الحرب التكنولوجية... الولايات المتحدة (تشتري الوقت) من التطور التكنولوجي الصيني

الحرب التكنولوجية... الولايات المتحدة (تشتري الوقت) من التطور التكنولوجي الصيني

ستكون الحروب الاقتصادية الأمريكية ضد الصين سمة من سمات المرحلة القادمة من العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية... وليست حدثاً مؤقتاً أو إجراءً إدارياً تختاره هذه الإدارة الأمريكية أو تلك! لأن الحرب الاقتصادية والتكنولوجية بالدرجة الأولى تعتمد على استهلاك باقي عوامل القوّة الأمريكية، التي تستهدف إيقاف التقدم الصيني.

أصبح (التوتر التكنولوجي) واحداً من المعارك الساخنة المنقولة علناً ووصلت إلى حد استهداف شركات بعينها، مثل هواوي التي تم اعتقال مديرتها التنفيذية، وإلى الحديث عن منع تطبيق تيك توك أو فرض بيعه لشركة مايكروسوفت الأمريكية! ولكن هذا ليس إلاّ (غيضاً من فيض) ضمن الإجراءات الأمريكية المتصاعدة منذ 2015... عندما أعلنت الصين عن خطتها الصناعية والتكنولوجية (صنع في الصين 2025) التي تستهدف تطوير قطاعات التكنولوجيا العالية الصينية وتقليل الاعتماد على الخارج.

بدأت الإدارة الأمريكية في 2019 التركيز علناً على القطاع التكنولوجي الصيني وشركات ومجالات بعينها... ولكنها في 2017- 2018 استكملت بناء بنية تشريعية لمراقبة قطاع التكنولوجيا الأمريكية وإدارة تعاملاته الدولية، وقد كانت بعض هذه التشريعات صياغة مشتركة لسيناتورات جمهوريين وديمقراطيين، ولم يحصل عليها خلاف كما يجري في أغلب ملفات السياسات الأمريكية حالياً! حيث يتفق أطراف الحكم العميق الأمريكي (رغم كل خلافاتهم) على محاولة منع التقدم التكنولوجي الصيني.

ضمن عينة من 869 شركة صينية فإن الموردين المحليين يشكلون نسبة 42% والباقي أجنبي 30% منه تقريباً غربي

 

ثلاثة محاور للحرب التكنولوجية على الصين

 تريد الولايات المتحدة أن تمنع الصين من سد الفجوات التكنولوجية المتبقية بين الصين والغرب ومنع (اللحاق والسبق) الصيني، وهو ما يظهر في ثلاثة اتجاهات: تقييد الاستثمار الصيني في التكنولوجيا، وتقييد تصدير التكنولوجيا إلى الصين، وفرض التعرفات الجمركية. وفق ما يلخصه تقرير صادر عن S&P Global Ratings*.

التقييد الاستثماري، يعني وجوب حصول الشركات على موافقة من الحكومة الأمريكية للتعاون مع رأس المال الصيني في الصناعات التكنولوجية لتقليص حيازة أو مشاركة الاستثمارات الصيني لشركات تكنولوجية أمريكية أو حتى غربية تلقى الدعم أو المشاركة من شركات أمريكية.

في 2016 استطاعت الولايات المتحدة منع صناديق الاستثمار الصينية من حيازة شركة ألمانية منتجة لأشباه الموصلات، باعتبارها تلقى الدعم من الولايات المتحدة، وفي 2017 تمت مراجعة 50 صفقة استثمار صينية في مجال التكنولوجيا والسماح لنصفها بالعمل، وارتفع معدل الرفض في بعض القطاعات إلى أعلى من النصف! أمّا في عام 2018 أقرّ هذا التوجّه بتشريع (FIRRMA) لتحديث ومراجعة مخاطر الاستثمار الأجنبي والذي وسع صلاحيات إدارة الاستثمار الأمريكية على قطاع الأعمال في 27 صناعة تضمنت البطاريات، التخزين الحاسوبي، النانوتكنولوجي، البايوتكنولوجي، أشباه الموصلات، ومعدات الاتصال اللاسلكية.

توسّعت الاستثمارات التكنولوجية الصينية في الخارج إلى حد بعيد منذ ما بعد أزمة عام 2008 مساهمة بالفعل في نقل التكنولوجيا للصين، ووصلت هذه الاستثمارات إلى الذروة عام 2016، ثم تراجعت بحدّة خلال الأعوام القليلة الماضية نتيجة أمرين: سعي الصين إلى استثمار أموالها في قطاعها التكنولوجي الداخلي، وتقييد الغرب لاستثمار الأموال الصينية في التكنولوجيا الغربية.

