، أو من يطلبون كل ما سبق بغرض المضاربة.
أسعار الذهب تعكس الكثير، فبين شهري 11-2018 و11-2020 تضاعف سعر غرام الذهب من عيار 21: 9 مرّات. ونسبة 918%، بينما تضاعف بين شهري 11-2012 و11-2018: 4 مرّات من حدود 4000 ليرة للغرام، وصولاً إلى 16 ألف!
الظواهر المباشرة
المرتبطة بالأزمة
منذ نهايات عام 2018 تتالت الظواهر والأحداث التي بها يمكن ربط الأزمة والتدهور في قيمة الليرة: العقوبات الأمريكية على نقل النفط إلى سورية، وتوقّف الائتماني الإيراني، واتساع نشاط المضاربة مع توسّع الفارق بين السعر الرسمي وسعر السوق للدولار، واتساع نشاط التجارة السوداء إلى حد بعيد في 2019: (مثل: رصد مصادرة 100 مليون حبّة كبتاغون خلال عام واحد مصدرها سورية)، بدأ أيضاً في وقت لاحق من عام 2019 ظهور الخلاف والتباينات بين النخب المالية الكبرى في سورية، الأمر الذي تصاعد في 2020، ثمّ أتت أزمة لبنان الاقتصادية، وأثرها على تأمين الدولار لغايات الاستيراد (حيث إنّ المصارف اللبنانية كانت واحدة من بوابات الاعتماد الأساسية التي يستورد التجار السوريون من خلالها، ليتم النقل لاحقاً لسورية)، ليأتي بعدها وخلالها، تشديد العقوبات مجدداً وقانون قيصر.
إن تصاعد الأزمة الاقتصادية في سورية خلال العامين الماضيين، هو نتيجة للوضع السياسي الإقليمي والدولي بالدرجة الأولى، وتحوّل الضغط الاقتصادي إلى أداة سياسية أمريكية تصعيدية في المنطقة بالدرجة الأولى... ولكن مستوى هذا التصعيد ونتائجه الكارثية هو نتاج للبنية الاقتصادية والسياسية المحلية، وطريقة تجاوبها مع التصعيد الغربي وطبيعة أولوياتها.
مفاصل من السياسات
تمويل المستوردات
لقد دفع توقّف الائتماني الإيراني وتشديد العقوبات إلى تطبيق سياسة واحدة، لم يتم الحياد عنها حتى اليوم. حيث ازداد وزن قوى السوق الكبرى المتنفذة، بعد أن أصبحت المدخل الأساس لتأمين الأساسيات، وزادت من ابتزازها برفع تكاليف المواد الأساسية المستوردة لحدود غير مسبوقة. أمّا السياسات فقد ركّزت في عام 2019 على إدارة التجارة الخارجية وتحديداً الاستيراد...
استمرت في 2019 عملية تمويل المستوردات بالقطع الأجنبي، وتركزت في بضعة مواد أساسية يُتاجر بها متنفذون كبار، كما تمّ وضع إجراءات مؤقتة أدت إلى تقليل عدد المستوردين وحصر عمليات الاستيراد بكبار السوق: (مثل: فرض مؤونة 40% من قيمة صفقة الاستيراد، الأمر الذي يتطلب تجميد مبالغ هامة، ويتطلب سيولة عالية). وتمويل المستوردات الأساسية بالقطع الأجنبي، يعني: إعطاء المستورد إجازة استيراد لمادة أساسية (تحديداً الغذائيات والأدوية والطاقة) ومن ثمّ تعويضه بالقطع الأجنبي من المصرف المركزي، وبالسعر المركزي، بذريعة أن تسعّر السلع الأساسية بسعر دولار مخفّض عن سعر السوق. وبنتيجة هذه السياسة، فإن مواد، مثل: السكر والرز والشاي والقهوة والذرة الصفراء وكسبة الصويا وحليب الأطفال وغيرها... كانت تباع بسعر احتكاري، ومسعّر على دولار السوق السوداء، ويحصل مستوردوها لاحقاً على دولار رخيص من المركزي.
