المستثمر محكوم بشروطنا (إن وُجدت)!

المستثمر محكوم بشروطنا (إن وُجدت)!

يعتبر البعض أنه كلما توسع نشاط المؤتمرات، وغلا ثمن البدلات الرسمية التي تنشط فيها... كلما ازدادت القناعة بأن (إعمار) سورية قد بدأ! فمن مؤتمر لرجال الأعمال هنا، إلى المؤتمر الاستثماري هناك، إلى الندوة التعريفية والتحفيزية للمستثمرين في مكان آخر، وكلها بغرض (التحضير لإعادة الإعمار) وتهيئة الجو للمستثمرين كي (يتشجعوا ويبدؤوا).

هل الاستثمار هو المفتاح لعملية لإعادة الإعمار؟ وهل اندفاعه هو مؤشر لها؟ وهل سنستطيع وضع شروطنا أمام هؤلاء؟
يعتبر الاستثمار محوراً محركاً في عملية النمو الاقتصادي، الضرورية لخروج سورية من الوضع الاقتصادي الإنتاجي الكارثي خلال سنوات الأزمة. وبالفعل قد تحتاج إعادة الإعمار السورية إلى تمويل بين 300-500 مليار دولار. وهذه ستكون استثمارات، أي: موارد بشكل رؤوس أموال يجب أن تتراكم في القطاعات الاقتصادية، لتتحول إلى منتجات وإنشاءات وخدمات جديدة.
ستتعدد مصادر التمويل في المرحلة القادمة، ويجب أن تتعدد، فمن التعويضات الدولية المستحقة للسوريين من الدول التي ساهمت في تصعيد الأزمة والعقوبات، إلى التمويل عبر المساعدات التنموية الإنتاجية، أو في البنى التحتية من الدول الناشطة في هذا المجال كما الصين مثلاً، وصولاً إلى الموارد العامة: التي يجب أن تزداد بعد أن تتخلص من عبء الفساد الكبير والهدر، والأداء الضعيف الذي يدفعها للتآكل. وبالإضافة إلى ما سبق، فإن الحصول على الموارد عبر المستثمرين، أي: عبر المالكين الكبار للموارد ستكون مسألة مطروحة وملحّة.

(الملكية والربح) مشكلتنا مع المستثمرين
ولكن المشكلة المعهودة مع المستثمرين لها جانبان، الأول: أنهم مالكو الموارد، وبالتالي مالكو الخيار في توظيفها من عدمه، وفي أوجه توظيفها في هذا القطاع أو ذاك، وبهذا الكم أو ذاك، وكذلك الأمر بهذا الشرط أو ذاك. ما يجعل عمليات التنمية الضرورية المعتمدة على هؤلاء رهناً لقراراتهم، ويجعل الحكومات ساعية لتحفيزهم ودعوتهم، واستعراض الفرص والمزايا أمامهم.
أما الجانب الثاني: فيكمن في التناقض بين غاية هؤلاء من استثمارهم، وبين حاجتنا للموارد. فعملياَ المستثمرون لا يُقدمون على توظيف أموالهم إلا عندما يتحقق شرط ربح أعلى من الوسطي الموجود في إطار النشاط الاستثماري الدولي المتاح للمستثمرين، وفقاً لحجمهم. فإذا كان الاستثمار المصرفي في لبنان يستطيع أن يحقق عائداً 39% مثلاً، فإن هؤلاء لن يقدموا على الاستثمار في سورية إلا بمعدل ربح أعلى. ما يعني: أن جذبهم قد يتحول إلى سباق لزيادة ربحهم، أي: حصتهم من الناتج. وبالمقابل فإن السوريين يحتاجون إلى كل جزء من الناتج، ليضيفوه استثماراً، وتنمية، ويوسعوا به الخدمات الاجتماعية الضرورية لتعويض الملايين من السوريين، كشرط وطني ضروري لتحقيق إدامة الاستقرار.
التناقض يكمن بأن المستثمرين يريدون أكبر قدر من الربح مقابل استثمارهم، ونحن نحتاج أقل قدر من الربح الخاص غير الموظف استثمارياً.

