انهيارات النفط والأسهم... أوّل منعطف خطير لأزمة المنظومة في 2020
الأزمة الاقتصادية هنا، إنها ليست انخفاض أسعار النفط، وهي ليست التدهور في الأسواق، وهي بالطبع ليست كورونا أو القرارات السعودية والروسية... وهي لم تكن ناتجة عن (الحرب التجارية) وإجراءات الحمائية وحالة عدم اليقين التي كان يكثر الحديث عنها كسبب للتراجع خلال العام الماضي...
منظومة الإنتاج العالمية الرأسمالية هي الأزمة، وهي تتجلى وتدخل منعطفات هامة كما كان متوقعاً في عام 2020، وهذه الموجة إن لم تؤدِ إلى انفجار فإنها لا بدّ أن تشكل عتبة تصعيدية هامة لها تأثيرات على هيكلة قطاعات بأكملها، إما عبر أسعار السلع كما في النفط الصخري الأمريكي، أو عبر انهيار قيم أسهم الشركات، والأهم أن التأثيرات تنسحب على كتلة الديون الهائلة الهشة التي لا تنفصل عن موقع وقيمة الدولار عالمي
المنظومة غير قادرة على التوسع
تتجلى الأزمة اقتصادياً بمؤشرات عدّة إلّا أن أهمها وأكثرها تعبيراً، هو عدم قدرة المنظومة على توسيع عملية تجديد الإنتاج: أيْ ذاك المؤشر الذي يعرفه الجميع بالنمو الاقتصادي، نمو الناتج المحلي الإجمالي. فالإنتاج العالمي أصبح أقل قدرة على توسيع خلق الثروات الاجتماعية الجديدة.
النمو الاقتصادي العالمي الوسطي يتراجع، وقد فقد الاقتصاد العالمي قرابة 60% من قدرته على التوسع خلال ستة عقود، أي إنه كان يفقد 10% تقريباً من وسطي نموه سنوياً، ولكنُّه خلال العقد الأخير بل خلال ثماني سنوات مضت وبعد أزمة عام 2008، فقد قرابة 20% من هذا النمو وتسارع التراجع إلى حد بعيد.
وأبعد من ذلك إذا ما نظرنا إلى المجال الأهم المساهم في خلق الثروات الجديدة عبر العالم، وهو القطاع الصناعي (التصنيع بكافة أشكاله وصناعات الطاقة والبناء والبنى التحتية وغيرها). فإن التراجع واضح أيضاً، وتحديداً خلال العقد الأخير، حيث أحدثت أزمة عام 2008 منعطفاً نحو الانخفاض أيضاً، وخسر نمو الصناعات عمالياً في عام 2018 أكثر من 40% من وسطي نموه المسجّل قبل 2008.
قد تكون اقتصاديات الغرب هي الأكثر تراجعاً، ولكن الترابط العالمي يجعل جميع اقتصاديّات العالم المحورية تفقد مرونة تحقيق مزيد من التوسع، حتى دول مثل الصين تساهم بنسبة تفوق 27% من نمو الناتج العالمي.
إنّ تقلص النمو هو المؤشر الأهم، وهو واحد ضمن جملة مؤشرات اقتصادية كلية أخرى لأزمة أداء المنظومة، وقد يكون أهمها: تراجع الاستثمار في رأس المال الثابت أي في توسيع القاعدة المادية للإنتاج، تراجع معدل الربح، وتراجع التجارة العالمية، والأهم التوسع الكبير في اللامساواة التي ترتبط بتراجع قدرة الاستهلاك، هذا عدا عن الكارثة البيئية التي تولدها المنظومة الاقتصادية.
المنظومة تتوسع عبر الديون
تتضح أزمة المنظومة بشكل أوسع إذا ما علمنا أن هذا الأداء المتواضع للنمو، تمّ بظروف (إنقاذ) استثنائية، أي توسّع بالدرجة الأولى عبر عملية الضخ الهائل للمال في شريان الاقتصاد العالمي المتضيّق، لقد توسّعت فقاعة الدَّين خلال السنوات العشر الماضية بما يقارب 72 تريليون دولار، ولكنها لم تفلح في توسيع النمو وإعادته إلى مستويات ما قبل الأزمة، بل سمحت بتأجيل الركود، فالكساد حتى الآن...
