عن الخصخصة و الكوارث الجوية

كثيرا ما يتهم أنصار القطاع العام الإقتصادي بالإنطلاق من «موقف أيديولوجي» غير مبني على «الإعتبارات الإقتصادية» و«المتغيرات العالمية».

لو حاولنا تحليل مفردات هذه «التهمة» لوجدناها مؤلفة من ثلاثة أفكار لا يقل أي منها بؤسا عن الآخر:

■ فلناحية الموقف الأيديولوجي، هذا ليس تهمة بحد ذاته فالجميع لهم أيديولوجيتهم، ولا نظن أن أفكار ووصفات وممارسات مثلث الشر العولمي صندوق النقد الدولي -البنك الدولي- منظمة التجارة العالمية، وما شابه من مؤسسات تسعى لفرض سياسات إجتصادية محددة على الدول النامية، أو دعوات وطروحات الإمتدادات الداخلية لهذه المؤسسات، في بلدنا أو غيره من البلدان المبتلية بهذه الإمتدادات، خالية من «شبهة» الأيديولوجيا، بل هي في الحقيقة مشبعة لدرجة القرف بأيديولوجيا الرأسمال المالي في نسختها الراهنة «الليبرالية الجديدة» ودون أدنى مراعاة لمصالح البلاد الحقيقية وإستقلالها الإقتصادي والسياسي.

■ ولجهة الإعتبارات الإقتصادية، هنا تجري ممارسة أعلى درجات الغوغائية الفكرية بمحاولة إيهام الناس أن القطاع العام الإقتصادي خاسر وميئوس منه و يعيش عالة على حساب «دافعي الضرائب». ويجري تغييب حقيقة أن هذا القطاع نفسه، رغم كل ما تعرض ويتعرض له من حصار وتضييق وتخريب بأشكال خفية ومعلنة على مدى 15 عاما الأخيرة، ما زال هو دافع الضرائب الأكبر للدولة إضافة للفوائض الإقتصادية (الأرباح) في معظم مؤسساته وشركاته. أما تهمة الفساد المشرعة بوجه القطاع العام فهي صحيحة في كثير من الحالات التي يوجد فيها تماس ما بين القطاع العام والمصالح الخاصة، إلا أن المتاجرين بتهمة الفساد يكتفون بإدانة الفاسد ويغيبون المفسد الذي هو أشد فسادا بكثير (المفسدون في الأرض)، ناهيك عن الحماية التي يحظى بها الفاسد والحرب التي يتعرض لها الشريف والنزيه والأمين على المصلحة العامة. 

■ أما من حيث المتغيرات العالمية، فيبدو أن الزمن قد توقف لدى هؤلاء الدعاة لليبرالية الجديدة عند إنهيار المعسكر الإشتراكي و الإتحاد السوفييتي قبل 15 عاما، ولا يرون ما حدث بعدها من متغيرات في العالم، سواء على صعيد البلدان الإشتراكية السابقة نفسها من تراجع وإنحطاط إقتصادي وإجتماعي وثقافي وصحي وأخلاقي مريع، أو في البلدان النامية خصوصا منها تلك التي أخضعت لمثلث الشر العولمي فوصلت إلى حضيض مخيف من الفقر والبطالة والجوع والموت الفيزيائي والمعنوي. ألا يرى هؤلاء أن العالم بأسره، بما فيه قطاعات إجتماعية واسعة في بلدان «المركز» الإمبريالي المتقدم نفسه، قد أخذ يتململ ويستعد لمواجهة عصبة الرأسمال المالي العولمي الشريرة التي أفلست تماما في حل أي قضية جدية تواجهها البشرية فلم تجد - كالعادة - مخرجا من أزمتها غير الحروب النفطية العدوانية هنا وهناك ؟

لسنا هنا بصدد الدفاع الأعمى عن النموذج الإشتراكي السابق الذي أفسدته المركزية البيروقراطية وشوهت معالمه الإيجابية في أعين الناس. لكننا لا نرى على الإطلاق في نموذج الليبرالية الجديدة أي بديل خير لغالبية البشر. 

