العملات الإلكترونية المركزية... نواة منظومة ما بعد الدولار

العملات الإلكترونية المركزية... نواة منظومة ما بعد الدولار

تسجّل الصين سبقاً استثنائياً في واحد من المجالات التي ستدخل ميدان المنافسة الدولية قريباً وبحدّة وهو: العملات الإلكترونية المركزية التي يُرمز لها (CBDC)... ورغم أن العديد من البنوك المركزية العالمية تجري أبحاثاً حول الموضوع، إلّا أن الوصول إلى مرحلة التطبيق التجريبي تقتصر على 7 دول، الصين أهمها، مع فجوة كبيرة في حجم التداول وتنوع التجارب.

أفصح بنك الشعب الصيني: أن استخدام اليوان الإلكتروني الصيني شمل 3,13 مليون عملية تحويل بقيم تعادل 1,1 مليار يوان، وحوالي 162 مليون دولار. أضيف إليها في يوم الجمعة 9-10-2020 أكبر تجربة عامة في مدينة شينزين، حيث تم توزيع 10 ملايين يوان على 50 ألف مستخدم، تم اختيارهم بالقرعة ليتداولوا بالعملة الإلكترونية.
في بلد الـ 1,4 مليار نسمة (الذي كان حتى الأمس القريب في مطلع الألفية يضم أكبر عدد من فقراء العالم) أصبحت أكثر من 80% من التداولات المحلية تتم عبر تطبيقات الهواتف الذكية ودون نقد ورقي، مع كل ما يعكسه هذا من مستوى تنموي: بُنى تحتية تكنولوجية لوصول الإنترنت، وتطور قدرات المستخدمين، وشبكة التجارة الإلكترونية. ولكن الأهم: أن هذه القاعدة الواسعة للتداول الإلكتروني كانت في إطار التجهيز للعملة الإلكترونية الصينية: اليوان الإلكتروني، الذي سيستبدل اليوان الورقي بالكامل.

(السبع الكبار) يحاولون اللحاق

العديد من البنوك المركزية حول العالم هي في طور الأبحاث حول تطبيق العملات الإلكترونية، بينما دخلت طور التطوير مجموعة من 7 دول: كندا، فرنسا، البرازيل، فنزويلا، جنوب إفريقيا، الإمارات، وكمبوديا. أما المرحلة الأعلى، وهي التجريب التطبيقي، فيقتصر على 7 دول أيضاً: إضافة إلى الصين، هنالك السويد، أوكرانيا، كوريا الجنوبية، تايلاند، الأورغواي، وجزر الباهاماس.
الولايات المتحدة لم تحسم مسألة الدولار الإلكتروني إلا في الشهر الماضي، حيث تجري انعطافة في مستوى الاهتمام بـ CBDC من جانب البنك الفيدرالي الأمريكي ومجموعة البنوك المركزية المرتبطة بالمنظومة الغربية.
في يوم الجمعة ذاته 9-10-2020 تم تداول بيان إعلامي عن اجتماع في بنك التسويات الدولية BIS مع البنوك المركزية السبعة الكبار: (الفيدرالي الأمريكي، المركزي الأوروبي، البريطاني، السويسري، الياباني، الكندي، الأسترالي). حيث كانت أعمال الاجتماع حول التعاون في مجال العملات الإلكترونية المركزية، وإيجاد إطار مشترك للبحث والتطبيق، في مواجهة تحدّيين، الأول: هو الريادة الصينية في هذا المجال، والثاني: هو العملات الإلكترونية الخاصة التي تتوسع سريعاً في الغرب وتهدد وزن البنوك المركزية ودورها في التحكم بالمال والتداول، وأبرزها: الليبرا عملة فايسبوك الإلكترونية، والبتكوين.

ما أهمية السبق في CBDC؟

رفع المركز الأطلنطي للأبحاث نداءً موجهاً للولايات المتحدة والفيدرالي الأمريكي بالإسراع للحاق والسبق في هذا المجال، منطلقاً من أن العملة الإلكترونية المركزية هي أساس النظام النقدي الدولي الجديد، ومن يسبق في ميدان التطبيق سيكون أوّل من يحدد قواعد هذا النظام وينشرها، وأنّه إذا لم تستطع الولايات المتحدة أن تلحق بالسبق الصيني فإن أمريكا ستخسر قيادتها للنظام النقدي الدولي.
يشير المركز إلى أن العملات الإلكترونية ستكون رافعة كبرى في التنافس الدولي بين القوى الكبرى: لتشكيل التحالفات، وتجنب العقوبات، وجمع بيانات عمليات المدفوعات بشكل شامل لم يكن قابلاً للتحقق عبر العملات السابقة، ويلخّص أهمية المنظومة الجديدة للعملة الإلكترونية المركزية في ثلاثة مجالات:

ثورة في التبادل والمدفوعات.
إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص والمؤسسات المالية، وشركات التكنولوجيا.
إعطاء الدول القدرة على تصميم نظام مدفوعات مستقل يعمل بشكل منفصل عن النظام القائم على الدولار.

