بريتون وودز جديدة... تبديل المال العالمي حتى 2022

بريتون وودز جديدة... تبديل المال العالمي حتى 2022

أصبح التجهيز لمرحلة ما بعد الدولار، أمراً محسوماً. (فالنقد العالمي) بمجمله سينتقل إلى صيغة جديدة... ويبدو أن الأزمة تضع هذا الاستبدال (على نار حامية)، حيث أطلق صندوق النقد الدولي دعوة إلى مفاوضات بريتون وودز جديدة لإعادة صياغة النظام النقدي، والانتقال من قاعدة الدولار إلى نظام موحد للعملات المركزية الإلكترونية.

تحدث صندوق النقد الدولي بتاريخ 15-10-2020 عن استحقاق لحظة بريتون وودز جديدة، تيمناً بمباحثات الدولية التي جرت في عام 1944، حيث انضم 44 من قادة العالم إلى مفاوضات صياغة النظام النقدي الدولي، ذاك الذي خرج عنه استبدال قاعدة الذهب، بقاعدة الدولار المغطى بالذهب، والذي تحدد العملات الدولية الأخرى على أساسه.

لحظة بريتون وودز

رسخت تلك اللحظة بداية هيمنة الدولار العالمية المبنية على (النصر الأمريكي) بعد الحرب العالمية الثانية، حيث خرجت الولايات المتحدة: بأكبر احتياطيات ذهب، وأعلى نمو اقتصادي، وأعلى مستوى عسكري وتكنولوجي، وبأقل الخسائر والأضرار وأعلى مستوى جاهزية لإعادة إعمار أوروبا... وكل ما ينجم عن ذلك موضوعياً من وضع متقدم لعملتها «الدولار الأمريكي» ومقدرتها على لعب دور عالمي، في لحظة احتاج العالم فيها (لعملة عالمية). وتشكلت منظومة الدولار العالمي بما فيها جملة مؤسسات ومنظمات إدارة النقد والإقراض الدولي، مثل: صندوق النقد والبنك الدوليين.

لقد كانت اللحظة الدولية في 1944 تعكس نهاية معركة، والتفاوض بناء على الأوزان الجديدة، التفاوض على واحدة من أهم جوانب (الإدارة والهيمنة العالمية) وهو (النقد العالمي). وصندوق النقد الدولي يقول اليوم: إنها (لحظة بريتون وودز جديدة) فهل نحن اليوم في نهاية معركة وبداية عملية تفاوض دولي بناء على تغير الأوزان؟! =

لحظة (أزمة نمو وديون)

بالعودة إلى التصريحات والإعلانات المتعلقة بالموضوع، فإن رئيسة صندوق النقد الدولي وفي خطابها للقاء السنوي 2020، تركّز على أن هذه اللحظة ناتجة عن حجم الأزمة الاقتصادية الدولية. وتربط الأزمة بوباء كورونا بالدرجة الأولى، (كما جرت العادة في وصف أزمة 2020 بينما كان الجميع يترقب انفجار الأزمة في 2019-2020 بغض النظر عن الوباء الذي أتى ليطبع الأزمة المرتقبة بطابعه).

تشير رئيسة الصندوق: أن الاقتصاد العالمي سيخسر على الأقل في عام 2020 4,4% من قيمته وأكثر من 11 تريليون دولار، وأن الفقر سيزداد عالمياً، والأهم: أننا نتجه إلى مرحلة طويلة من تراجع الإنتاجية، وأزمة عمل وتراجع في الدخول وتفاقم في اللامساواة وفق تعبيراتها. كما تربط الأزمة أيضاً بكتلة الديون الهائلة غير القابلة للسداد، والتي تصل إلى عتبة من الحاجة الملحّة إلى إعادة الهيكلة.

إعادة هيكلة الديون

صندوق النقد الدولي، يعلن أن إدارة مخاطر الديون هي مهمة أساسية، سواء ديون الحكومات أو القطاع الخاص... إذ يتوقع أن يصل دَين الحكومات في العام القادم إلى نسبة 125% من ناتج الدول المتقدمة، و65% من ناتج الدول الصاعدة، و50% من ناتج الدول منخفضة الدخل، هذا عدا عن مجمل الدَّين العالمي الذي يفوق 350% من الناتج العالمي.

الصندوق يقول: إن فترة السماح بعدم سداد الدَّين التي تم الاتفاق عليها وتمديدها من جانب مجموعة العشرين (أكبر عشرين اقتصاداً عالمياً)، لا يمكن أن تستمر... وأنه ينبغي إعادة هيكلته دون تأخير. 

يمكن القول: إن صندوق النقد (وهو المؤسسة الواجهة لحكم المال العالمي) يعلن أنّه ما من نمو في الأفق القريب، وأنّه ينبغي أن تتم إعادة ترتيب للديون العالمية، في إطار تفاوضي لأكبر عشرين قوة عالمية مع المؤسسات النقدية الكبرى العابرة للدول. وفي إعادة الهيكلة، هنالك دائن ومدين، خاسر ورابح، وإعادة ترتيب واسعة للثروات العالمية، وبالفعل هذه لحظة مناسبة ليطلق الغرب هذه العملية قبل فوات الأوان.

