إجراء سياسي- اقتصادي وحيد... لنكون أو لا نكون
تدخل كارثة بلادنا الاقتصادية الاجتماعية والسياسية منعطفاً جديداً، فالبلاد المثقلة بالعقوبات وأمراء الحرب، وبنخب الفساد والنهب وبتغييب الناس عن الدفاع عن مصالحهم وبابتلاع جهاز الدولة وتهميشه... تقف اليوم على حافة أزمة صحيّة كبرى قد تتحول إلى كارثة.
الكثير من المؤشرات ممكن أن تُدرج لتؤكّد أن البنية التحتية السورية صحياً ومالياً واقتصادياً غير قادرة على استيعاب انتشار الفيروس وارتفاع الإصابات، وبالفعل الحظر هو الوسيلة الوحيدة للنجاة... ولكن الحظر كأداة في المواجهة يتطلب أعلى مستوى لأداء جهاز دولة وإدارة الأزمات، وهو ما اختبرناه خلال سنوات الأزمة التي تمّ إدارتها اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً بعقلية (البقاء للأقدر على الالتحاق بركب الفساد)، وبالطريقة التي سحقت الضعفاء، وأنهكت كل من يعمل (بعرق جبينه) كما يقال.
مصير ملايين ممن يعيشون (يوم بيوم)!
أوّل ما يعنيه الحظر ومنع الانتقال ووقف الأعمال والمحال والورش... هو انتقال البطالة من مستوى 53% من القوى العاملة إلى النصف الآخر.
الأمر الذي يعني بالحدود الدنيا أن 1.6 مليون من العاطلين عن العمل، وقرابة 7-8 مليون مع أسرهم، هم في وضع إنساني حرج بأعلى درجاته، حيث يصبح من الصعب أن يسترزقوا حتى بشكل يومي قوت يومهم.
وهذا قد يكون الأثر الأولي والمباشر، يضاف إليه عشرات آلاف الأسر التي تعيش على مهن خدمية من مطاعم ومحال بيع وخدمات ووسائل نقل عامة وعاملين في قطاع البناء وغيرها الكثير... وإغلاق هذه النشاطات يغلق العديد من فرص العمل غير النظامية التي يسترزق منها أضعف شرائح الشغيلة.
الخطر الأكبر أمام هذه الملايين ليس الفيروس، فهؤلاء تراهم أقل اكتراثاً بإجراءات السلامة... وأكثر اندفاعاً إلى ربطة الخبز، حيث تأمين الغذاء اليومي كان هماً أساسياً قبل الظرف الحالي بينما أصبح اليوم مهمة وجود. فالجميع يعلم أن قوت أسرة يومياً لا يمكن أن يقل عن 2000 ليرة قبل ارتفاع الأسعار بهذا المستوى، وحتى بهذا المستوى فإن الأسرة تستهلك قرابة نصف حاجات غذائها وشرابها الضروري.
الأثرياء سيحاولون تعويض خسارة التوقف
إن وضع سيناريو سيء ومنطقي للأسف، كأن يستمر الحجر الجزئي أو الكلي لمدة شهرين يعني خسارة البلاد لما يتراوح بين 3-5 مليار دولار من الدخل الوسطي الذي كان من الممكن إنتاجه في شهرين (وفق التقديرات المتبانية لناتج سورية عام 2017). وهذه المليارات التي سيتم خسارتها من التوقف ستحاول شرائح المال الكبرى أن تعوّضها عبر ارتفاع الأسعار، وعبر المضاربة على قيمة الليرة. والخطر المتمثل من هؤلاء في المرحلة القريبة القادمة، قد يفوق كل خطرهم ونتائج ربحهم في سنوات الحرب الماضية، أما ترك الأمور لمآلاتها يعني أن يسحب هؤلاء ربحهم من الشرائح التي تستطيع أن تحصل على دخل ثابت في هذه المرحلة، أو تمتلك القليل من المدخرات من أعمالها، بينما الشريحة الأضعف فلا شيء لديها ليتم سحبه.
