الاتفاقيات الآسيوية... تزيح الاتفاقيات الأمريكية RCEP أكبر اتفاقية تجارة عالمية في آسيا

الاتفاقيات الآسيوية... تزيح الاتفاقيات الأمريكية RCEP أكبر اتفاقية تجارة عالمية في آسيا

تمّ في صباح 15-11- 2020 توقيع اتفاقية RCEP «الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة» في إطار لقاء قيادات تكتل ASEAN ودول شرق آسيا الهامة الأخرى في لقاء افتراضي انعقد بين 13-15 نوفمبر 2020. المبادرة التي أتت من دول آسيان العشر للتعاون مع الصين منذ ثماني سنوات توسعت لتشمل: اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلاندا.

بعد ثماني سنوات من المفاوضات وقّعت 15 دولة آسيوية على ما يسمى اليوم أكبر اتفاق تجارة حرة عبر العالم RCEP يضم 30% من سكان العالم و29% من الناتج الإجمالي العالمي تقريباً، و28% من التجارة العالمية، الاتفاقية التي تجمع المتناقضات الآسيوية... يرى البعض أنها تدل على تغير جيوسياسي هام، وتحديداً بعلاقتها بالاتفاقيات الأمريكية «المعلّقة» في المنطقة.

وكان من المتوقع أن تكون الهند ضمن الموقعين، ولكن انسحابها من التفاوض في العام الماضي أجّل هذا الانضمام، وقد أعلنت الهند أن انسحابها مدفوع برغبتها بالحمائية التجارية لاقتصادها، رغم أنها كانت لتكون ثالث أكبر اقتصاد ضمن المجموعة. المجموعة صرحت بأن الباب لا يزال مفتوحاً لتنضم الهند عندما تكون جاهزة، بل فتحت التصريحات الصينية الباب لتقول: إن الولايات المتحدة مرحب بانضمامها إن رغبت والتزمت باتفاقية تجارة حرة وفق قواعد آسيان.
(ودول آسيان العشر هي: إندونيسيا، ماليزيا، تايلاند، سنغافورة، فيتنام، الفليبين، كمبوديا، لاوس، ميانمار).

الاتفاقية ومرونة
(تحرير التجارة)

تعتبر RCEP مرنة قياساً باتفاقيات التجارة الحرة العالمية، إذ وضعت قواعدها على أساس تفاوضي طيلة ثماني سنوات، وهي تركز على تسهيل التبادل التجاري والتعاون الاستثماري، حيث تخفض الدول الرسوم الجمركية على البضائع القابلة للمعاملة بالمثل، ويمكن لها أن تبقي الرسوم على البضائع الحساسة، وتحديداً في مجال الغذائيات. كما أن الاتفاقية لا تفرض التزامات تتعلق بجوانب أخرى، مثل: معايير حقوق الملكية، ولا تتدخل في الجوانب المتعلقة بالقواعد البيئية والعمالة وشركات الدولة في الدول المشاركة، كما في اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، أو الشراكات الأخرى.

إن البحث المقارن بين نمط هذه الاتفاقية للتجارة الحرة، وبين الاتفاقيات الدولية الأخرى لتحرير التجارة يحتاج تفصيلاً أكثر، ولكن من الواضح أن الاتفاقية تركز على إدارة حركة التجارة بمرونة، ولا تنطلق من هدف «إزالة التعريفات»، كما أنها تركز على إدارة حلقات أو سلاسل الإنتاج العالمية والإقليمية المتركزة في المنطقة.

دول آسيان والصين مهتمة بالاتفاقية نظراً للتعمق الكبير في العلاقات التجارية والاستثمارية بينها، إذ تسعى الصين إلى تحويل هذه العلاقات إلى أُطر واتفاقات مستدامة تحديداً مع التشديد الأمريكي، ودعوة الإدارة للدول المجاورة للصين بإيقاف قروض البنى التحتية وتكنولوجيا الجيل الخامس.

لقد كان عام 2020 نقلة كبيرة في هذه العلاقات إذ زادت الاستثمارات الصينية في منطقة آسيان بنسبة 70% حتى نهاية شهر أيلول بالمقارنة بالفترة ذاتها في العام الماضي. فدول المنطقة كانت أول الخارجين بنجاح من أزمة فايروس كورونا، وقد سارعت إلى ترميم سلاسل الإنتاج والتبادل التجاري للتعافي الاقتصادي، ما يعتبره البعض واحداً من العوامل التي سرعت توقيع الاتفاقية التي كانت آجالها التفاوضية مفتوحة حتى عام 2021.

الأمريكان واتفاقياتهم الملغاة

تأتي الاتفاقية في ظل المرحلة الخطرة والانتقالية في الإدارة الأمريكية، لتصبح قواعد التعاون الآسيوي أمراً واقعاً في وجه الإدارة الأمريكية الجديدة... أياً كانت الطريقة التي ستتوجه بها نحو الشرق الأقصى.

