حرائق الغابات في سورية: ما الرقم الدقيق... وما السبب الفعلي؟

حرائق الغابات في سورية: ما الرقم الدقيق... وما السبب الفعلي؟

الإحصائيات البيئية هي أقل الإحصائيات تفصيلاً في سورية، ورغم ارتفاع وتيرة الحرائق خلال العقد الماضي، وانعكاس التغيرات المناخية عالمياً في زيادة الحرائق عالمياً، إلا أن البيانات السورية لا ترصد دورياً هذه الحرائق أو لا تتيحها للجميع. وما ينشر عن الحرائق وخسائر مساحات الحراج يتباين إلى حدّ بعيد بين التقديرات الدولية والتقديرات المحلية...

يوماً ما كانت مساحات الغابات في سورية تشكل نسبة 32% من الأراضي السورية، وذلك في مطلع القرن العشرين هذه المساحات انخفضت إلى أقل من 2,8% من مجمل مساحات الأراضي بمساحة تختلف تقديراتها بين 522-580 ألف هكتار. هذه المساحة المسجلة منذ التسعينات وحتى اليوم دون تغيرات تُذكر ربما تكون قد تقلصت بمقدار يفوق الربع خلال أكثر من عشر سنوات مضت... وخسرنا ما يزيد على 140 ألف هكتار من الغابات.

التقديرات الرسمية:
(الغابات بخير)!

في دراسة حول التغيرات البيئية والمناخ في سورية منشورة في عام 2018 في المركز الوطني للسياسات الزراعية، فإن مساحات الحراج والغابات في سورية تراجعت بنسبة أقل من 2% وخسرت حوالي 11 ألف هكتار من المساحات. وتشير الباحثة إلى أن هذا التراجع القليل المنشور في الإحصائيات الرسمية ينجم عن نشر أرقام تأشيرية خلال الأزمة، وليس إحصاءً دقيقاً. ولم تتغير مساحة الحراج والغابات في محافظة اللاذقية التي تشتمل على مساحة 14% من الحراج السورية خلال سنوات الأزمة جميعها بما يتناقض مع سلسلة الحرائق الواسعة في عام 2016 وبقيت المساحة مثبتة عند رقم 85 ألف هكتار، وحتى في الفترات السابقة للأزمة لا تنشر الإحصائيات الزراعية تغيرات في مساحات الحراج الطبيعية، بل تغير فقط من مساحات الحراج بناء على توسّع عمليات الحراج الاصطناعي والتشجير.
ووفق البيانات المنشورة في البحث فإنه بين عامي 2010-2016 أدت الحرائق إلى أضرار في مساحات الغابات قاربت: 21,5 ألف هكتار من أراضي الغابات... عبر أكثر من 3600 حريق كان أوسعها مساحة في عام 2012، وأكثرها عدداً في عام 2016.

9881

تقديرات دولية
(خسرنا ربع الغابات)!

بالاعتماد على بيانات موقع EFFIS الدولي لرصد الحرائق عبر الأقمار الصناعية: The European Forest Fire Information System، فإن المساحات المتضررة بالحرائق في سورية خلال الفترة بين 2008-2018 وصلت إلى 130 ألف هكتار تقريباً، وهي نسبة 23- 25% من مساحات الغابات السورية، وفق تقديراتها الرسمية وتقديرات منظمة الفاو.
الملفت، أن هذه التقديرات ترافقت مع معلومات منقولة عن تقرير لمديرية الحراج في زراعة اللاذقية، التي قدرت أن الغابات السورية خسرت ربع مساحاتها خلال سنوات الأزمة. وهو التقرير غير المنشور، ولكنه واسع التداول نقلاً عن إحدى الصحف السورية التي تم إيقافها عن العمل في سورية.
ولكن التباين الكبير بين الإحصائيتين وتحديداً في عامي 2015-2016 يطرح تساؤلات حول الفوارق الكبيرة في الأرقام، وتحديداً حول وجود تقدير غير دقيق لحجم الحرائق واتساعها في عام 2015.