إنّ الاستثمار التكنولوجي الأجنبي المباشر الصيني ارتفع من 1 مليار دولار في 2008 إلى 40 مليار في 2016، ليتقلّص بعدها إلى بنسبة 66% إلى حدود 13 مليار دولار في عام 2018... وذلك في ست دول متقدمة تعتبر الوجهة لأكثر من ثلاثة أرباع الاستثمارات الصينية التكنولوجية.

أمّا منع التصدير فيشمل تقييد بيع معدات التكنولوجيا الأمريكية للصين، ما يجعل من الصعب على الشركات الصينية في سلاسل التوريد أن ترتبط

  

979-7

بالشركات الأمريكية وتورّد لها. وهو أيضاً ما تمّ التشدد به في عام 2018 عبر إجراء (ECRA) للتحكم بالتصدير التكنولوجي، وفي 2018 تم تطبيق تقييد التصدير إلى شركتي ZTE وFujian الصينيتين، وهما من أهم الشركات التي تعتمد على تكنولوجيا أشباه الموصلات الأجنبية.

 

التعرفة الجمركية واستهداف شركات بعينها

 وأخيراً، يعتبر فرض التعرفة الجمركية الإجراء الثالث في الحرب التجارية، والذي استهدف البضائع الوسيطة التكنولوجية الصينية على وجه التحديد. حيث يعتبر فرض تعرفة أعلى على البضائع التكنولوجية الصينية وسيلة لسحب الاستثمارات التكنولوجية الأمريكية من الصين وتوجيهها إلى مراكز أخرى، لأنها أصبحت أعلى تكلفة.

أما مؤخرا،ً فتسعى الولايات المتحدة لعرقلة استفادة الصين من سبقها التكنولوجي المُنجز، ومنعها من تحقيق مكاسب دولية والتوسع في الخارج، وهو ما يظهر في الإجراءات المتخذة ضد شركات رائدة في مجالات تكنولوجية أساسية، كما يحدث مع هواوي الرائدة في مجال الـ 5G والتي تعتبر جزءاً من تطوير صناعة أشباه الموصلات في الصين، وحالياً التضييق على تيك توك الذي يستهدف ليس فقط التطبيق الصيني الأسرع انتشاراً في العالم، بل شركة Tencent التي تمتلك أيضاً (وي تشات) الصيني، والتي تعتبر ثاني أكبر شركة في آسيا من حيث القيمة السوقية، وإحدى أهم مالكي قواعد البيانات الكبرى ومطوري التداول الإلكتروني.

 

الترابط التكنولوجي الصيني مع الخارج سلاسل التوريد

 تعتمد المحاولات الأمريكية على نقطتين أساسيتين: ارتباط التكنولوجيا الصينية بالموردين الخارجيين، وكونها جزءاً من سلاسل إنتاج عالمية، إضافة إلى حاجة الإنتاج الصيني إلى المستوردات التكنولوجية من الخارج نتيجة ثغرات في عملية اللحاق، ربما يكون أبرزها قطاع أشباه الموصلات.

من الصعب إجراء قياس دقيق لحجم التداخل بين المنتجين العالميين والمحليين في دولة معينة وتحديداً في الصين، نتيجة التشابك الكبير في سلاسل التوريد. ولكن وفق تقدير في 2019 فإنه من ضمن عينة من 869 شركة صينية تعمل في مجال التكنولوجيا وتستهلك منتجات تكنولوجية وسيطة، فإن نسبة 57% من الموردين الأساسيين خارجيين، وموزعين عبر العالم، بينما النسبة المتبقية موردين محليين.

 

 979-8

 تريد الولايات المتحدة أن تمنع الصين من سد الفجوات التكنولوجية المتبقية بين الصين والغرب ومنع (اللحاق والسبق) الصيني

أشباه الموصلات ثغرة ستطلب وقتاً!

 الثغرة الأبرز في قطاع التكنولوجيا الصيني، هي الحاجة إلى استيراد كميات كبرى من أشباه الموصلات والدارات المغلقة، حيث تشكل هذه البضاعة التكنولوجية نسبة 12% من مجمل الاستيراد البضاعي والخدمي الصيني، وهي نسبة ثابتة منذ عام 2006 تقريباً. تعتبر أشباه الموصلات أكبر مكوّن بضاعي تستورده الصين، وقد شكل في 2018 ضعف قيمة صادرات النفط الخام الصينية! Semiconductor engineering))

ورغم أن الصين تستثمر في هذا القطاع أموالاً هائلة إلا أنّ الإنتاج المحلي يشكل نسبة 15% من الاستهلاك الصيني، وتضع الصين في خطتها لعام 2025 أن تغطي استهلاكها من أشباه الموصلات بنسبة 70% خلال السنوات الخمس القادمة، وتختلف التقديرات فيما إذا كان هذا الهدف سيتحقق أم لا.

