تحريك قروض السكن... لن يؤمن المأوى!
يتصدر الحديث عن قروض السكن، تصريحات بعض المصارف العامة، حيث بشّر المصرف العقاري السوريين بعودة قروض السكن الادخاري، وركزت مراسلات المصارف العامة على الإقراض الاستهلاكي السكني. وقبلها دفع المصرف المركزي نحو قروض استيراد السيارات، ثم عدل عن قراره... أما القروض الإنتاجية التي نالت نصيبها من التصريحات والتأكيدات، أيضاً لا تبدو على سلم الأولويات.
وعموماً تتسم عملية إعادة تحريك الإقراض بالحذر، وتسير بخطوات بطيئة، فالمحاذير جميعها لا زالت موجودة، ولكن دوافع تحريك الإقراض جميعها كانت ولا زالت مستحقة... فكيف يمكن التركيب بين الأمرين؟
توقفت عمليات الإقراض منذ عام 2012 تقريباً لعدة أسباب، أولها: سلسلة القروض المتعثرة، التي امتنع الجزء الأكبر من مقترضيها عن السداد، بعد أن حصلوا على تسهيلات مشبوهة، تورط فيها كبار المسؤولين الماليين والمصرفيين. وفي الأحوال كلها، فإن جزءاً من الامتناع عن الإقراض هو الظروف السياسية والأمنية، وبالتالي الاقتصادية التي كانت تجعل التعثر احتمالاً كبيراً، والإقراض مخاطرة، هذا من ناحية.
أما من الناحية الثانية: فقد توقف الإقراض ضمن جانب من السياسة الانكماشية المخصصة لمواجهة التضخم، فعملياً كانت السياسة المالية والنقدية تحاول أن تواجه تراجع قيمة الليرة، والارتفاع الهائل في الأسعار من البوابة المالية، بأن تحجب الليرة جزئياً عن التداول في السوق. أي: تقلل تواجدها وحركتها، وبالتالي عرضها، علّها تدعم بهذا قيمتها في السوق، مقابل العملات الأخرى. أي: عملية حبس الليرة، مقابل توسيع عرض الدولار عبر مزادات بيعه للسوق خلال سنوات الأزمة.
ولهذه الأسباب بالدرجة الأولى، تم الامتناع عن تحريك الإقراض الاستهلاكي والإنتاجي خلال سنوات الأزمة.
هل حقق إيقاف الإقراض أهدافه؟
إذا أردنا أن نناقش مستوى فعالية هذه الإجراءات، علينا أن نعلم هدفها، والهدف الضيق تجلى بحماية المنظومة المصرفية، ومنع وصولها إلى فشل مالي، عبر استمرار الإقراض القابل للتعثر في الظروف السابقة. وجزئياً نجحت هذه المهمة، فعملياً المنظومة المصرفية العامة والخاصة وسعت سيولتها، حيث كانت تنتقل إليها الأموال بالدرجة الأولى من الإصدار النقدي المخصص للحكومة، وجزئياً من مودعي السوق، والتجاريين بالدرجة الأولى.
وفي الأحوال كلها تشكل اليوم كتلة الودائع في المصارف قرابة 34% من كتلة السيولة الموجودة بالليرة السورية في السوق: 2250 مليار ليرة من أصل 6610 مليار، أي: قرابة الثلث لدى المنظومة المصرفية، والثلثين أغلبها لدى السوق، وجزء منها لدى جهات حكومية وضمن الإنفاق الحكومي.
أما الهدف الأهم والأعم، وهو: منع تدهور قيمة الليرة، فلم تستطع عملية منع الإقراض من تحقيقه، وهذا طبيعي، لأن هذا الإجراء بجانب منه يتناقض مع حماية الليرة فعلياً.
فحماية قيمة الليرة كانت تتطلب أن يتوقف الإصدار النقدي الموسع، وأن تتحول الليرات الموجودة إلى إنتاج فعلي. بينما ما تم هو العكس، حيث استمر الإصدار النقدي: موسعاً كتلة الليرة الموسعة من 2240 مليار ليرة تقريباً في 2011 إلى 6610 تقريباً (د.علي كنعان- مؤتمر سورية الأم)، وبقيت المصارف تستقطب الليرة المصدرة وتودعها، دون أن تسمح بتحويلها إلى أي نشاط اقتصادي إنتاجي، بل يتركز استخدامها على النشاط التجاري، وعلى الإنفاق الحكومي المتقلص، الذي لا يشكل منه الاستثمار الإنتاجي إلا حدوداً متناهية في الصغر...
