تمويل الإعمار بالديون... (فخ قديم)

تمويل الإعمار بالديون... (فخ قديم)

يرى بعض (الواقعيين) أن سورية لن تستطيع أن تقوم بتمويل عمليات إعادة إعمارها، دون أن تذهب للتمويل بالدين في أشكاله المختلفة، متحدثين عن قروض، وعن طرح سندات خزينة في الداخل والخارج، بالليرة والدولار. فما مدى الواقعية في مثل هذا الكلام؟ وما الشروط التي ينبغي وضعها ليكون الحديث عن (التمويل بالدين) واقعياً؟


هناك خطورة جدية عند الحديث عن تمويل إعادة الإعمار، عبر الدين جزئياً أو كلياً، فالحديث يدور عن حاجات قد تتجاوز 250 مليار دولار! والخطورة تكمن في الوقوع في فخ الدّين، وتمويل الدين بالدين.
تعتبر تجربة لبنان نموذجية حول الوقوع في فخ الدين، فالدّين الحكومي كان صفراً في عام 1975 عند اندلاع الحرب، وارتفع إلى ما يعادل 3 مليارات دولار في آخر عام 1992، ووصل إلى 102 مليار دولار عام 2014.  فكيف تتولد هذه المخاطر وكيف يمكن تجنبها؟

معدل نمو استثنائي مرتفع
تمويل النشاط الاستثماري العام في المرحلة القادمة بالدّين، يعني: التزامات سنوية تجاه الأموال المستثمرة، واقتطاعات سنوية من الناتج المحلي السوري، تذهب لأقساط وفوائد علينا أن ندفعها للأطراف التي قدمت الأموال.
فأبسط الأولويات لتجنب الوقوع في فخ الدين، هي: أن نتمكن من سداده! وقد يبدو هذا بدهياً، لكنه يتضمن شروطاً ومستحقات: فإذا ما كان معدل الفائدة على سبيل المثال لا الحصر 20 بالمئة، يجب أن تكون القيمة المضافة الناجمة عن الاستثمار الممول أعلى من 20 بالمئة، لتتيح ليس فقط سداد الفوائد السنوية، بل إمكانية توسيع الاستثمار المعني، ليرتفع معدل النمو، وتتوسع القيم المضافة في العام اللاحق.
أي: أن تمويل الاستثمار العام بالدين يجب أن يكون لنوع استثمار يحقق قيماً مضافةً مرتفعةً، وبمعدل فائدة أقل من معدل العائد على الاستثمار (أي الربح الصافي بعد اختصار التكاليف بأنواعها)، لنستطيع أن نضمن السداد.
فإذا ما مولت الصناعة العامة بالدين، ينبغي أن تخلق قيماً مضافة سنوية أعلى من الفوائد، وكافية لتغطي الصناعة العامة تكاليفها، وتدفع مساهمة للمال العام كضرائب، وتوسّع استثمارها بنسبة كافية لتزيد القيمة المضافة التي تنتجها في العام اللاحق. أي، أن التمويل بالدين يجب أن يرتبط بمعدلات نمو حقيقي استثنائية ومرتفعة في الاستثمار العام الحكومي.