(إجراءات عادية)!
يمكن القول: إنه ما من إجراءات عادية يمكن اتخاذها في مواجهة ظرف من هذا النوع، وبالفعل الحكومة تقوم بالحدود الدنيا، لأن الإجراءات الأخرى الضرورية خارج طاقتها. حتى الآن قرارات الحكومة تتعلق بالسير التدريجي نحو الحظر، وبإجراءات تشبه المرحلة السابقة مواجهة توحّش السوق ببعض المخالفات وبعض صالات المؤسسات لا أكثر. بينما الواقع يقول: إن تعبئة عامة للموارد قد تكفي أو لا تكفي لمواجهة أزمة بهذا الحجم واحتمالات استدامتها وتحوّلها إلى انتشار واسع للوباء.
الإجراء الأمثل والوحيد هو ما كان يجب أن يتم منذ تفاقم الكارثة الإنسانية السورية:
البلاد بحاجة إلى جسر إنقاذ لتستطيع الاستمرار في تأمين أساسياتها، وتتجاوز العقوبات، والأهم أن البلاد بحاجة إلى التخلّص من عبء ناهبيها وإلاّ فإن أي إمداد مدفوع أو غير مدفوع سيتحول إلى موضع نهب وإثراء.
الإجراء الممكن الوحيد أن يستطيع المجتمع إدارة جسر جوي أو بحري لتأمين المواد الأساسية من الدول المستعدة لتجاوز العقوبات، عبر عقود طويلة الأمد ومستقرة السعر ومدفوعة بوسائل ائتمانية وغير دولارية تزيح كل الوسطاء، وتتكون من مواد أساسية: مستلزمات تأمين حاجات الغذاء وتحديداً إنتاجه محلياً، مستلزمات توليد الطاقة، وتصنيع الأساسيات، ولوازم الصحة.
وأن يتم تأمين تمويله من الأثرياء ممن راكموا أموالهم في الداخل والخارج خلال عقود من تخلفنا، ومن ثمّ من اقتتالنا ومن موت مئات الآلاف، وأخيراً ودائماً من الجوع.
يبدو هذا السيناريو خيالياً، فالمجتمع السوري اليوم مسحوب القرار والعزيمة، ونخب المال تدير الأزمة لصالحها... ولكن الأمور تقترب تدريجياً وتحديداً في اللحظة الحالية من سيناريو آخر، ملايين وملايين غير قادرين على العمل على تأمين الطعام، متروكين للأمراض والجوع... وهذا السيناريو يعني عملياً أن الناهبين قد لا يجدون بعد قليل ما أو من ينهبونه، قد لا يجدون بلاداً يمتصون دمائها.
اللحظة التي يمر بها الحدث السوري انعطافية، كما هي اللحظة العالمية... إن الوباء يكشف مستوى تخلّف الربح ويعرّي أكثر الأنظمة الغربية (لمعاناً)، ويثبت أن العالم ينبض لدى القوى الصاعدة التي تمتلك القدرة على التقدم، الذي يعطيها حرية الانعتاق من حدود الربح الضيقة، والتي اختبرت شعوبها ومجتمعاتها معنى أن يكون المجتمع ينتج من أجل حاجاته العامة، وليس من أجل مصلحة قلة مالكة. هذه اللحظة العالمية ستثبت مفهوم وحشية الملكية الخاصة للثروة الاجتماعية ولمصير المجتمعات، والذي يعلمه السوريون جيداً فمقابل جوعهم غربتهم والعنف المحيط بهم، هنالك مصالح وملكية وقرار نخبة متخلّفة لا ترى أبعد من ثروتها، وهو واقع لا يمكن تغييره إلا عندما يُتاح للمجتمع أن يغضب ويسترد حقوقه ويُنقذ البلاد بالعمل السياسي الواسع.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 959