أقل من ربع السوريين فقط... يتغذون جيداً
نشر المكتب المركزي للإحصاء خلاصة نتائج مسح الأمن الغذائي الأسري 2017، والنتائج النهائية، تشير إلى نسبة السكان الآمنين غذائياً ونسبة من هم غير آمنين غذائياً، وما بينهما، أي نسبة السكان المعرضين لانعدام الأمن الغذائي، أو على هامش الأمن الغذائي، وذلك في المحافظات السورية كافة.
المسح الذي أقامه المركز بالتعاون مع هيئة تخطيط الدولة ومنظمة WFP برنامج الأغذية العالمي، شمل أكثر من 5 آلاف أسرة في 11 محافظة، وكان قد سبقه في عام 2016 دراسة منشورة للمركز الوطني للسياسات الزراعية حول واقع الأمن الغذائي السوري. وبالاستعانة بمعلومات الجهتين، نستطيع أن نقارن بين مستوى الأمن الغذائي بين 2015- 2017.
وفق المقارنة بين النسب في الدراستين، يتبين أن تغيرات جرت في تقديرات نسبة السكان الآمنين غذائياً بين العامين. فبينما كان 15.6% فقط من السكان يتمتعون بالأمن الغذائي في عام 2015، فإن هذه النسبة ارتفعت إلى 23.4% أي تضاعفت تقريباً. بينما تراجع من يصنفون غير آمنين غذائياً من 33% إلى 31% فقط، أي الشرائح الأضعف والأقل قدرة على تأمين غذائها لم تتقلص. بينما النسبة الأكبر من السكان، ممن يعتبرون على هامش الأمن الغذائي، فقد تراجعت نسبتهم من أكثر من نصف السكان: 51.6% في عام 2015 وصولاً إلى 45.6%.
أي عملياً، لا تزال الشريحة المهددة بفقدان أمنها الغذائي هي الشريحة الأكبر، وتقارب النصف. بينما لا يزال قرابة ثلث السكان غير آمنين غذائياً. رغم أن هؤلاء لربما ازدادوا عدداً نظراً لتوسع نسبي في عدد السكان بين العامين، وبعد توقف موجات الهجرة والنزوح الواسعة التي شهدها عامي 2014- 2015. والثلث يعني قرابة: 5.6 مليون نسمة، غير آمنين غذائياً، بينما قرابة 8.3 مليون نسمة مهددون بأن يصبحوا غير آمنين غذائياً، أما من يتمتعون بالأمن الغذائي، وبالطبع بدرجات متفاوتة فيقاربون: 4.2 مليون نسمة.
لم يوضح المكتب المركزي للإحصاء ما هو محدد الأمن الغذائي بمفهومه، إلا أن دراسة المركز الوطني للسياسات الزراعية، تشير إلى أن الأمن الغذائي الإجمالي يرتبط بالمتاح من الغذاء على المستوى الكلي، أي الإنتاج والاستيراد مطروحاً منه الصادرات، وذلك لمجموعات المكونات الغذائية الرئيسية، ويرتبط أيضاً بإمكانية الوصول إلى هذا الغذاء، أي المقدرات الاستهلاكية، ومستويات أسعاره، وأيضاً يرتبط باستقرار إمداداته.
هل هناك كميات غذاء كافية للجميع؟
لا تتوفر أرقام دقيقة حول مستوى توفر الأنواع الغذائية المتاحة في السوق السورية، بالمقارنة مع الحاجات الغذائية الأساسية لكل فرد.
ولكن هناك بعض المؤشرات التي تؤكد وجود نقص، ولكنه غير حادٍ... ما يجعل توفر الغذاء ليس المشكلة الأساس في أزمة الأمن الغذائي.
قاست دراسة عام 2016 لمركز السياسات الزراعية مستوى الغذاء المتاح للفرد من المكونات الغذائية الأساسية، وتغيراتها بين عامي 2010- 2015 حيث تبين أن الحصة المتاحة من بعض المكونات لم تتقلص، بينما تقلصت في مكونات غذائية أخرى.
فعلى سبيل المثال: لم تتراجع حصة الفرد المتاحة له من البقول الحبية الغذائية (العدس والحمص والبازلاء والفول وغيرها) بل توسعت بنسبة 5.5% سنوياً، وكذلك الفواكه بنسبة 0.1%. ولكن المكونات الباقية كلها تقلصت، وقد تراجعت الحصة المتاحة للفرد من البيض والخضار بأعلى نسبة سنوية: 8.9% للأولى، و6.6% للثانية. بينما تراجعت الحصة المتاحة من اللحوم بنسبة 5.2% سنوياً، وأقل نسبة تراجع كانت في الحليب بنسبة 1.1% سنوياً، والحبوب الغذائية بنسبة 1.8% سنوياً.
