ربمّا يجب أن نخاف على الليرة مجدداً
ارتفع سعر صرف الدولار في السوق السورية خلال الأسبوع الماضي بنسبة قاربت 3% وفق تبادلات السوق المحلية... وأتى هذا الارتفاع مع موجة الحديث عن العقوبات، ولكن أيضاً مع معالم التوجهات الجديدة للمصرف المركزي السوري.
يسلك مصرف سورية المركزي تباعاً في المرحلة الحالية، سلوكاً «تحررياً» إن صح القول، بإلغاء كافة الضوابط والتقييدات السابقة. فلا مزيد من سياسة «حبس الليرة»، أو تقييد الإقراض، أو تقييد عملية سحب وإيداع أموال الحسابات بالقطع الأجنبي. إضافة إلى اتجاهه نحو تخفيض سعر الفائدة، وإلغاء تقييدات وضوابط عملية الإقراض.. وإلى ما هنالك من سياسات نقدية يرى البعض أنها تقيّد حركة الأموال والقطاع المصرفي.
«إجراءات تحررية»
صرح حاكم المصرف المركزي أمام الجمعية البريطانية:
«أنه منذ أيلول 2018 وحتى الآن تم تبني سياسة... اعتماد إجراءات بناء الثقة من خلال إعادة النظر بالقرارات السابقة التي شكلت قيوداً على النشاط الاقتصادي، مثل حبس النقد والعمل على إزالة الاختناقات، والعمل على امتصاص السيولة من خلال طرح أدوات نقدية، مثل شهادات الإيداع وأذونات الخزينة».
كما أصدر المصرف المركزي التعميم رقم /ص/ 16/507/، الذي يتضمن مطالبة جميع المصارف العاملة باتخاذ الإجراءات اللازمة لتسهيل تعاملات المواطنين مع المصارف، ولاسيما حرية عمليات إيداع الأموال وسحبها بالقطع الأجنبي. وقلل المصرف التجاري من الكفالات المطلوبة ملغياً الرهن العقاري ومطالباً بكفالة مالية.
يأتي هذا ضمن سياق ما يسمى السياسة النقدية «التحررية»، فالمركزي يتجه في السياسات المحررة من القيود هذه، إلى زيادة جذب الأموال السورية أو الاستثمارية عموماً من الخارج إلى سورية، ومنحها الطمأنينة بأن المركزي «لن يتدخل كثيراً» وهي واحدة من سياسات التسويق الليبرالية لجذب الأموال.. فالهدف الأساسي لسوق المال السورية اليوم، لا يزال الأموال السورية في المصارف اللبنانية التي يضعها القطاع المصرفي السوري نصب عينيه، والتي ترتفع تقديراتها إذ أصبحت تتراوح بين 20 وصولاً إلى 50 مليار دولار، في آخر تقديرات أحد أعضاء مجلس الشعب السوري.
التحرير يعني تحكماً أقل
قد تبدو مفردة «إلغاء القيود»، مشجّعة وإيجابية، ولكن ينبغي التدقيق أكثر.. فإلغاء التقييد في السياسة النقدية، يعني إعطاء المصرف المركزي السوري دوراً أقل في عملية إدارة الأموال والنقد، وفي التأثير على سعر الصرف، وفي التأثير على توظيف الأموال، بل وفي التأثير على آليات وعملات التداول.
فالأموال عندما تصبح حرة، في ظروف يصعب فيها الحركة ضمن النشاط الاقتصادي، تتحول حكماً للنشاط في مجال تبييض الأموال، والمضاربة! لأن الأموال إن توقفت.. خسرت، وينبغي خلق حركة وهمية إن لم تكن هنالك إمكانية للنشاط الفعلي. وفي أوقات كهذه تحديداً، ينبغي تقييد الحركة لمنع المضاربة.
إن التحرير النقدي ينبغي أن يتبع تأمين ضرورات قدرة النشاط الاقتصادي على الإقلاع. الأمر الذي لم يجرِ بعد، والذي يتطلب بالحدود الدنيا تأمين الوقود وبعض البنى التحتية وتوسيع قدرات المال العام... والذي يتطلب تحفيز الإقراض الإنتاجي، الذي لديه أعلى معدلات فائدة، ففي كتاب بين وزارة الصناعة والمصرف الصناعي والاتحادات المعنية يتبين أن فوائد قروض الصناعيين تتراوح بين 10-12%.
يبدو هذا السير نحو التحرير النقدي مريباً، لأنه يذهب في اتجاه أن تفتح الحكومة حركة الليرة، وأن تحفز الطلب على الدولار، بطرحها لسندات الخزينة وشهادات الإيداع بالقطع الأجنبي. وكل من هذا وذاك يؤدي إلى تراجع قيمة الليرة، وتحديداً عندما يكون النشاط الاقتصادي الحقيقي مقيداً، بفعل كل ظروف العقوبات والدور الحكومي الذي يعتزل الإنتاج ويمتهن الخطط والبحث والندوات، وأخيراً في ظرف البيئة الاستثمارية للقطاع الخاص في سورية حالياً، حيث أعلى مستوى من التمركز والاحتكار، وحيث يسود منطق حيتان السوق الذين ينشطون في قطاعات العقارات والاستحواذ والمال.
ربما يحق لنا أن نخاف على الليرة مجدداً، لأن استقرارها في العامين الماضيين ارتبط تحديداً بتقييد نسبي لكتلة السيولة بالليرة، والجو الإيجابي الذي ساد مع التحسن النسبي في الخدمات، والذي أوقف إغراء النشاط المضاربي على العملة، وأوحى بحركة النشاط الاقتصادي...وطالما أن حركة النشاط الإنتاجي لا تجد من يدفعها جدياً، فإن الليرة تصبح أضعف، والأموال تصبح مضاربية أكثر.