9882

موجة الحرائق الأولى في 2020

الموجة الأولى من الحرائق خلال شهري آب وأيلول في عام 2020 لم تصدر عنها تقديرات رسمية شاملة، باستثناء مديرية حراج ريف حماة التي أشارت إلى أن حرائق مناطق الغاب ومصياف اشتملت على قرابة 3895 هكتاراً حتى نهاية أيلول.
بينما رصد مركز الإنذار المبكر والاستشعار عن بعد في لبنان بتاريخ 21 أيلول 2020 تقديراً لمجموع الحرائق السورية بالفترة بين 11 آب- 21 أيلول بلغت: 9000 هكتار من أراضي الغابات. الجزء الأكبر منها كان في محافظة حماة في مناطق الغاب ومصياف بحوالي 3970 هكتاراً تقريباً، ثم في مناطق متفرقة في اللاذقية بحدود 4000 هكتار تقريباً، أعلاها في الحفّة بمساحة: 2000 هكتار تقريباً، مع 400 هكتار في جسر الشغور، والباقي موزع في مناطق أخرى في تلكلخ في حمص وصافيتا والدريكيش القدموس في طرطوس، وهي بمجموعها أراض حراجية.

الموجة الثانية

10% من زيتون اللاذقية و2% في طرطوس
أما حرائق شهر تشرين التي توزعت بين الأراضي الحراجية ووصلت إلى الكثير من الأراضي الزراعية، فلا تزال تقديراتها المحلية تصل تباعاً. حيث أشارت إلى بلوغ الحرائق في اللاذقية مساحة تراوحت بين 7200-8000 هكتار من الأراضي، وفي طرطوس بمساحة قاربت 1225 هكتاراً، بينما لم تصل التقديرات حتى الآن حول الأراضي المحروقة في ريف حمص الغربي الذي طالته الحرائق أيضاً، وإن كانت بمعدل أقل. ما يشير إلى أن حرائق الأشهر الثلاثة الأخيرة قد طالت مساحات تقارب 18 ألف هكتار تقريباً من الأراضي موزعة بين الحراج والأراضي الزراعية.
تنوعت الخسائر في موجة الحرائق الكبيرة، وطالت الأراضي الزراعية وبعض المواسم. إجمالي المتضررين المحصى حتى الآن: أكثر من 13 ألف أسرة في اللاذقية، وأكثر من 3000 أسرة في طرطوس، بينما كانت إحصائيات أخرى قد أشارت إلى أن عدد النازحين في وقت الحرائق في اللاذقية وصل إلى 30 ألف أسرة.

تعتبر أشجار الزيتون هي الأكثر تضرراً، ففي اللاذقية طالت الحرائق 1,1 مليون شجرة زيتون نسبة 10% من مجموع الأشجار في المحافظة، والبالغة قرابة 10 ملايين، 9 ملايين منها في طور الإنتاج. أما في طرطوس فإن نصف المساحات المحروقة تقريباً وأكثر من 1000 هكتار طالت أراضي مزروعة بالزيتون، وتضرر ما يقارب 230 ألف شجرة هي نسبة: 2% من مجموع الأشجار المقدّر في المحافظة والبالغ 11 مليون شجرة.
أما أضرار الحرائق على الحمضيات في اللاذقية فقد طالت 200 ألف شجرة تقريباً تشكل نسبة 2% من مجموع الأشجار في المحافظة. وقدرت مديرية الزراعة خسارة الإنتاج في الحمضيات بمقدار 17 ألف طن من إنتاج المحافظة الذي يقارب 860 ألف طن.
خسائر أخرى عديدة طالت أشجار التفاح والرمان، والمناحل وبعض المداجن ورؤوس ماشية في المحافظتين، ولكن بمعدل أقل من الأضرار في الزيتون والحمضيات... بينما لم ترصد الأضرار المقدرة الضرر في الحراج في موجة الحرائق الثانية، ولم تكتمل بيانات الأضرار الإجمالية بعد.