لقد أتت الكارثة الجوية اللبنانية في كوتونو وبعدها بأسبوع واحد الكارثة المصرية في شرم الشيخ لتؤكد الترابط الوثيق والمتزايد في عالم اليوم ما بين المصالح الخاصة والفساد المافيوي، وتبين التناقض العميق (المتزايد أيضا) ما بين البنية الفكرية والإجتصادية القائمة على تقديس مبدأ الربح وبين مصالح وأرواح البشر كبشر. فالقاسم المشترك بين الكارثتين هو أن الطائرة المنكوبة كانت قد آلت إلى ملكية شركة خاصة بعد سلسلة من عمليات البيع المتتالية، وأن روائح الفساد تفوح بشدة من الكارثتين رغم كل المحاولات الحثيثة للتغطية والتكتيم التي تشير ربما إلى تورط أوساط رفيعة المستوى.

في الكارثة الأولى يدور الحديث عن حمولة زائدة بالركاب والأمتعة، وشكوك حول نوعية الوقود المشترى بأسعار رخيصة من مصادر لا تقل غموضا عن هوية مالكي الطائرة أنفسهم! يعني بالمختصر المفيد الطائرة كانت أشبه بـ«هوب هوب» جوي!

أما في الكارثة الثانية فلا يقل الأمر هولا، إذ تحوم الشكوك حول صلاحية الطائرة بالأساس للطيران، ما حدا بسلطات الإتحاد السويسري قبل أشهر قليلة إلى منع طائرات الشركة المصرية المالكة ليس فقط من إستخدام مطارات سويسرا بل حتى من عبور أجوائها!

لا نعلم ما إذا كان المعنيون بوزارة النقل السورية يتابعون ما يجري وما هو رأيهم فيه، وهم من أشد المتحمسين للخصخصة هنا في سوريا لدرجة أن السيد رئيس مجلس الوزراء كان قد إضطر خلال إجتماعه بهم قبل أيام لتوجيه ملاحظة صريحة بهذا الخصوص. تصل «عقيدة» الخصخصة لدى وزارة النقل إلى ما يفوق «الموقف الأيديولوجي» المنسوب لأنصار القطاع العام، فقد دأبت الوزارة منذ سنوات على إعداد شتى أنواع مشاريع الخصخصة لكافة قطاعات النقل، من نقل الركاب المديني، إلى السكك الحديدية، إلى المرافيء التجارية، وحتى الطيران وخدمات المطارات. وكانت الوزارة قد ألحت إلحاحا لجوجا (وأفلحت) قبل سنوات قليلة في مسألة إدخال الوكلاء الخواص للسفن التي تؤم الموانيء السورية بذريعة غاية في الغرابة مفادها أن «شركة التوكيلات الملاحية» الحكومية (العائدة للوزارة نفسها!) «تطفش» السفن من موانئنا مما يضعف من حركة الإستيراد والتصدير، وكأن السفينة تأتي إلينا ليس من أجل شحن أو تفريغ البضائع المتاحة فعلا للتصدير والإستيراد، بل لكي يقضي ربانها أمسية ممتعة حاتمية الكرم بدعوة من وكيله في «سبيرو» أو «اليمق» أو «رأس النبع»!. هذا ولم تعلن الوزارة للآن نتائج الخصخصة فيما إذا كانت حركة الإستيراد والتصدير قد «إنتعشت» بعد السماح للوكلاء الخواص، وأغلب الظن أنها لن تفعل بل قد تنتقل قريبا إلى المطالبة بإلغاء الوكالة الحكومية نهائيا كيلا تظل عائقا ومنافسا للوكالات الخاصة. والمعلوم أن الدولة كانت قد حصرت الوكالات البحرية بشركة التوكيلات الملاحية منذ السبعينات نتيجة ممارسات الوكلاء الخواص مثل الإفساد والرشاوى في المرافيء وعدم إدخال القطع الأجنبي عبر الأقنية المصرفية الشرعية والتهرب الضريبي وغيرها، والمعلوم أيضا أن «التوكيلات الملاحية» (رغم شوائبها ونواقصها) شركة رابحة جدا وتمد الخزينة العامة بمبالغ هامة من القطع الأجنبي.

بعد كارثتي كوتونو وشرم الشيخ، هل سيواصل المعنيون هنا وضع  وتجميل خططهم ومشاريعهم المتعلقة بإدخال القطاع الخاص إلى مجال الطيران المدني  وغيره من قطاعات النقل العام؟ أغلب الظن نعم، فالخصخصة هدف وعقيدة وأيديولوجيا ترخص الأرواح البشرية أمامه. هي عنزة ولو طارت .. وحتى لو سقطت!

■ حسني العظمة

 

 ■ عن (كلنا شركاء) 11/1/2004