لا يمكن النظر إلى هذه الاتفاقية بمعزل عن اتفاقية TPP الشراكة عبر المحيط الهادئ، تلك الاتفاقية التي أقرتها إدارة أوباما، وخرجت منها إدارة ترامب. والتوافق الشرق آسيوي الواسع اليوم، يعطي دول وقوى المنطقة الحليفة والمتنافرة مع الأمريكان موقعاً تفاوضياً أعلى، فالولايات المتحدة لم تعد القوّة التي تسنّ القواعد التجارية في المنطقة، وما حذر منه أوباما حصل فعلاً، إذ صرح سابقاً بإنّه: «إذا لم تكتب الولايات المتحدة شروط هذه الاتفاقية... فإن دولاً أخرى، مثل: الصين ستفعل ذلك». وبالفعل لقد وقّعت دول المنطقة اتفاقية RCEP تتناسب شروطها مع هذه الدول، وليس مع القواعد الأمريكية التي كانت تقول حينها «تخفيض الرسوم الجمركية إلى الصفر لـ 99% من البضائع» وتستبعد الصين من هذه الشراكة، وتفرض جملة من الاتفاقيات الإشكالية لعلاقة الشركات الكبرى العابرة للقارات مع الدول.

لقد انضم حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون لهذه الاتفاقية، وفي مقدمتهم: اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية، إذ يرى البعض أن هذه القوى الموجودة ضمن مجموعة العشرين تحتاج إلى موقع تفاوضي أعلى في العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة. إذ من المتوقع أن تعود إدارة بايدن «فيما لو استقر لها الحكم الأمريكي» إلى التفاوض ضمن اتفاقية CPTPP للتجارة الحرة بين 11 دولة على ضفتي المحيط الهادئ، التي فعّلتها اليابان في 2018 بعد إلغاء ترامب للاتفاقية الأمريكية.

RCEP بالجانب المرن منها واتساع أطرافها، تعطي رافعة في التفاوض لكل القوى الآسيوية مع الطرف الأمريكي حتى حلفائه... وتجعل مسألة الهيمنة الأمريكية عبر العلاقات التجارية معقدة. كما يرى البعض، أنها ستحفز نحو خطوات في العلاقات التجارية الصينية- الأوروبية، وقد تشكّل دفعة للاتفاقية الشاملة للاستثمار الأوروبية- الصينية CAI التي يتم العمل عليها والنقاش حولها بين الكتلتين الاقتصاديتين الهامتين. والتي يمكن أن تكون أيضاً ضربة استباقية لاتفاق الشراكة عبر الأطلسي للاستثمار والتجارة TTIP بين الولايات المتحدة وأوروبا، الاتفاقية التي أقرت أيضاً في عهد أوباما وتم إلغاؤها في عهد إدارة ترامب.

المحاولات المواربة للعرقلة

الولايات المتحدة لم تعلق على الاتفاقية، ولم تستطع أن تمنع مشاركة حلفائها بها، باستثناء تعليق لنائب وزير الخارجية لشؤون اليابان وكوريا الجنوبية، الذي طلب من الدولتين ألّا تتجاهلا الممارسات غير الديمقراطية الصينية، داعياً الدول المشاركة للحذر من التجسس الصيني! ولكن بالطبع الولايات المتحدة لم تكتفِ بهذا إذ لا يمكن فصل التوتر الجاري بين الصين وأستراليا عن المساعي الأمريكية للعرقلة، فأستراليا قدمت طلباً للتحقيق الدولي في منشأ فيروس كورونا وتحميل الصين المسؤولية، وردت الصين بتقييدات تجارية على دخول البضائع الأسترالية بقيم قاربت 500 مليون دولار في الحبوب وحدها، ولكن هذا لم يمنع أستراليا من التوقيع على الاتفاقية.

لا يبدو أن الولايات المتحدة لديها الكثيرمن المرونة للتعامل مع آسيا عبر المفاوضات التجارية... ومستوى الأزمة يزيد من حدّة وتوتّر السلوك الأمريكي لتلجأ إلى العقوبات والحرب التجارية، وترفع من شأن التدخل الأمني ضد الصين: عبر تسليح تايوان، والتدخل في هونغ كونغ، وأيضاً عبر ملف الإيغور في الصين، إذ أعلنت أمريكا مؤخراً أنها لم تعد تصنف الحزب التركستاني الإيغوري كمنظمة إرهابية.

ولكن، هذا لا يغير كثيراً من حقيقة أن التعاون الاقتصادي والتجاري يعمّق العلاقات الآسيوية في المدى المتوسط والطويل، ويجعل الأدوات الأمريكية أمنياً وسياسياً أقل فاعلية. إذ تنبغي الإشارة أخيراً إلى أن اتفاقية RCEP هي جزء من مفاوضات الصين وآسيان حول جملة ملفات تعاون، من بينها مدونة سلوك في بحر الصين الجنوبي لإقرار الاستقرار والسلام في المنطقة التي تحاول الأساطيل الأمريكية إثارة البلبلة حولها.

لتحميل العدد 992 بصيغة PDF

معلومات إضافية

العدد رقم:
992
آخر تعديل على الخميس, 19 تشرين2/نوفمبر 2020 16:42