شروط أوروبية لإعمار سورية
لا ينفك المسؤولون الأوروبيون من تحذيرنا والتأكيد على موقفهم (المبدئي): أنهم لن يساهموا ولا بيورو واحد في إعمار سورية، ما لم يحصل الاتفاق السياسي في سورية. فعلى أي أساس يشترط هؤلاء (الجنتل مانس)؟!
تتحول إعادة الإعمار بالنسبة لبعض الأطراف الدولية التي خسرت المعركة سياسياً، إلى الأمل الوحيد المتبقي...وهذا حال الغربيين عموماً، والأوروبيين على وجه التحديد.
قرون من نهب القيمة
منذ أن وضع هؤلاء (الأوروبيون) أقدامهم عميقاً في المنطقة، عبر شركات نخبهم الكبرى من المرحلة التي سبقت انهيار الدولة العثمانية، وهم يثرون عبر (نهب القيمة) من منطقتنا، كما غيرها من المناطق. ونهب القيمة يعني: عمليات وآليات الاستغلال الدولي كلها، التي طورتها مراكز رأس المال الكبرى خلال أكثر من قرنين. استعماراً مباشراً، ومن ثم بالاستعمار الحديث غير المباشر، عبر علاقات التجارة، لنصدر الخام الرخيص، ويتكفلون باحتكار وارداتنا التكنولوجية بأسعارٍ احتكارية، وعبر نقل القوى العاملة الكفؤ في عملية هجرة العقول، وعبر آليات الاستثمار والقروض والديون، بل والبرامج والنصائح، والخبراء، والسياسيين، والنخب المالية المحلية التي تعبئ خزائنها بأموال الفساد والنهب والاستغلال المحلي، وتودعها هادئة في بنوك الغرب، ومرات في قصوره، وفنادقه واستثماراته!
لم ينقطع سيل نهب قوة عمل السوريين، ومسارب تدفقها إلى الغرب خلال عقود الاستقلال السوري، إلا انقطاعات مؤقتة، عاد الأوروبيون ليجدوا طريقهم إلى مواردنا مع تبدل أشكال الحكم ووجوهه. فقرابة 95% من نفطنا الخام كان للأوروبيين، بينما تسعى قوى النهب والتعطيل والسمسرة كل جهدها كي لا نزيد طاقتنا التكريرية، وتبقى واردات المشتقات النفطية شغالة، وفي هذا مثال لا أكثر على منظومة التجارة السورية المرتبطة بالأوروبيين كلها إلى حد بعيد.
سعى الأوروبيون كما الغرب عموماً، ورغم علاقاتهم القوية والعميقة بمنظومة أثرياء سورية من الأطراف والألوان السياسية كلها، إلى المساهمة الفعالة في مشروع الفوضى في سورية كما في غيرها، فمستوى النهب السابق، لم يعد متناسباً مع عمق أزمتهم الاقتصادية والمالية، التي أصبحت تتطلب التدمير لتنتعش مجدداً، أو لتمنع على الأقل انتعاش الآخرين، وخروج مناطق هيمنتهم عن السيطرة. وهذا المشروع فشل سياسياً في سورية، ولم يصل إلى نقطة اللاعودة التي كانوا يريدونها، بفضل تغيرات ميزان القوى الدولي. وبما أنه فشل، وأصبحت الحلول السياسية هي الأمر الواقع، فإنهم يسعون للمحافظة على الأقل على موقع هيمنة وعلاقات اقتصادية في خريطة سورية القادمة، وتحديداً في خريطة إعمارها حيث يتم الحديث عن 300 مليار دولار تقريباً، وهذه الاستثمارات لن (تفك أزمة) للأوروبيين، ولكنها تتيح ألا يخرجوا مطلقاً، وتتيح إعادة وصل الخطوط التي قطعوها خلال السنوات الماضية.
وعلى هذا الأساس يتكتكون من فوق الطاولة، ومن تحتها، كما هو عهدهم.
هل هناك
فرصة جدية للأوروبيين؟!
سيدخل الأوروبيون من بوابة تمويل إعادة الإعمار والاستثمار به، هذا ما يأملونه، لتؤمن استراتيجية القروض والاستثمارات الربط العميق مع النخب السياسية القادمة، ومع مصير البلاد الاقتصادي، ويرتهن وضعها المالي لأقساط القروض والفوائد، ولتصبح أموال الإعمار واستثماراته أداة ضغط على المسار والنموذج الاقتصادي، الذي يريد أن يتبعه السوريون، والذي تحتاجه بلادنا فعلياً.