وسنذكر مثالاً واحداً من مادة السكر بتاريخ 1-2020 حيث كان سعر الكغ في السوق 650 ليرة، بينما تكلفته العالمية كانت: 320 ليرة، مع نسبة ربح وتكاليف نقل وعلى سعر دولار السوق في حينها (1000 ليرة)، أما تكلفته على سعر دولار الرسمي 440 ليرة مقابل الدولار، في ذلك الحين فلم تكن تتعدى: 150 ليرة للكغ!
والأمر ذاته في مواد غذائية أخرى، لقد كانت هذه السياسة واحدة من حوافز المضاربة على أسعار الغذاء... حيث تركّزت تجارة السلع الغذائية المستوردة في أيد قليلة، ونتج عنها ارتباط عميق للغذاء بالدولار، وارتفعت أسعار سلة الغذاء الأساسية في دمشق 3 أضعاف خلال العامين الماضيين. وقد قدّرت قاسيون أرباح عملية تمويل المستوردات الأساسية خلال سنة، بما يقارب: 360 مليار ليرة مقدّمة لأكبر المستوردين.
لقد أدّت هذه السياسات التي تركّز على الاستيراد إلى تراجع كبير في البنية الإنتاجية في عام 2019، ولم يتم أي إجراء جدّي يسمح بتوسع القاعدة الإنتاجية وتحديداً الصناعية، التي يقدّر البعض أنها تعمل اليوم بـ 10-20% من طاقتها في قطاع الألبسة مثلاً.
2020 ترك الأمور للمجهول!
أما عام 2020 تعرضت الليرة لانهيارات سريعة في أشهره الثلاثة الأولى، وحلّقت فيه أسعار الأغذية تحديداً بنسبة استثنائية، وتدهورت بنى إنتاج غذائي، مثل: الدواجن بنسبة قاربت تراجع 75% على سبيل المثال لا الحصر... فإن السياسات اكتفت بإدارة التراجع بسياسة تقشفية استثنائية، منها: التضييق الشكلي على التداول بالدولار في السوق السوداء، مقابل سياسات تضمن تحوّل الدولار المتدفق إلى البلاد عبر الحوالات تحديداً إلى السوق السوداء. فمثلاً: أصبح سعر الصرف الرسمي 1250 ليرة، بينما سعر السوق تجاوز 2800 ليرة، وأصبح دخول الحوالات عبر المنافذ الرسمية التي توصل القطع الأجنبي للمصرف المركزي شبه معدوم، وتمّت خسارة كتلة تقارب 3 مليارات دولار من الحوالات، وفق آخر أرقام رسمية لعام 2018.
وبالمقابل، فإن العنوان الأساس للسياسات، هو إعلان تراجع قدرات المالية العامة، وسيل من السياسات التقشفية في الأساسيات، مثل: الخبز، والوقود، والمواد الغذائية المدعومة، مثل: السكر والرز، والأهم، تراجع في جملة الإنفاق العام المعبّر عنه في الموازنة العامة للدولة من 6,7 مليارات دولار في 2018 إلى 3,7 مليارات دولار في 2021 وتراجع بمقدار 40% خلال عامين، مقابل تراجع في القيم الفعلية للموازنة العامة بنسبة 60% ولكن خلال 8 سنوات! هذا عدا عن أن القدرة الإنفاقية الفعلية لموانة 2021 معرضة لمزيد من التراجع مع استمرار ارتفاع سعر صرف الدولار وتراجع قيمة الليرة.