9883

الرغبة في الإشعال واستثمار الحراج

قيل الكثير حول افتعال الحرائق وأسبابها، ورغم أن موجة الحرائق الأخيرة كانت إقليمية وطالت لبنان والأراضي المحتلة في فلسطين، إلا أن وتيرة الحرائق وكثافتها فتحت الشكوك في سورية، وهي المبنية على جملة تقديرات سياسية واقتصادية... وإن كانت الغاية السياسية من افتعال الحرائق محققة باعتبارها تفيد في إثارة الهلع والفوضى والاضطراب، وتؤدي إلى أضرار مباشرة في معيشة السكان، وهو هدف معلن في سورية لقوى الفوضى في كافة مواقعها السياسية... فإن الأسباب الاقتصادية المرتبطة بنشاط وضع اليد على الأراضي الحراجية واستثمارها قد لا يكون أقل أهمية.
يربط البعض بين ظاهرة التفحيم وبين الحرائق الحراجية، ولكن الربط غير دقيق تماماً... فقطاع التفحيم لا يستفيد من احتراق الأشجار مباشرة، لأنه يحتاج إلى تقطيع الأشجار بشكل نوعي وانتقائي لتحويلها إلى فحم غالي الثمن. ولكن بالمقابل، تؤدي الحرائق الحراجية إلى إتاحة استثمار واسع ومنظم لمساحات حراجية تعرضت للحرائق عبر تنظيم عمليات تحطيبها لاحقاً تحت ضغط الأمر الواقع، كما تتيح الحرائق تغيير بنية المنطقة الحراجية وتفتح احتمال تحويلها للاستثمار الزراعي والعقاري.

والأهم من ذلك، أن نشاط قطاع التفحيم قد يكون المسبب المباشر لهذه الحرائق، وتحديداً أن معظمه غير منظم، ويتم في قلب الغابات، وهو الذي يعتمد على إنشاء المشاحم لإحراق الحطب الأخضر، ويمكن أن يسبب انتقال النار في الأجواء المناسبة. حيث تشير بعض التقديرات إلى وجود أكثر من 1500 مشحمة مرخصة، وأكثر منها مشاحم غير نظامية تنتشر في معظم ريف المنطقة الساحلية.

وفق أحد التحقيقات الاستقصائية، فإن سلسلة إنتاج ومبيع الفحم في مناطق الساحل السوري تمر بالشكل التالي: يبيع الحطابون الحطب الأخضر إلى المشاحم (أو المفحمة وهي حفرة يحرق فيها ما يقارب طناً من الحطب الأخضر لينتج قرابة 300 كغ من الفحم الطبيعي). ويختلف سعر المبيع وفق نوع الحطب، ولكنه كان يتراوح في العام الماضي ما بين 40-150 ليرة للكيلو من الزيتون وصولاً إلى السنديان وهو الأغلى ثمناً. أما أصحاب المشاحم ومعظمها غير مرخصة، فهؤلاء يبيعون لتجار كبار ووكلاء يستلمون المنطقة بمعدل كان يصل في العام الماضي إلى 500 ليرة للكيلو من الفحم الطبيعي. أما سعره في المدن للمقاهي والمحال أو لحطب التدفئة فيتباين كثيراً، ولكنه لا يقل عن 1500 ليرة للكيلو. وبعض التجار يقدمون مبلغاً مقطوعاً بالدولار لأصحاب المشاحم تختلف حسب الكمية ونوع الحطب.

إن هذه التجارة تتضمن مرابح تصل إلى 300% وهي تعتمد على حاجة أبناء الريف إلى أي مصدر دخل إضافي، وعلى جملة النشاط الشرعي وغير الشرعي للمشاحم، الذي يمكن أن يغطيه حملة السلاح وينظم تجارته غير الشرعية أمراء الحرب، وهي ظاهرة متوسعة ومعروفة في المنطقة وواحدة من النشاطات الاقتصادية لهؤلاء.
إن حرائق تطال عشرات آلاف الهكتارات يمكن أن تكون بمثابة ثروة موعودة وسوق هامة، وتتيح تغيير تركيبة الأراضي الزراعية والاستيلاء على الأحراج، والاستفادة من توسيع عملية التحطيب بشكل منظم. وإن كانت موجة واحدة من الحرائق قد قضت على هذا العدد من الأشجار بمعدل يزيد على 1,5 مليون شجرة، فإن تجارة الفحم والتحطيب تقضي على أعداد كبيرة من الأشجار ولكن بصمت طوال السنوات الماضية.