الحكومات تنفق أكثر من قدرتها عبر الاستدانة وهي المساهم الأكبر في توسع الديون، والشركات تنتج وتعمل بمستوى أكبر من قدرتها الاستثمارية عبر الاستدانة أيضاً، والمستهلكون عبر العالم يستهلكون أكثر من قدرتهم، وعموم الأسواق والأسعار وقيم الأسهم تنتفخ وتتضخم بشكل لا يتطابق مع مؤشرات ربح الأعمال الحقيقية بل عبر استثمار الديون في أسهمها... وكل هذه الحقن الإنعاشية مؤجَّلة السداد، بل لا يمكن سدادها! وهي تتركز في (الدول المتقدمة) بنسبة 72%، محوّلة أزمة الدين لديهم إلى أزمة دول مهددة بالوصول إلى مستوى عدم القدرة على سد الديون إلى مقرضيها في السوق المالية العالمية. (دين الولايات المتحدة ضعف ناتجها، اليابان 2,2 ضعف، إيطاليا 1,4 ضعف وإلخ...).
التوسع الأساس في مصدر الديون خلال العقد الماضي، هو سياسات التيسير الكمي، أي سندات الدين الصادرة من البنوك المركزية للمنظومة الغربية، والتي وصلت إلى 11 تريليون دولار في الولايات المتحدة والمركزي الأوروبي والبنك المركزي الياباني فقط حتى نهاية 2018، وتوسعت في 2019 بمعدلات كبرى، بينما الجزء الأعظم من هذه الديون عبر العالم بالدولار ومن ثم باليورو.
المنظومة تتوسع إذاً عبر الديون، ولكن القليل من النمو أصبح يرتبط بالكثير من المال والتمويل وبأسعار مضخّمة. وكل إنفاق لدولة، أو كل شركة كبرى عاملة، أو كل سلسلة إنتاج وتداول عالمية وراءها سلسلة متضخمة من المال والديون المتراكمة وهي تغطي على فقاعة ضخمة من الديون... ولذلك فإن أسعار الأسهم والأسواق التي يتم تبادلها بها في البورصات العالمية هي مؤشرات أساسية على وجود انخماص في الفقاعة يتطلب الترميم بمزيد من المال حتى لا تنفجر.
خطورة التصحيح الدوري
مع كل اضطراب اقتصادي أو حتى سياسي عالمي، نسمع عن التراجع في الأسواق، والمقصود بها تحديداً تراجع مؤشرات أسواق الأسهم والسلع والعملات المتداولة في البورصات العالمية الأساسية التي تتحرك مع بعضها البعض غالباً. هذه الأسواق التي تتضخم بمقدار تضخم كتلة المال في السوق العالمية، وترتبط بالاستثمار المالي دون انفصال.
تضخمت أسواق أسهم الشركات مع توسع فقاعة الدَّين بعد الأزمة المالية في 2008، فإذا ما أخذنا مؤشر أسهم S&P 500 الأمريكي الذي يشتمل أكثر من 500 سهم لكبرى الشركات الأمريكية في كافة المجالات (بنوك وصناعات وخدمات)، فإن هذه الشركات قد فقدت 55% من قيمة مؤشرها في أزمة عام 2008، ووصلت قيمة المؤشر إلى أقل من 700 نقطة، ولكنها ارتفعت بعدها إلى معدّل 480% ووصلت إلى 3380 في شهر شباط- 2020، ثمّ بدأت بالهبوط السريع لتصل إلى 2500 تقريباً وتخسر أكثر من ربع قيمة مؤشرها خلال 20 يوماً تقريباً، ثم عادت للارتفاع بعد أن تدفقت حزمة الديون الجديدة الضخمة من الفيدرالي الأمريكي بمقدار 1.5 تريليون دولار، أي زيادة بمقدار ثلث قيمة أصوله المستثمرة في حزم الإنقاذ بعد أزمة 2008 والتي بلغت خلال عقد 4.5 تريليون دولار.
لقد سارع الفيدرالي الأمريكي إلى ضخ كتلة ديون هائلة للإنقاذ، وخفّض سعر الفائدة على الديون بنسبة 40% مرّة واحدة. وهذه الإجراءات تشير إلى خطورة التراجع الحاصل، وحاجة المنظومة المالية إلى الإنقاذ قبل فقدان التحكم، وهو الخيار الوحيد الممكن.
ستتوجه حزمة الإنقاذ هذه إلى إعادة هيكلة شركات النفط الصخري الأمريكي، تلك الشركات التي كانت في وضع مالي متردٍ لا يحتمل مثل هذا الهبوط في الأسعار.
حيث تتراجع قيم أسهم شركات النفط الصخري الأمريكي منذ عام تقريباً، وخسرت 72% من قيمتها، إذ يشير الخبراء إلى أنّ الكثير من هذه الشركات لا تستطيع أن تحقق ربحية إلا بأسعار نفط تقارب 60 دولاراً للبرميل. أي إن أسعار اليوم هي نصف حد الربحية وهذه الشركات كانت في وضع متراجع وقد تقترب من إفلاسات كبرى اليوم.
