الصناعة السورية واختلالاتها الكبرى (3) ثلاثة أرباع الصناعة خفيفة تكنولوجياً

بعد الاستقلال السوري كانت سورية تمثّل واحدة من نقاط التصنيع النامية سريعاً بين دول العالم النامي... موقعها الجغرافي، كثافتها البشرية، وإرث من الحرف والخبرات في مدن عريقة تاريخياً وعلاقات تجارية ممتدة شرقاً وغرباً... والأهم إنجاز الاستقلال السياسي والاقتصادي في وقت مبكّر أتاح للحكم الوطني في حينها أن يفتح أفقاً مستفيداً من الظرف الدولي مع وجود منظومة الدول الاشتراكية التي كانت مصدراً للمعدات والخبرات، والتي جعلت الغرب مضطراً للتعامل بمرونة أكثر مع دول المنطقة تحت ضغط منافسة السوفييت.

ستون عاماً مرّت ومراحل عديدة للتصنيع السوري تعاقبت، والتقدم التصنيعي عقب الاستقلال، انتقل من القطاع الخاص في نهاية الخمسينات إلى جهاز الدولة، عندما تمّ تأميمة ومن ثم توسيع العديد من الشركات الكبرى التي أصبحت أهم معامل الصناعة العامة في قطاع النسيج، سكر حمص، سيرونكس، تاميكو وإلخ... بينما كانت المعامل والصناعات التحويلية المنشأة من قبل جهاز الدولة أقل عدداً، وأهمها وآخرها الأسمدة في عام 1972. عمليات التطوير التصنيعي التي أجراها جهاز الدولة على المعامل المؤممة أو المنشأة توقّفت تقريباَ منذ منتصف السبعينات، ثم مع تغوّل الفساد بدأ الابتلاع التدريجي لمعامل الصناعة التحويلية الكبرى ولم تستطع أن تتقدم إلى الأمام... تآكلت دون استثمارات إضافية، وانتقلت خبراتها إلى الصناعة السورية الخاصة التي بدأت تنتعش في التسعينات ومنذ مطلع الألفية بدأت تزيح معامل الدولة. ولكنها مع ذلك كانت تعمل في بيئة معقّدة مثقلة بالنهب بينما كانت تحتاج إلى دعم كبير في ظروف الانفتاح التجاري، الأمر الذي جعلها محدودة في مجالات أولية ضعيفة التكنولوجيا لم تستطع أن توظّف أو تستفيد من القدرات المالية، والكفاءات العلمية والشبابية السورية، أو حتى المهارات التجارية السورية.

التوزّع التكنولوجي للصناعة التحويلية الخاصة

الصناعة التحويلية السورية قبل الأزمة واليوم هي خاصة بالدرجة الأولى، حيث شكّل ناتج الصناعة الخاصة 80% من مجمل ناتج هذه الصناعة في عام 2010، وأصبح يشكّل في عام 2015 نسبة 94% مقابل أقل من 6% للصناعة العامة.
ولكن التركيبة التكنولوجية لهذه الصناعة توضّح البنية الهشّة للصناعة السورية، فهي صناعة تشكل التكنولوجيا المنخفضة أكثر من ثلاثة أرباع ناتجها, وهذا هو واقع الحال قبل الأزمة وخلالها.
حيث تشكل الصناعات خفيفة التكنولوجيا الجزء الأعظم منها (73% في عام 2010 وارتفعت إلى 76% في عام 2015) وتتوزع على التصنيفات التالية: غذائيات ومشروبات وتبغ، الصناعة النسيجية، أخشاب وأوراق ومطبوعات، تصنيع المنتجات المعدنية عدا الآلات والمعدات، الأثاث والمفروشات.
أما الصناعات متوسطة التكنولوجيا فقد كانت تشكل نسبة 17% في عام 2010، وتراجعت إلى نسبة 16% وهي مكونة من منتجات البلاستيك والمطاط، وتصنيع المنتجات غير المعدنية (زجاج وسيراميك، وإسمنت وغيرها) بالإضافة إلى المعادن الأساسية.
والتصنيف الأعلى للصناعات المسمّى متوسطة- عالية التكنولوجيا، فقد تشكل نسبة 10% في عام 2010، وتراجعت إلى 8% في 2015، وتصنيفاتها: المنتجات الكيميائية، الآلات والمعدات، مستلزمات مكتبية وكمبيوترات، الأجهزة والآلات الكهربائية، الراديو والتلفزيونات وأجهزة الاتصال، المعدات والتجهيزات الطبية، الآليات ومعدات النقل الأخرى، وصناعة إعادة التدوير. وطبعاً لا تتوفر كل هذه التصنيفات في الصناعة السورية حيث الجزء الأعظم من منتجات هذا التصنيف هي للصناعات الكيميائية، وتحديداً الأدوية والدهانات، وصناعة الأجهزة الكهربائية المنزلية.