تحريك الإقراض السكني!
اليوم، ترى السلطات النقدية والمالية، أن الظروف تغيرت، وأنه من الممكن تحريك الإقراض، وتحديداً من حيث إمكانية عدم تعثر الديون، مع تحسن في الظروف السياسية والأمنية وتأثيرها الاقتصادي الإيجابي، وتوفر نسب السيولة الضرورية لدى المصارف العامة... ولكن خطر تدهور قيمة الليرة لا يزال ماثلاً، إذا ما تم التوسع بالإقراض، وتحريك هذه الليرات المتكدسة في المصارف إلى السوق ليزداد عرض الليرة السورية، وهذا الخطر ماثل تحديداً مع التسويق الواسع للقروض الاستهلاكية والبدء بالتركيز عليها، وتحديداً قروض السكن.
فإذا ما كان جزء من سيولة المصارف سيتحول إلى الإقراض السكني، فإن تأثير هذا على قطاع الإنشاء، والاستثمار والتوظيف فيه سيكون محدوداً بمقابل تأثيره على أسعار العقارات الموجودة حالياً، وعلى قطاع المضاربة العقارية. إن تحويل كتلة السيولة إلى طلب عقاري، لن يخدم مهمة تأمين السكن للسوريين! بل هو عملياً سيخدم عمليات المضاربة العقارية، أي: رفع أسعار العقارات، وما يجره الريع العقاري من ارتفاع في المستوى العام للأسعار. إن مشكلة السكن في سورية أعمق من أن يحلها تحريك الإقراض، فإن كنا نتحدث عن 13 مليون سوري فقدوا منازلهم، فإن هؤلاء لن يكونوا المستفيدين من قروض إسكان بفائدة 9-10%، وبأقساط تقارب 45 ألف ليرة شهرياً لمدة عشر سنوات! أي: بأقساط تفوق الأجر الوسطي. ما يعني بأن الشريحة الواسعة من العاملين بأجر لن يكونوا معنيين بشكل فعلي بخدمات قروض السكن. بل سيطالهم تأثير سلبي من ارتفاع الآجارات الشهرية، وارتفاع مستوى الأسعار مع تحريك السوق العقار ية.
إن كتلة السيولة الموجودة في المصارف العامة والخاصة، ينبغي تحريكها وإيقاف عمليات حبسها، ولكن ينبغي أن تتحول إلى استثمارات إنتاجية مباشرة، تخلق فرص عملٍ، وتتيح رفع الأجور، وتتحول بالتالي إلى ارتفاع مستوى الاستهلاك والطلب. وهذا التحريك ينبغي أن يكون مدروساً، وفي مسارب محددة، تخدم تخفيض المستوى العام للأسعار، إن كان فعلاً يهدف إلى تحسين قيمة الليرة، وتحريك العملية الإنتاجية. كأن يتحول جزء من السيولة إلى إعانات إنتاجية في قطاعات الطاقة، ومستلزمات الإنتاج، والأهم، أن يتحول إلى استثمار عام مباشر بمعدلات ربح محددة ومنافسة، حدد معدل الربح في القطاع الخاص، وتلزمه على تخفيض المرابح، مقابل تحريك الطلب. من سيقوم بهذا؟ يفترض أن تقوم به حكومة لديها أهداف فعلية بتحريك النشاط الاقتصادي الإنتاجي، وتخفيض مستوى الأسعار وتحريك التشغيل، ورفع مستوى المعيشة للأغلبية...فهل حكومتنا من هذا النوع؟ بالطبع لا، ما يناسب حكومتنا هو الريع العقاري، والاستثمار الخدمي، وعموم المال السهل. فتراها تركز بالإقراض على الاستهلاك العقاري والخدمي مثل: السيارات! وتراها تناكف الصناعيين وتعطيهم قرارات وتسهيلات بالقطارة، وتصرّح بأهمية السياحة وتنشط لتحرك المستثمرين السياحيين والعقاريين، وتجترح من المراسيم والقوانين، وكل جديد يتيح استثماراً عقارياً استثنائياً تدير فيه الشركات والمستثمرين الخاص، أراضي وأملاك الدولة كما في المشروع 66... الحكومة كمتحدث باسم قوى المال، تسعى إلى طمأنة هؤلاء أينما كانوا وحلوا، بأنّ ما كان مندفعاً قبل الأزمة من سياسة ليبرالية، لا زال عاملاً وفاعلاً، وتقول لهم: (إنّا على سياساتنا لباقون)!