تكنولوجيا المال ساهمت في ترسيخ الدولار

إن تطوّر وترسّخ منظومة الدولار اعتمد على وزن الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وملكيتها لأكبر احتياطي ذهبي، ولكنه انتقل في السبعينات لتترسخ المنظومة بربط الدولار بالنفط، بينما شهدت المرحلة اللاحقة نقلة أيضاً في النظام النقدي الدولي الذي يقوده الدولار، قامت هذه النقلة على تكنولوجيا قطاع المال، التي تظهر تجلياتها في مجموعة منظومات، منها: البورصات وأسواق المال، وآليات خلق النقد والمشتقات ومضاعفتها، وآليات التسعير الدولية التي تساهم إلى حد بعيد في تحديد أسعار السلع الأساسية، عبر قواعد بيانات ومعلومات تملكها شركات خدمات مالية خاصة كبرى، إضافة إلى مؤسسات تنظيم التداول وتيسيره، مثل: سويفت وغيرها... وجميعها ارتبطت بظهور الإنترنت وتطور إمكانات تجميع البيانات ونقلها. ولكنها أصبحت محدودة بالقياس إلى البنية المعقّدة للعملات الإلكترونية اليوم.

تكثيف تكنولوجي عالٍ
جوهره البيانات

تتكثّف في منظومة العملة الإلكترونية مجموعة من أعلى التطبيقات التكنولوجية في تكنولوجيا خدمات المال، وفي علوم الاتصالات والمعلومات: من قواعد البيانات وما تتطلبه من كمبيوترات فائقة، إلى منظومة التشفير، وصولاً إلى تطبيقات التشبيك والترابط وغيرها الكثير في بنية فائقة التعقيد. تطور وإطلاق هذه المنظومة يعكس أعلى مستوى من التطور في تطبيقات هذه العلوم، وهو يتيح للطرف الذي يحقق سبقاً في هذا المجال أن يقفز قفزات نوعية في إنشاء قواعد عملها. ولكن يمكن القول: إن النقد الجديد سيعكس القدرة على امتلاك وتوظيف السلعة ذات القيمة الاستثنائية في العصر الحالي، وهي: البيانات. وهو سيعطي وزناً نوعياً للدولة التي تدير قاعدة البيانات الدقيقة والكبرى لكل عمليات التداول التي يقوم بها كل المستخدمين، ويعطيها قدرة استثنائية على التنظيم والتحكم. إن هذه القدرة تثير الكثير من المخاوف المحقّة، وهو فعلاً يتناقض مع مقولة (الخصوصية) ويتيح (للأخ الأكبر) - كتعبير عن جهاز الدولة- مستوى عالٍ من التحكم بالأفراد، من خلال التحكم بعمليات التداول كطريق حتمي لتلبية الحاجات، وجميع ما سبق هو أكثر ما يتم تداوله في الإعلام الغربي حول هذه التكنولوجيا. ولكن المسألة تبدو محسومة في المجتمع الصيني، والأولويات مختلفة، وهذه المخاوف غير مطروحة بالحدّة ذاتها، وتظهر المسألة كأن المجتمع الصيني يُعلي الخدمات على الخصوصية، ولكنها تعكس علاقة مختلفة مع جهاز الدولة، وثقة أعلى.

التكنولوجيا الفرصة والتحدي

إنّ السؤال الذي تطرحه كل نقلة تكنولوجية كبرى هو ذاته: ما المصالح التي تحدد الاستفادة من هذه التكنولوجيا؟ المرتبط بدوره بمن يملك التكنولوجيا، وكيف يوظّفها ولأيّة غاية؟ وضمن أيّة منظومة علاقات إنتاجية واجتماعية يمكن استثمار هذه التكنولوجيا الجديدة لتكون دفعاً للأمام، وليست تهديداً؟!
منظومة العملة الإلكترونية تتيح أعلى ضبط وتنظيم لعمليات التداول، التي غايتها العميقة تلبية الحاجات الاجتماعية، إنّها تستطيع أن تحقق أعمق فهم للحاجات عبر قاعدة البيانات الهائلة، وتستطيع بالتالي أن تشكل قاعدة أساسية متشابكة لتنظيم شبكة معقدة من الحاجات الاجتماعية، والبنى الإنتاجية والخدمية، التي تلبيها، إنها تقدّم أداة تخطيط اجتماعي متقدمة وسريعة وموثوقة.
ولكن المشكلة لا تزال فيمَنْ يمتلك هذه البنى الإنتاجية، وما غايته من الإنتاج... إن مثل هذه التكنولوجيا لن تخدم البشرية بكل طاقتها إلّا مع زوال غاية التحكم من أجل الربح والهيمنة، والانتقال إلى غاية التحكم بغرض تأمين الحاجات أي: الاشتراكية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
987