ولكن بكافة الأحوال، فإن هذه الثغرة تعطي للأمريكيين القدرة على الضغط في هذا المجال باعتبار أن شركاتهم رائدة في هذا المجال، وهي من أكبر المساهمين حتى في الإنتاج الصيني الداخلي.

البعض يشير إلى أن سرعة الاستثمار في هذا القطاع مبشرة في الصين مع كم الأبحاث الصادرة، ولكن العملية معقدة وتحتاج إلى مراحل عديدة ما يجعل لأشباه الموصلات أهمية استراتيجية في هذه المعركة.

مؤخراً، في الشهر الخامس من العام الحالي، أقرت الولايات المتحدة إجراءات عقابية تمنع تزويد هواوي بهذا المكوّن من المعامل الخارجية عبر العالم وليس الأمريكية فقط، حيث تفرض عقوبات في حال كانت المنشأة تستخدم معدات أو برمجيات أمريكية لصناعة الرقائق الإلكترونية، أو إذا كانت الرقائق المنتجة من تصميم هواوي عبر شركتها hisilicon، أو إذا ما كان صناع الرقائق الخارجيين يعلمون أن هذه المنتجات ستتوجه إلى هواوي الصينية! ورغم أن هذه الإجراءات لم تطبق بعد إلا أنها تضفي حالة عدم يقين على توقيع العقود طويلة الأمد، وتجري تغييرات في سلاسل التوريد التي تعتبر هواوي جزءاً منها... إنها تستهدف تعطيل وتأخير القفزات التكنولوجية الصينية وتحجيمها، ولكن هذا قد لا يكون سهلاً فالخمس سنوات تفعل الكثير في الصين!

 

التسارع الصيني في الإنجاز

 يحقّ للولايات المتحدة التخوف من سرعة الإنجاز الصيني، فالصين حققت أرقاماً مذهلة في عملية تطورها التكنولوجي في زمن قياسي.

إن أزمة عام 2008 دفعت الصين إلى عملية إعادة توزيع للموارد، وجزء هام منها بدأ يتمركز استثمارياً في قطاع التكنولوجيا العالية. حيث انتقلت الصين سريعاً من محطة في عمليات إنتاج التكنولوجيا عالمياً، إلى منتج تكنولوجي للسوق المحلية والعالمية.

منذ عام 2014 تقلّص إلى حد بعيد اعتماد الصين على مدخلات من الخارج بالقياس إلى مخرجات إنتاجها التكنولوجية، وأصبح الاعتماد على المدخلات التكنولوجية الصلبة (hardware) المستوردة الخارج لا يتعدى 10% من قيم هذه المنتجات. أما في مجمل ناتج قطاعات الكمبيوتر والخدمات المعلوماتية، وقطاع والآلات والمعدات لا تتعدى حصة مدخلات الخارج 5% من قيمة مجمل الإنتاج الصيني.

أتى هذا نتيجة توسّع كبير في نمو قطاع التكنولوجيا العالية في الصين، حيث كان ينمو بمعدل أعلى من معدل النمو السنوي الإجمالي منذ عام 2008، وقد ارتفع الفارق بين المعدلين إلى أكثر من 5% في عام 2016... عندما بدأت القفزات التكنولوجية الصينية تظهر بعد أن أقرّت الصين خطة (صنع في الصين2025) وأخذ قطاع خدمات التكنولوجيا والمعلومات ينمو بنسبة 20% وسطياً بين 2015-2017! وتوسع الاستثمار الصيني في رأس المال الثابت قطاع التصنيع التكنولوجي بنسبة 15% سنوياً...

لقد نجم عن هذا ريادة سريعة للصين في أعلى المجالات التكنولوجية، مثل: إنتاج الكمبيوترات فائقة الأداء حيث انتقلت الصين من حصة 5,6% من السوق العالمية في 2015 إلى 46% تقريباً في 2018 في ثلاث سنوات! وقد أخذت هذه الحصة من الولايات المتحدة تحديداً. كما أنها تتصدر في علم المعلومات الكمومية الذي يبشر بعصر جديد في عالم المعلوماتية وتخزين ونقل البيانات... إضافة إلى الريادة التي تحققت في تكنولوجيا الجيل الخامس.