تكنولوجيا أقل مرونة أعلى!

استطاعت الصناعة التحويلية الخاصة أن تحافظ على عائدها، بل رفعته جزئياً خلال سنوات الأزمة، والعائد هنا هو نسبة الناتج (القيم المضافة) إلى المستلزمات والاستثمار المستخدم. وبقيت كل 100 ليرة استثمار تعطي قيماً مضافة 46 ليرة في عام 2015.
المفارقة، أن الصناعة منخفضة التكنولوجيا كانت الأكثر قدرة على المحافظة على ناتجها حيث تراجعت بنسبة 48% بين عامي 2010- 2015، بينما الصناعة متوسطة التكنولوجيا خسرت 54% من ناتجها، والصناعات الأعلى تكنولوجياً خسرت أعلى نسبة من ناتجها وتراجعت بمقدار 60%.
كما أن الصناعة منخفضة التكنولوجيا زادت ربحيتها خلال سنوات الأزمة، بنسبة 25%، واستطاعت أن تكيّف رفع أسعارها بمستوى أعلى من ارتفاع تكاليفها، وأصبحت كل 100 ليرة مستثمرة تعطي 54 ليرة ناتجاً في عام 2015 بينما كانت تعطي 43 ليرة في عام 2010.
وهذه النتيجة منطقية في ظروف الأزمة، فعملياً عندما يتراجع التصدير وفي ظرف العقوبات، فإن الصناعات الأكثر قدرة على التكيُّف هي الصناعات البسيطة منخفضة التكاليف الاستثمارية، والأكثر اعتماداً على اليد العاملة رخيصة التكلفة في سورية، بأجور هي ضمن الأقل عالمياً، كما أنَّ تراجع الاستيراد نسبياً بالقياس بعام 2010 جعل بعض هذه الصناعات بجوِّ منافسة أقل، وأتاح لها رفع أسعارها بمستويات أعلى من ارتفاع التكلفة.
بينما الصناعات التي تتطلب استثماراً أعلى وكثافة آلات ومعدات ورأس مال أكبر... فهذه أقل قدرة على التكيف مع ظروف تراجع التجارة وتراجع الطلب المحلِّي.

إن هيمنة الصناعة منخفضة التكنولوجيا على التصنيع السوري، يرتبط بمجمل بيئة الإنتاج... فتطوير الصناعة نحو قطاعات أكثف تكنولوجياً يتطلب نقلات نوعية في السياسات: التخطيط والدعم والتمويل والبحث العلمي... بينما هذا لم يتوفر جدِّياً في الظروف السورية منذ عقود، بل بقي التصنيع مثقلاً بعبء الفساد وحصصه، رغم أنه أوجد طرقاً للتكيف معه أيضاً. حيث يدفع المصنعون إتاوات للتراخيص وتسهيل الأعمال، ولكن بالمقابل يحصلون على تسهيلات عبر الفساد أيضاً، كالتغطية على التهرُّب الضريبي، وعلى مدفوعات الكهرباء على حقوق العمال بالتأمين وإلخ... وبنية كهذه لا تستطيع أن تدفع التطوير التكنولوجي للتصنيع قدماً، بل تبقيه في هوامش ضيقة ومستوى تكنولوجي متدنٍ، ويبقى الناتج الصناعي متخلفاً وقليلاً ومنهوباً، لا يستطيع أن يلبي احتياجات السكان والنمو التشغيل وعموم التطور... وتبقى فوائده القليلة موزّعة بين مالكي المنشآت والفساد الذي يتطفَّل على كل مواضع خلق الثروة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
956
آخر تعديل على الأربعاء, 11 آذار/مارس 2020 13:53