988-21

عدم القدرة على الإطفاء

أخيراً، ما يمكن قوله حول الحرائق، هو (العورة) التي كشفها ضعف القدرة على الإطفاء، والتي تعود بالدرجة الأولى إلى التراجع الكبير في الإنفاق على خدمات الدفاع المدني. ففوج إطفاء اللاذقية على سبيل المثال معني بحرائق قد تطال 85 ألف هكتار من أراضي الغابات، ولكنه لا يمتلك سوى 34 سيارة إطفاء، كان على كل سيارة منها أن تغطي وسطياً مساحة تفوق 200 هكتار من الحرائق في الحريق الأخير الممتد على أكثر من 7000 هكتار في اللاذقية وحدها... كما بينت سلسلة الحرائق أن مستوى انخفاض الإنفاق والخدمات متدنٍ إلى حدّ أن عمال فوج الإطفاء يطالبون بأجهزة لاسلكية للتواصل فيما بينهم لم يتم توفيرها...
تشير دراسة السياسات الزراعية المذكورة سابقاً إلى أن المساحات المحترقة في الحريق الواحد في سورية ارتفعت من 0,6 هكتار للحريق الواحد في 2010 إلى 5,8 هكتار للحريق في 2015، ما يشير إلى التراجع الكبير في القدرة على إطفاء الحرائق وتضييق أثرها، حيث إن عدداً أعلى من الحرائق في 2010 كان يؤدي إلى أضرار أقل بالمساحات في سنوات الأزمة، مع تراجع جملة القدرات والخدمات العامة والإنفاق الذي انعكس أيضاً في خدمات الدفاع المدني والإطفاء تحديداً كما ذكرنا وقدرات مراكز الحراج.

988-4


إن الحرائق الكبرى التي طالت الحراج والأراضي الزراعية خلال هذا العام تلفت النظر إلى جملة من المسائل، أولها وأهمها: ضعف الاهتمام والتعتيم على هذه الثروة... الأمر الذي ينعكس في بيانات وإحصاءات رسمية غير دقيقة تثبت مساحة الغابات في سورية، وتعكس إخفاء الوقائع أو التعامي عنها أو بالحد الأدنى عدم اهتمام وتقدير لحجم هذه الثروة. حيث بعض المقارنات الدولية التي قد لا تكون دقيقة تماماً بالمقابل تشير إلى أن غابات سورية قد تكون تراجعت بمقدار الربع خلال سنوات الأزمة، مع كل ما يكتنفه هذا من خسائر مستدامة قد تكون غير قابلة للترميم مع خسارات في البيئات الحيوية، والأنواع النباتية التي تقوم في هذه الغابات.
الحرائق تعكس أيضاً تراجع القدرة على إدارة أزمات من هذا الحجم، وهي أزمات متوقع تكرارها في ظل ظروف سياسية تدفع جهات مشبوهة إلى إثارة الفوضى بأية طريقة، وظروف مناخية ترفع معدلات الحرائق عبر العالم وفي منطقتنا، وظروف اقتصادية تدفع إلى توسع النشاط غير المنظم والجائر، الذي يستهدف هذه الثروة، والذي يمكن أن يكون مسبباً في إيقاد الحرائق عبر المشاحم، أو عبر الرغبة بالاستيلاء على الأراضي الحراجية وتحويلها للاستثمار.
إن إدارة هذه المناطق بطريقة فعّالة تتطلب قدرات إنفاق وخطط أزمات وكوارث وتجهيزات، ولكن الأهم: أنها تتطلب وعياً لحجم كارثة من هذا النوع وأثرها المستقبلي... تتطلب وجود مفهوم وطني للتعامل مع البيئة، وتتطلب أيضاً إيجاد سياسات تربط السكان المحليين بهذه الغابات، وتدفعهم لحمايتها عبر استفادتهم المنظمة منها، وليس عبر دفعهم تحت وطأة الفقر للجور عليها تحطيباً وتفحيماً وتعدّياً تحت غطاء كبار التجار والسماسرة.

 

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
988