حصة كبيرة للمال العام وقليلة للربح الخاص
أما ثانياً: إن تمويل الإنفاق الاجتماعي للحكومة بالديون، أو الإنفاق الاستثماري على قطاعات غير ربحية، كالكهرباء، والطرق وغيرها، يجب أن يُشترط برفع الإيرادات العامة عموماً، وزيادة حصة المال العام من مجموع ما ينتج من قيمٍ مضافة حتى تستطيع الحكومة أن تسدد ديونها. أي: إذا ما كان الاقتصاد ينتج قيماً مضافةً بمقدار 100 على سبيل المثال، وعلى الحكومة أن تسدد أقساط دين وفوائد بمقدار 20 من هذه المئة، فإن حصة الدولة من القيم الـ 100 المنتجة يجب أن تكون أعلى من 20 بالتأكيد، بل وقادرة على تغطية توسيع الإنفاق الاجتماعي الحكومي وفق المستحقات السنوية العديدة في المراحل القادمة.
فمن أين تأتي حصة المال العام؟ تأتي من القيم المضافة في النشاط الاقتصادي الخاص، عبر الضرائب وعبر الرسوم وغيرها. وجميعها لها مصدران: إما الأرباح (كضريبة دخل الأرباح، أو الرسوم الجمركية، أو غيرها) أو من: الأجور (كضريبة دخل الأجور، ورسوم الخدمات المتنوعة). وإذا ما كانت حصة المال العام ستزداد على حساب طرف من الأطراف، فالمنطق الاقتصادي والاجتماعي، وضرورات التنمية وزيادة الاستهلاك، تقول: أن الأرباح هي المصدر الأساس.
أي: أن تمويل الإنفاق الحكومي عبر الدين، يجب أن يرتبط بزيادة حصة المال العام من الناتج الكلي، وتقليص حصة الأرباح. حتى تستطيع الحكومات في مراحل إعادة الإعمار، أن تلتزم بسداد ديونها، وأن تستمر في تقديم الخدمات الاجتماعية الهائلة المستحقة: في التعليم والصحة وردم مؤشرات التنمية المتدهورة.
فالتمويل عبر الدين مشروط حصراً بشرطين بالغي الأهمية، يمكن أن يضمنا القدرة على سداد الديون، وتوسيع النمو والتنمية، وهما: أعلى معدل من النمو الحقيقي، وأعلى حصة للمال العام ليوجّه للاستثمار الفعال، والإنفاق الفعال. وهذا لا يتم إلا بتقليص لحصة الأرباح الخاصة من الناتج، وجعلها (حصة مقبولة)، وليست العودة إلى سابق عهدنا، عندما كانت الأرباح تحصل على 75% في عام 2010 ولا تقوم بالاستثمار وتوسيع النمو.

خيارات قبل الديون!
إن أفضل طريقة لتجنب الوقوع في فخ الدين في المرحلة القادمة، هي: تجنب الدّين! ويمكن أن يكون للتمويل بوابات عدة عدا القروض والديون، ويمكن أن نرتب الأولويات التمويلية بالتالي:
التعويضات: برفع الصوت عالياً حول حق السوريين وفق القانون الدولي، للحصول على تعويضات من الدول التي ساهمت في إيقاد الحرب السورية.
الأموال المنهوبة: إيجاد الطرق لاستعادة الجزء الهام من الموارد المنهوبة من قبل أثرياء الحرب.
المساعدات الدولية: التغيرات الدولية تتيح الحصول على مساعدات دولية نوعية، وفي نموذج المساعدات الصينية لا الغربية_ الذي سنعود إليه لاحقاً_ فرصة للحصول على مساعدات إنتاجية غير مشروطة بسياسات اقتصادية.
التمويل المشترك بعقود بين الدول: في البحث عن شراكات تمويلية إنتاجية، يحصل الممولون على جزء من الدخل الذي يساهمون في إنتاجه، وليس على أقساط وفوائد (كما في عقود bot) ما يجعل الممولين ملتزمين بزيادة الدخل والنمو، فإذا تحقق، يحصلون على حصتهم، وإذا لم يتحقق لا نلتزم بالسداد لهم، ويحصل المال العام في المقابل على حصة الانتفاع المناسبة، أو بمقدار مساهمته في التمويل، وتعود الملكية وحق التشغيل الكامل بعد فترة محددة، وغير قابلة للرجوع إلى الدولة.
التمويل عبر تعبئة الأموال المحلية: من الممكن اللجوء إلى فتح باب المساهمة المالية في النشاط الاقتصادي العام للدولة، من قبل الأموال المحلية، مقابل منع بيع الأسهم والمضاربة فيها، ووضع نسبة محددة من عوائد الربح، وإتاحة إمكانية توزيعها أو عدم توزيعها كما تفعل الشركات المساهمة عالمياً.
التمويل عبر العجز: أن تمول الحكومة جزءاً من نفقاتها عبر طباعة النقود، أهون من التمويل بالدين الخاص الخارجي، أو المحلي. أولاً: لأنه دين بلا فوائد، وثانياً: لأن الالتزامات تصبح تجاه المالية العامة وجهاز الدولة ذاته لا غير، وثالثاً، لأنه من السهل تدارك الآثار التضخمية لهذه العملية، عندما يتم الربط المباشر بين الأموال المطبوعة، وخلقها لسلع ومنتجات إضافية.
إن من يتحدث عن تمويل إعادة الإعمار عبر الديون جزئياً أو كلياً، ويتجاهل مستحقات قدرة الدولة على سداد الدين، فإنه يتحدث عن انهيار جهاز الدولة، وارتهانه للمقرضين بأنواعهم داخليين وخارجيين، وفشل إعادة الإعمار.

معلومات إضافية

العدد رقم:
835