أي عملياً، إذا ما أردنا أن نوزع الغذاء المتاح بالتساوي على الأفراد المتواجدين في سورية في عام 2015، فإنهم لن يحصلوا على كميات غذاء تعادل ما كان متاحاً للفرد الواحد في 2010، وهي كميات أقل من الوسطي المتاح عالمياً للفرد، في الأنواع الغذائية كلها، باستثناء الحبوب والفواكه.
إن نقص كميات الإنتاج المحلي، وعدم قدرة المستوردات على تغطية كل فجوة حاجات الغذاء، تعتبر واحداً من العوامل المؤثرة في تراجع الأمن الغذائي، لأن نقص الكميات يجعل القليل المتبقي أعلى سعراً، ويجعل بالتالي إمكانية الوصول إليه أقل من الشرائح الواسعة، التي دخلها بعيد جداً عن تغطية حاجات الغذاء وأسعار المرتفعة.
الإنتاج المحلي من الغذاء في عام 2016 كان قادراً على تغطية نسبة 65% أي أكثر من ثلثي الحاجات الغذائية الضرورية لغذاء 20 مليون نسمة (قاسيون 833)، ولكن جزءاً من هذا الإنتاج يذهب للصادرات، ما يقلص من المتاح منه للاستهلاك الغذائي المحلي، وتحاول الواردات الغذائية أن تعوض الجزء الباقي، ولكن زيادة الإنتاج المحلي المتاح هي المحدد، فنحن ننتج كميات كافية لتغطية الحاجات الضرورية، بمساحات أراضٍ أقل بمقدار 30%، وبثروة حيوانية أقل، بمقدار يقارب النصف عما كان متوفراً في عام 2010.
إذاً الجانب الأول من جوانب الامن الغذائي، هو: وفرة الغذاء بحدوده الضرورية، هو عائق أمام الأمن الغذائي، فطالما لا تحدث نقلات نوعية في إمكانية زيادة الإنتاج المحلي، وطالما لا ترفع العقوبات بحيث تكون مستوردات الغذاء الضرورية متاحة بسهولة وكم أكبر، فإن المشكلة الأولى من مشاكل الأمن الغذائي، هي: توفر الغذاء الكافي للجميع لن تحل.
هل يستطيع الجميع أن يشتروا المتوفر من الغذاء؟
الجانب الآخر من جوانب الأمن الغذائي، هو قدرة السوريين من الشرائح المختلفة في الحصول على هذا الغذاء، المتواجد في السوق، وليس في متناول اليد!
ترتبط هذه المسألة بالتأكيد، بأسعار الغذاء مقابل الدخل، ورغم أن الدراسات الحكومية لا تربطها بالدخل الوسطي للفرد. إلا أنها تشير إلى أن وسطي استهلاك الفرد للطاقة المأخوذة من الغذاء، قد انخفض بنسبة سنوية 4.6% بين عامي 2010- 2015، أي تراجع استهلاك السوري من السعرات الحرارية بمقدار يقارب الربع 23%.
ولكن هذه النتيجة المبنية على استبيان ومسح في المحافظات، تشير إلى تراجع استهلاك الفرد من المكونات الغذائية الضرورية، أما حول السبب، فإن ربط كلف هذه المكونات الغذائية مع مستوى الدخول هو المحدد.
فعملياً الكلفة الشهرية لسلة الغذاء الضروري بمعدل 2400 حريرية يومياً لكل فرد، قد بلغت 17 ألف ليرة سورية، ما يعني أن العامل بأجر وسطي 34 ألف ليرة يستطيع بأجره أن يغذي نفسه وفرد آخر من أسرته فقط... وحتى تتغذى بالحدود الدنيا أسرة من خمسة أشخاص فإنها تحتاج إلى ثلاثة أجور وسطية، ما يعني أن أسر العاملين بأجر جميعها في داخل سورية هم فقراء فقراً مدقعاً، ولا يستطيعون تغطية تكاليف غذائهم الضروري إلا إذا عمل ثلاثة أفراد من الأسرة. فماذا عن العاطلين عن العمل، وماذا عن أكثر من 13 مليون سوري بالحد الأدنى يسكنون بالإيجار بوسطي أجارات شهرية أعلى من الأجر الوسطي!
يعتبر تراجع كميات الغذاء المتاحة سبباً في تراجع الأمن الغذائي في سورية، ولكن تراجع الأجور في سورية، والبطالة، وما يقابلها من فجوة كبيرة بين أسعار الغذاء، والقدرة على الحصول عليه، هي العامل الأساس في فقدان الأمن الغذائي، وإن كانت الاستبيانات والعينات تقول: إن أكثر من ثلاثة أرباع السوريين إما غير آمنين غذائياً، أي فقراء فقراً مدقعاً، أو على هامش الأمن الغذائي... فإن هذا معناه: بأن أقل من ربع السوريين فقط ليسوا مهددين بالجوع، بينما ثلاثة أرباعهم قد وقعوا في براثنه ويستهلكون غذاءً لا يكفي للحاجات الضرورية.