تجربتنا القريبة المرّة
لقد جربت سورية (الاندفاع الاستثماري) خلال العقد الأول من القرن الحالي، ونستطيع القول: إن النموذج الليبرالي السوري، الذي توسّع من حينه، وسعى إلى الاعتماد على الاستثمار الخارجي كمصدر موارد، هو النموذج الاقتصادي- الاجتماعي الذي أوصل البلاد إلى وضع اجتماعي، يجعلها بلاداً جاهزة للدخول في أزمة كالأزمة السورية! أي: أنه مساهم أساس في تعميق الاحتقان الاجتماعي، وتجهيز مقدمات الفوضى.
فيومها كثُرت أيضاً المؤتمرات والقوانين والتشريعات، وتدفقت الاستثمارات، ولكن بالشكل الذي تعبر عنه الشركات القابضة الاستثمارية الكبيرة: حيث جمعت أموال وجوه المال والفساد الكبير في سورية، مع أموال المستثمرين الإقليميين، وتحديداً الخليجيين منهم، ونشطت هذه الأموال في القطاع النفطي وخدماته حيث الريع الكبير، وفي القطاع العقاري والمصرفي الخدمي، والمال المنفق على مجمعات سياحية لتبييض الأموال. (تقرير الاستثمار السوري الرابع- 2009).

شروطنا.. هل يمكن فرضها؟
الاستثمار الخاص الكبير المحلي والخارجي، لا يمكن أن يساهم في تحقيق هدف إعادة الإعمار الفعلية في سورية، إلا إذا تم تدارك جانبيه الإشكاليين: الملكية الخاصة للثروة وقرار توظيفها، وحصة الربح الكبرى التي يسعى لتحقيقها.
وتدارك هاتين الإشكاليتين يتطلب وضع خريطة استثمارية وطنية، للاستثمار في القطاعات التي تخلق الثروة الفعلية، أي: في الإنتاج الحقيقي، لا في قطاعات الاستثمار الخدمي، الذي يتحول إلى استثمارٍ مضاربي وتضخمي.
يجب وضع خيارات استثمارية للمستثمرين ليختاروا منها، وفق خطة وشروط محلية تفرضها الضرورات السورية. والشروط يجب أن تتعلق بجوانب محددة:
نوع القطاعات، حصة الربح الممكنة، حصة التراكم السنوي، أي: الحصة من ربح المستثمر التي يجب توظيفها استثمارياً في سورية، درجات المنع والسماح لخروج الأموال والأرباح من سورية.
إن الظروف الاقتصادية والسياسية الدولية التي ستوجد فيها لحظة الإعمار السورية، أي: لحظة حل الأزمة السورية حلاً سياسياً دولياً، هي ظروف تسمح للسوريين بمفاوضة أصحاب الموارد الكبرى أي: المستثمرين، من موقع أقوى، وتسمح لشروطنا بالتطبيق. فالعالم تعمه أزمة اقتصادية ومالية عميقة، ومعدل ربحٍ متراجعٍ، وأصحاب المال يبحثون عن ملاجئ ربحية، يعتقدون أن سورية ستكون أهمها. بالإضافة إلى أن التنافس التمويلي الدولي أصبح عالياً وحاداً، وأكثر ما يدل على ذلك دور الصين التي تنافس بتمويل إنتاجي وإنشائي وتكنولوجي أقل تكلفة، ودون شروط في السياسة الاقتصادية كما يفعل الغرب. ولكن الأهم: أن إعمار سورية سيكون جزءاً من الحل السياسي الشامل للأزمة السورية، وستكون القوى الدولية والإقليمية المعنية بالاستقرار في المنطقة، مساهمة جدية في نموذج إعمار سوري مستقر، أي: خاضع للضرورات الوطنية السورية.

الظرف الإيجابي الدولي للحظة إعمار سورية لا يمكن أن يتحول إلى وقائع إلا إذا صاغ السوريون خطتهم الاقتصادية الوطنية، ودافعوا عنها، ووضعوا شروطاً لها أمام المستثمرين. لن تستطيع الحكومات الحالية أن تلعب هذا الدور، لأن عموم السوريين لا يستطيعون في اللحظة الحالية، أن يساهموا في القرار الاقتصادي والاستثماري... والحكومات الآن محكومة بمصالح قوى المال الكبرى السورية المهيمنة. هذه القوى التي تلعب دوراً شديد السلبية في المسألة الاستثمارية، وتُكثر من المؤتمرات والندوات التي تهدف إلى تسويق نفسها: فيعمل هؤلاء على تحفيز الاستثمار العقاري، ويحلمون بالربح المضاربي من المدن الجديدة التي يرسمون لها على حساب حقوق السوريين بالتعويض. ويعملون على توريط السوريين بعقود استثمارية تشاركية، كما تسمى، كأن يُستثمر الفوسفات السوري بنسبة 30% فقط للمؤسسة العامة و70% للمستثمر، وذلك على سبيل المثال لا الحصر...
ولكن هذا السلوك مرتبط باللحظة السياسية الحالية، ومتغير بتغيراتها، وكلما تراجع العنف واندفع السير تجاه الحل، كلما أصبح لعموم السوريين دور سياسي في القرار الاقتصادي ينهي أحلام هؤلاء ويبني أحلاماً سورية جامعة.

آخر تعديل على الأربعاء, 16 أيار 2018 12:22