اليوم، تستثمر الصين علمياً ومالياً في أشباه الموصلات، ويعتبر استهلاكها أحد جوانب الاستهلاك الوحيدة التي لم تتراجع خلال الربع الأول من عام 2020 حتى ضمن أزمة كورونا، التي كانت الصين أول المتضررين منها... وليس من المستبعد تحقيق هدف الـ 70% بعد خمسة أعوام، وربما تجاوزه مع معدل الإنجاز السابق...

 

الثغرة الأبرز في قطاع التكنولوجيا الصيني هي الحاجة إلى استيراد كميات كبرى من أشباه الموصلات والدارات المغلقة

التخوف ليس من الأرقام فقط بل من النموذج!

 الولايات المتحدة لا تتخوف فقط من السبق التكنولوجي الصيني المتسارع الذي يقطع أشواطاً سريعة في آجال زمنية قصيرة، بل من النموذج كاملاً. وهو ما يظهر في تركيز التهجم على الحزب الشيوعي الصيني، وفي هذا أيضاً يحق للولايات المتحدة أن تتخوف... فالصين تضع خططها وإنجازاتها التكنولوجية في سياق نموذجها البديل المسمّى: (الاقتصاد السياسي الصيني الراهن.. أو الاشتراكية في مراحلها المبكرة).

إن المبادئ التي وضعتها الخطة الخمسية الصينية لعام 2015 يأتي في مقدمتها: أن التكنولوجيا يجب أن تقود استمرارية النمو، باعتبار أن تطوير القوى المنتجة هو أساس الرفاه والتقدم الاجتماعي، وأن كامل العملية يجب أن تتخلص من العفوية وتنتقل للتحكم والإدارة. والأهم، أن المبدأ الثاني هو توجيه الإنتاج لتطوير مستوى المعيشة والاستهلاك المحلي. 

يعتبر البعض أنه لا يزال لدى الصين متسع كبير للنمو الاقتصادي على العكس من دول الغرب، فالتقدم التكنولوجي حتى في حال حصر الصين في إطارها المحلي، يستطيع أن يتغذى بالطلب الناجم عن زيادة إنتاجية الفرد وهي أقل من مثيلتها في الغرب إلى حد بعيد، كما أنه سيتغذى بتوزيع التطور التكنولوجي ضمن الأقاليم الصينية التي لا زالت تعاني من تفاوت كبير. أي أن الصين حتى في حال نجاح العزل التكنولوجي الذي تحاول الولايات المتحدة فرضه، لا تزال قادرة على تحقيق معدلات نمو هامة من تطبيقات التكنولوجيا داخل البلاد ذات الـ 1,4 مليار نسمة!

ولكن الصين لن تكتفي بذلك، بل تسعى لنشر التكنولوجيا كجزء من مشروع الصين الاستثماري التعاوني (الحزام والطريق)، الذي يأخذ حتى اليوم طابع الاستثمار في البنى التحتية، ولكن آفاقه أبعد من ذلك ويظهر منها اليوم الحديث عن مدّ شبكات 5g.

التكنولوجيا الصينية وقدرات الاستهلاك المحلية هي طوق نجاة للصين من الأزمة التي تعصف بالاقتصاد العالمي، وتجعلها الطرف الأعلى مرونة في مواجهة الصدمات... وهو ما ظهر حالياً خلال الأشهر الستة الأولى العاصفة من 2020 حيث ظهرت معالم التعافي سريعاً على قطاع الصناعة الصيني، الأمر الذي يشكل خطراً على الغرب الذي تضربه الأزمة بعمق، وقد يؤدي إلى تغير سريع في التوازنات تسعى الولايات المتحدة بالعنف والتوتير إلى مواجهته.

الحرب التكنولوجية والتجارية ستستمر من الولايات المتحدة تجاه الصين، ولكنها ستكون مؤقتة موضوعياً لأنها ستفقد فعاليتها عندما تسدّ الصين الثغرات التكنولوجية المتبقية، وتفتح أفق تعاون تكنولوجي مع أطراف إقليمية ودولية أخرى تحتاج إلى المنجزات الصينية. ولكن الأهم أن دخول الصين إلى عالم الإنتاج التكنولوجي بهذا الاتساع سيغير ملكية التكنولوجيا عبر العالم، ويزيد من تعميمها وإتاحتها ويجعلها أقل كلفة على شعوب العالم الأخرى، ليدق بذلك إسفيناً جديداً في هيمنة الغرب الذي لن يستطيع الرد إلا عبر الجنون والعنف الأمريكي ذاك الذي لم يعد من السهل توسيعه لحد مواجهة بين القوى الكبرى في عالم من توازن الردع.

 

* A New Great Game--China, The U.S., And Technology- 4-2019.

معلومات إضافية

العدد رقم:
979
آخر تعديل على الإثنين, 17 آب/أغسطس 2020 17:26