ولذلك فإن حزمة الإنقاذ تشتري ديون هذه الشركات، بالتالي تشتري الشركات وأعمالها نفسها وتعيد هيكلة القطاع مضخّمة الفقاعة بمستوى غير مسبوق. ولكن هذا قد لا يفي بالغرض، وتحديداً مع توسع انتشار فيروس كورونا وما يرتبط به اقتصادياً من توقف إنتاجي واستهلاكي عالمي أصبح يهدد اليوم أوروبا والولايات المتحدة.
إنَّ تراجع الأسهم وتراجع أسعار السلع المتداولة في البورصات العالمية، عملية متوقعة دائماً، وهي واحدة من آليات إدارة الأزمة... فعملياً انهيارات محدودة مع حزم إنقاذ أيضاً محدودة تعني إفلاسات وإعادة مركزةٍ للثروة في القطاعات المنهارة. ولكنها عملية خطرة وهي في أية لحظة يمكن أن تؤدي إلى تداعيات واسعة غير قابلة للضبط وانهيارات كبرى لم يعد ممكناً ضخ المزيد من الدولارات لاحتوائها، لأنها تهدد الدولار بحد ذاته.
لا يبدو إن كان هذا المنعطف الحالي مؤقتاً أم مستداماً، أو إن كانت حزمة الـ 1,5 تريليون دولار كافية لانتشال السوق (حتى الآن عادت أسواق الأسهم للارتفاع نسبياً ولكن تفاعلات كورونا مستمرة). ولكنَّ المؤكد أنَّ ما حدث شكَّل نقطة هامة في مسار الأزمة التي يتوقع الكثير من المختصين أن 2020 سيكون عام انفجارها المالي، وتحديداً فيما يتعلق بوضع الدولار، مع إضافة 1,5 تريليون دولار إلى كتلة الدين العالمي، والتغير الحاصل في سلعة أساسية كالنفط.
عتبة في تقلص (البترودولار)!
الكثير من السيناريوهات تطرح حول سبب اتقاد أزمة النفط الحالية، والأنظار توجّه مباشرة إلى السعودية وإلى ما جرى في الاجتماع الأخير لـ أوبك +، اللقاء الذي كان يحافظ على أسعار النفط عند حدود مرتفعة نسبياً عبر تقليص الإنتاج. ولكن مختلف المراقبين كانوا على دراية بأنه من الصعب استدامة هذا الاتفاق وسط تراجع الطلب العالمي، والتجهيز الروسي لأسعار أقل.
وهو ما يظهر من رد الفعل السعودي الذي لم يكن تفاوضياً، وأتى سريعاً مع تجهيزات مسبقة لزيادة الإنتاج بمقدار مليون برميل، ودفع دولٍ أخرى في أوبك مثل الإمارات لإجراء مماثل، وإعطاء خصومات وتجهيز ناقلات وشراء الولايات المتحدة لاحتياطيات إستراتيجية بالسعر المنخفض وترحيب من الرئيس الأمريكي، مقابل هجوم أطراف أمريكية أخرى بشكل واسع على السعودية (حتى قبل أزمة النفط عبر تدخُّل قوى أمريكية في خلافات الحكم السعودي ومحاولة الضغط على ولي العهد).
من الصعب تفسير الخطوة السعودية دون أخذ الانقسام والصراع الأمريكي بعين الاعتبار، وهي تشكل فائدة مؤقتة للجناح الذي يمثله ترامب في معركته الانتخابية، وفي مسعاه نحو ضخ المزيد من الدولار، وتخفيض سعر الفائدة لتجنب الأزمة قبل الانتخابات... كما أنها تحقق واحداً من الأهداف الأمريكية بالسعي نحو تفكيك أوبك وتحالفها الجديد مع روسيا. ولكنها بالمقابل تضع السعودية في موضع التأثير على الأسواق الأمريكية وعلى قطاعات هامة كالنفط الصخري، والأهم على سعر النفط العالمي وتشكل تحدّياً جديداً لمنظومة البترودولار.
هنالك عدة نقاط متراكمة ينبغي أخذها بعين الاعتبار، وقراءة الحدث الحالي في سياقها:
أولاً خسرت أمريكا موقع المستهلك العالمي الأكبر للنفط مع تصدر الصين. وثانياً قد تؤدي هذه الأزمة إلى تراجع الولايات المتحدة عن موقع المنتج الأكبر الذي احتلته مع توسُّع قطاع النفط الصخري. وثالثاً القدرة الأمريكية على التحكُّم بالتسعير العالمي للنفط تتلقى ضربات، فالتناقض الأمريكي مع السعودية والتراجع النسبي لإمكانية التحكم بالحلفاء، ووجود الصين التي تطرح شراء النفط باليوان واتجاه النفط الروسي لتوسيع التسعير باليورو واليوان، جميعها عوامل تفقد المنظومة المالية الأمريكية قدرتها على تسعير النفط العالمي، الذي يشكل بدوره عموداً أساسياً لبقاء الدولار عملة عالمية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 957