إن هذا السيناريو واقعي جداً، ولكن لو أننا في التسعينيات على سبيل المثال، أو في مرحلة الهيمنة الاقتصادية والمالية والتمويلية الغربية... ولكن هذه المرحلة انتهت اليوم، وإعادة إعمار سورية تأتي في عالم اليوم، حيث أصبحت دول أطراف كبرى سابقة، ومستعمرات قديمة، هي الرقم واحد عالمياً في المؤشرات كافة. والحديث عن الصين تحديداً، وغيرها من قوى العالم الجديد_ اقتصادياً_ وتحالفاته.
وهؤلاء، ليس نتيجة دوافع أخلاقية، بل دوافع اقتصادية موضوعية، يستطيعون أن يؤمنوا للسوريين، كما يؤمنون لغيرهم من دول آسيا وإفريقيا، فرصاً تمويلية ميسرة وهامة، ودون شروط مسبقة سياسياً واقتصادياً. والأهم: أن هؤلاء معنيون سياسياً وبشكل مباشر بنجاح فعلي لإعادة الإعمار في سورية، وذلك لأنهم معنيون برسوخ الاستقرار في المنطقة، وباستكمال نموذج لحل الأزمات الدولية سياسياً، واقتصادياً.
فهل سيستطيع الأوروبيون تحديداً أن ينافسوا نموذج الصين التمويلي، هل يستطيعون أن يقدموا لنا منحاً، وقروضاً دون فوائد تمول البنى التحتية والصناعة والطاقة، وشراكات تمويلية ندفع مقابلها سلعاً لا دولارات، كما يفعل الصينيون في مشروع طريق الحرير، وفي علاقاتهم بإفريقيا وأميركا اللاتينية؟
المنافسة التمويلية العالمية اليوم لم تعد عادلة، والغرب خاسر فيها تماماً...
هذه بعض شروطنا...
لذلك، إن كان الأوروبيون يشترطون على السوريين ألا يساهموا بإعادة الإعمار، فإليكم دفعة من الشروط التي قد نضعها لنسمح للأوروبيين بالمساهمة التمويلية:
أولاً: ينبغي أن يكشف هؤلاء عن مساهمتهم في تمويل السلاح، والعنف، بل والإرهاب في سورية ليقدموا تعويضات مقابلها. وثانياً: عليهم أن يعوضوا الشعب السوري عن النتائج الاقتصادية للعقوبات والحصار الاقتصادي الذي فرضوه خلال سبع سنوات. وثالثاً: عليهم أن يقدموا لنا كشف حساب بأموال أثرياء سورية المودعة في مصارفهم، والمتراكمة عبر عقود وعقود من الاستغلال المركب، لنستعيد حصة الإعمار منها. ورابعاً: عليهم أن يلتزموا بمحددات النموذج الاقتصادي الذي قد يفرضه السوريون، والذي قد يحدد نسبة ربح قليلة، ويمنع خروج الأموال من سورية إلى حين تحقيق أهداف نمو وتنمية ضرورية. وخامساً: عليهم أن يقبلوا المنافسة التمويلية العالمية، فمن لم يساهم في العنف في سورية من الأطراف الدولية، ودفع الحلول السياسية فيها، ومستعد لتقديم المنح والتمويل دون فوائد له أحقية وأولوية في الشراكات التمويلية، والعوائد المستقبلية من عودة سورية إلى العمل والبناء والحياة.
«المليارديرة» الأوروبية العجوز، لا تزال متعجرفة، رغم أن البساط يسحب من تحتها، وتتوقف منابع التدفقات المالية التي كانت تتراكم في خزائنها من علاقات الهيمنة المالية والاقتصادية المتراكمة خلال قرون. وكما كانت سورية أول نموذج لنهاية الاستعمار القديم بعد عام واحد من نهاية الحرب العالمية الثانية، فإنها قد تكون الأولى أيضاً التي تعلن نهاية الاستعمار الغربي الاقتصادي الحديث، عبر نموذج إعادة إعمار جديد ومستقل.