الاقتصاد العالمي بوضعه المأزوم والهش الآن، أصبح يتنفس عن طريق تدفق الدَّين، وتحديداً الدولار الآتي من البنوك المركزية الغربية. وهي عملية إنعاش لا يمكن أن تستمر طويلاً! ولذلك، تريد البنوك المركزية في الغرب المملوكة (للطغم المالية العالمية) أن تقبض ثمن هذا الإنعاش، وترث تركة الدول والشركات والتجمعات المالية الأضعف، قبل أن يفقد التدفق المالي قدرته على الإغاثة، أي: قبل أن تفقد كتلة الدولار قيمتها وتنهار، ولذلك فإن استبدال العملة الدولية واحدة من الخطوات الأساسية.

إذا كانت الديون والدولار هي عنصر القوّة الأساس للمنظومة المالية الغربية حتى الآن فإن هذا الدولار لم يعد مضمون الاستمرارية

العملة الإلكترونية المركزية

إذا كانت الديون والدولار هي عنصر القوّة الأساس للمنظومة المالية الغربية حتى الآن، فإن هذا الدولار لم يعد مضمون الاستمرارية... ويمكن أن يؤدي تراجع الهيمنة الأمريكية سياسياً وعسكرياً وتكنولوجياً إلى انهياره وانهيار قوّة الدَّين معه! لذلك فإن إعادة تقييم الديون (بالعملات الدولية الجديدة) يبدو أمراً مطروحاً على طاولة التنفيذ السريع.

بتاريخ 13-10-2020 صدر تقرير عن financial stability board وهو الهيكل الاستشاري الدولي الذي تمّ تأسيسه من قبل مجموعة العشرين في عام 2009 والمعني بمتابعة استقرار النظام المالي العالمي، حيث أعلن التقرير عن جملة الجهود بما يخص عملات الاستقرار الدولية GCSs، تنظيمها والإشراف على ترتيبات إصدارها بصفتها عملات إلكترونية مشفّرة ستصدر عن المؤسسات الدولية. يعكس التقرير نقاشات على مستوى بنى سياسية ومؤسساتية دولية كبرى: دول مجموعة العشرين، ومدراء البنوك المركزية الأكبر، وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنك التسويات الدولية... ويشير إلى أن هنالك مسعى لإيجاد إطار لتنظيم هذه العملات وتوحيد أسس إصدارها مع الإشارة إلى أنها قد تكون على أساس كتلة العملات الدولية الموجودة حالياً، وأن الآجال الزمنية لتشكيل الإطار: عامان لا أكثر... وحتى 2022 ستكون الأطر والاختبارات مكتملة. 

سبق هذا الإعلان اجتماع آخر لمجموعة البنوك المركزية السبعة الغربية مع المؤسسات الدولية ذاتها لتوحيد أطر تشكيل العملات الإلكترونية المركزية للّحاق بالسبق الصيني في هذا المجال، واحتواء العملات الإلكترونية الخاصة بما فيها عملة فيسبوك ليبرا، وبيتكوين وغيرها.

عملية سياسية شاملة

إن السمة الأساسية للهيمنة الاقتصادية العالمية الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، هي امتلاك المال العالمي... وإن كان الدولار هو شكل تجليه السابق، فإن الدولار يصبح عبئاً، وينبغي التخلص منه للحفاظ على (ملكية المال العالمي)... وهو ما يتطلب عملية (تبديل العملات الدولية) وإعادة هيكلة واسعة للديون العالمية لتحويل الديون إلى ملكية ثروات فعلية، امتلاك قرار الدول والحكومات المقترضة، وامتلاك قرار الشركات المثقلة بالديون، وتجميع مدخرات واحتياطيات المال العالمية، وإعادة تقييمها واستبدالها بالعملة الصادرة عن المؤسسات الدولية الشاملة الكبرى.

إنها عملية إعادة توزيع للخسائر ومركزة للقوّة، ولذلك ستكتنف على صراعات كبرى مع الحكومات التي ترتهن للغرب مالياً، وستضطر أن تدفع له من مجتمعاتها المأزومة التي ستدخل في صراعات معها، ومع البنى الاقتصادية من شركات وقطاعات قد لا تقبل عملية إعادة الترتيب، التي سيحاول قطاع المال أن يضمنها لصالحه، والأهم من القوى الدولية الجديدة وأبرزها: الصين السبّاقة اقتصادياً وتكنولوجياً وتحديداً في مجال العملات الإلكترونية المركزية، والتي لن ترضى أن يُعاد ترتيب الهيمنة المالية والمؤسساتية الدولية لمصلحة الغرب.

الغرب يحاول أن يفرض لحظة تفاوض مبكّرة، حيث لا يزال في موقع أفضل، من حيث استفادته من وظيفة المال العالمي، ولكن لحظة التفاوض مسألة معقدة لا يحددها مالكوا المال العالمي في الغرب وحدهم، طالما أن وزنهم في تراجع ووزن الآخرين في تقدم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
989
آخر تعديل على الثلاثاء, 18 تشرين1/أكتوير 2022 22:17