الأزمة المتسارعة... الولايات المتحدة إسعاف مالي وتجهيز عسكري
ليلى نصر ليلى نصر

الأزمة المتسارعة... الولايات المتحدة إسعاف مالي وتجهيز عسكري

الأيام والأسابيع القليلة الماضية حافلة بأحداث متسارعة على مستوى الاقتصاد العالمي، هذا ما يحدث في لحظة اتقاد الأزمات... تنتشر أخبار الفيروس والتصريحات حوله والإجراءات المرتبطة بنتائجه، ولكن خلف الأبواب المغلقة يُناقش إسعاف المنظومة، كيف ستوزع التريليونات التي تم ضخّها لإطفاء الحريق، واختيار من سيبقى على قيد الحياة ومن سيُترك للموت من القطاعات الاقتصادية أيضاً وربما من البلدان.

لا إبداع في محاولة مواجهة الأزمة مالياً، فالمنظومة الغربية اختارت أن تطبع المزيد من المال (حرفياً) لتسعف السوق وتضخ السيولة في شريانها، كي لا يتم الوصول إلى حالات إعلان إفلاس غير متحكم بها. وبلغ مجموع حزم الإنقاذ المعلنة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فقط: 2,9 تريليون دولار، أي: ربع ما تمّ الإعلان عن ضخه منذ عام 2008 وحتى اليوم (ضخّت البنوك المركزية بسياسات التيسير الكمي بعد 2008 أكثر من 11 تريليون دولار).
أعلن الفيدرالي الأمريكي أن حزمة الدعم المالي ستصل إلى 2 تريليون دولار، من بينها الجزء الأقل حوالي 500 مليار دولار ستوزع على كل أمريكي فوق سن الـ 18 بمقدار 1000 دولار كحزمة إنقاذ، وضخ للسيولة، ولا يزال النقاش دائراً حول من يستحقها ومن لا يستحق. ولكن الجزء المتبقي الأكبر سيكون عملية شراء الفيدرالي لسندات الخزينة الأمريكية، أي إسعاف الحكومة بمزيد من الدَّين كي تتمكن من الاستمرار بأعمالها. وشراء سندات ديون الشركات، التي لم يتضح حتى الآن أين ستتركز ومن سيتم إنقاذها، وهنا يتم الاختيار... ما هي القطاعات أو الشركات التي تستحق الإنقاذ ومن ستُترك لمصيرها. إنها عملية إعادة هيكلة واسعة يشتري بها مالكو المال العالمي في الفيدرالي الأمريكي حصصاً هامة في كبريات الشركات، بل والقطاعات التي تصل لحدّ طلب المساعدة في ظروف كهذه، أي تجري عملية إعادة هيكلة للثروات والقطاعات ليزداد تمركزها.
ولكن الأسهم الأمريكية تستمر بالتدهور، والحُزم المعلنة لم تجد تأثيرها الواسع حتى الآن، باستثناء مؤشرات مؤقتة لاستقرار أسهم البنوك الخمس الأمريكية الكبرى التي استقرت أسهمها خلال الأيام الخمسة الماضية (حيث الأولوية للقطاع المالي الأمريكي الذي يملك ربع الديون وأكثر من 20% من الناتج)، وبالمقابل يستمر تدهور أسهم قطاع التكنولوجيا، والنفط والصناعات، حتى الآن.
على الضفة الأخرى من الأطلسي وفي الاتحاد الأوروبي الأمر ذاته، الأسواق بوضع انهيار منذ منتصف شهر شباط، الشركات والبنوك الأوروبية تفقد قيمة أسهمها. والحكومات والبنك المركزي الأوروبي يضخ سيولة بمستوى غير مسبوق، وأكثر من 870 مليار يورو موزعة على دفعتين تمّ الإعلان عنهما خلال أقل من أسبوع.