كما توقفت سياسات تمويل المستوردات مع تراجع في قدرة الدولة على تمويل المستوردين بالقطع الأجنبي، وتمّ تحرير أسعار جملة المواد المستوردة، ومن ضمنها: جزء هام من المحروقات، التي أصبحت تسعّر على سعر يفوق 2200 ليرة للدولار، ومع معدل أعلى من السعر في لبنان مثلاً بنسبة 46% في البنزين أوكتان 95، ونسبة 52% في مازوت الصناعيين والنقل التجاري والبضاعي.
العنوان الثالث في سياسات عام 2020 هو (محاربة الفساد)، حيث تمّ فتح ملفات بيّنت أن أهم وأكبر وجوه المال في سورية يمكن إثبات إدانتها بتجاوزات سمحت بإصدار قرارات حجز احتياطي على العديد من أموال هؤلاء، وصولاً إلى ملف سيريتل والتجاوزات التي قاربت 140 مليار ليرة، ووضعها تحت الحراسة القضائية. ولكن بينما يلفّ الغموض هذه الملفات، فإن النتائج الواضحة، هي أن مصادرات فعلية، ومحاسبات جديّة لم تتم، أو على الأقل لم تتحول هذه الأموال أو المخالفات المترتبة على التجاوزات إلى أموال ترفد الخزينة العامة، وتتحول إلى دعم للإنتاج، أو لتأمين الطاقة بمستويات أعلى، أو حتى تخفيض أسعار بعض الغذائيات، بل على العكس استمرت الحكومة بسياسات (لمّ الموارد) من رفع أسعار موادها الأساسية وتقليص كتلة الدعم.
في الخلاصة...
السياسات بالمحصلة خلال العامين الماضيين، قادت التدهور الاقتصادي نحو مزيد من الكارثية، وارتفع عدد الجوعى في سورية إلى 9 مليون في مطلع عام 2020، ويثبت اليوم الفشل في تأمين الطاقة: الكهرباء، والتدفئة، ووقود النقل. ويتم تقليص دعم الغذاء، وأهمه: الخبز عبر تقليل كمياته إلى حد بعيد، وطوابير تأمين لقمة الخبز حتى بعد رفع سعره. وتبين أيضاً: أن يد القرار لا تستطيع أن تطال الفساد جدياً، أو لا تريد أن تحوّل موارده إلى عملية إنقاذية، رغم أنها أثبتت وأدانت مخالفاته!
إن سياسات كهذه تترك الأمور للمجهول... حتى لو كانت الفوضى هي النتيجة، وبعد أن اعتمدت دعم الاستيراد كأداة أساسية طوال الأزمة، فإنها عملياً تعلن اليوم أن جهاز الدولة (لا يستطيع) ويجب إدارته بطرق أخرى في إجراءات تمهّد لمزيد من الخصخصة... التي خبرنا استثماراتها خلال الأزمة في قطاع الاتصالات مثلاً، الذي تم تغيير عقده في 2015 ليصبح ترخيصاً ولا يعود للدولة، ويثبت تجاوزات هامة، وفي مجالات أخرى، مثل: الفوسفات والأسمدة بشراكات تعطي 70% للمستثمر، الذي يفشل في الإنتاج والتصدير حتى اليوم!
كل ما تبقى من قطاعات مهدد، إمّا بمزيد من رفع الدعم: الغاز والمازوت والكهرباء وحتى الخبز مجدداً، وجميع ممتلكات الدولة، التي يمكن أن تدرّ ربحاً قد تكون أيضاً عرضة للشراكة والاستثمار. حتى الآن هذا هو الاتجاه الواضح، وهو اتجاه لا ينقذ أحداً سوى الأموال المكدّسة، التي تبحث عن استثمارات مربحة فيما تبقى من مجالات حيوية في البلاد، وهو اتجاه لا يمكن أن يحلّ أبسط مشكلة، بل يفاقم الكوارث الاقتصادية الاجتماعية والملفات الإنسانية الكبرى في الظرف السوري: الجوع، الصحة، النزوح واللجوء، البطالة، وتوقف واسع للإنتاج...
لتحميل العدد 993 بصيغة PDF
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 993