هل تستمر الثقة بالفيدرالي والدولة؟

إن مستويات الضخ الإسعافي المعلنة هائلة وهي تقارب الخسارات المقدرة لسوق الأسهم 2,7 تريليون دولار... والآلية بسيطة. فالحلول الإسعافية وتدخل الفيدرالي يفترض أن يرفع الثقة بالدولار ويرفع قيمته لتتوجه الأموال الهاربة من سوق الأسهم ومن الشركات إلى سندات الدولار، ليقوم الدولار وعموم القطاع المالي لاحقاً بإسعاف الشركات ومنعها من الانهيار او بشكل أدق تنظيم خسائرها.
إنّ هذه الحلول الإسعافية تعتمد على طباعة أوراق الدولار أو الأوراق المالية دون تغطية، ونجاحها يعتمد على إيجاد غطاء لاستمرار قوة الدولار في المرحلة المؤقتة، على الأقل.
قوة الدولار تحتاج لغطاء من الثقة، أساسه في الداخل الأمريكي: الموثوقية بالفيدرالي الأمريكي من جهة، أي بالقطاع المالي الأمريكي وهيمنة الدولار، ولكن الأهم بالحكومة الأمريكية من جهة أخرى وفعالية دورها الخدمي والأبرز القمعي.
حيث يجب أن يوجد ما يضمن إشباع هذه الأوراق المطبوعة بالثقة، وتحوّلها إلى الملجأ الأساسي... للأموال الهاربة من سوق الأسهم.
ولكن... هذه العمليات التي قد تنجح مؤقتاً في أمريكا، ومن الصعب أن تنجح تماماً في أوروبا، فالموثوقية في المركزي الأوروبي وفي الوضع المالي للحكومات والدول مهتزة إلى حد بعيد مع المشاكل القديمة والجديدة، وعدم وجود وحدة كاملة في الاتحاد الأوروبي، وتفاعلات ما بعد أزمة عام 2008 المستمرة حتى الآن، وحِدّة الوباء والتوقف المتركزة في أوروبا، والقدرات المالية والعسكرية الأضعف للبنك المركزي والحكومات قياساً بالولايات المتحدة.
يمكن القول: إن هذا السيناريو هو ما حدث في عام 2008، لقد انتشل الفيدرالي الأمريكي والوزن العسكري الأمريكي كتلة الدولار والمال الهائلة التي تم ضخها ومنع انفجارها، بل شهدت أمريكا معدلات نمو أعلى من غيرها من دول المركز الغربي خلال عقد مضى معتمدة على الضخ المستمر للمال.
ولكن السؤال الأساسي يبقى: ما الذي سينتشل قيمة هذه الدولارات والمال الهائل في الأمد المتوسط؟ إن وزن الدولار وهيمنته تأتي من الخارج: من الهيمنة العسكرية والتكنولوجية والمالية، إضافة للهيمنة الإعلامية والثقافية. وجميع هذه العوامل اهتزت إلى حدّ بعيد بعد عام 2008، وتلقت ضربات كبرى في أزمة كورونا وحدها!
العالم تغيّر كثيراً بين 2008-2020، والدولار والموثوقية به مهددة تحديداً من خارجه، الفشل العسكري الأمريكي في العديد من ملفات التصعيد الدولية وارتفاع قدرة الردع، التصاعد الكبير في الوزن الصيني وعموم القوى الصاعدة اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجيا وتجارياً وسياسياً ومؤخراً خدمياً وإنسانياً...
من الصعب أن تجد الولايات المتحدة حلاً في خارجها... إلا بتدمير الخصوم، وهو الأمر الذي كانت تحاول فعله خلال عقد مضى. والمعركة تنتقل إلى الداخل الأمريكي بحدّة وسيكون على (الدولة الأمريكية) أن تثبت هيمنتها على مجتمعها، وأن تضمن للأثرياء قدرتها على الدعم والأهم القمع. وحتى هذا قد لا يمنع انتقال الأموال الأمريكية إلى السوق الصينية مثلاً التي تتحضر مؤقتاً إلى معدلات نمو عالية ترمم خسارات التعطل في الأشهر الثلاثة الماضية.

العسكرة الداخلية الاحتمالات تبدو قريبة

الطابع العسكري للتعامل مع (أزمة كورونا) في الولايات المتحدة، هو الطابع العسكري للتعامل مع الأزمة الاقتصادية الحالية. ترامب يقول: إنه (رئيس مرحلة حرب)، وتم إعلان الطوارئ، والجيش بدأ ينسحب من بعض مناوراته العسكرية الخارجية، ويتجهز (لمحاربة الفيروس) في الداخل الأمريكي... والمجتمع الأمريكي يخزّن الأسلحة كما يفعل مجتمع عنيف يتحضر للحظة أزمة كبرى.
ما زلنا في بداية الطريق، والتنبؤ بالاتجاهات عملية معقدة، ولكن المحسوم: أن الحُزم الإسعافية ستنظم إعادة توزيع الثروة والقطاعات في السوق الأمريكية، وأن التراجع الاقتصادي المستدام شبه حتمي. بأفضل الأحوال قد تتم مواجهته بتوسيع الخدمات والبنى التحتية الأمريكية، أي أن يلعب جهاز الدولة الأمريكي لعبة (روزفلت) في لحظة أزمة الثلاثينيات ويضطر لإعادة التوزيع باتجاه المجتمع (كما يمثل خيار بيرني ساندرز كمرشح للرئاسة) ولكن هذه العملية تتطلب القدرة على تحقيق الربح من الخارج وتوسيع الدمار في الخارج كما حصل في الحرب العالمية الثانية، وهو أمر صعب في عالم اليوم، ويبدو أن الحكم الأمريكي غير جاهز للتنازل للداخل الأمريكي الآن. ما يجعل ترجيح الخيار البديل (الفاشي) وهو العسكرة حاضراً أكثر للمستقبل الأمريكي القريب!

معلومات إضافية

العدد رقم:
958
آخر تعديل على الإثنين, 23 آذار/مارس 2020 13:37