سياسة المكيالين منهج الحكومة بالتعامل مع مواطنيها.. والقانون يفرض العكس! «سويت» لكبار المتهربين بوزارة المالية.. والمغريات شجعتهم على زيادة تهربهم
سياسة الكيل بمكيالين في التعاطي، اعتاد عليها الناس في السياسة الدولية المحكومة بالعقلية الرأسمالية، وباتت جزءاً من الثوابت في التعامل بين الدول، وذلك تبعاً لاختلاف درجات الصداقة أو العداء المبنية على المصالح، إلا أن التعاطي المزدوج مع مواطني بلد ما من جانب حكومتهم على أساس هذا المعيار، هو ما لا يمكن تفهمه، خصوصاً إذا ما كان كلا الطرفين قد خالف القانون وتجاوزه..
أبسط أمثلة الازدواجية في التعامل من جانب الحكومة، والجهات التنفيذية مع السوريين، هو التعامل مع مخالفتين بطريقتين مختلفتين، الأولى، التخلف عن سداد فاتورة الكهرباء لعدة أشهر من جانب أحد المواطنين لأسباب تتعلق بضيق ذات الحال، والأخرى تهرب تاجر كبير من سداد مستحقاته الضريبية لأعوام عدة نتيجة الجشع..
حجم خسائر الدولة في المخالفة الأولى لا تتجاوز 10 – 20 ألف ليرة، وهي في حال الامتناع عن دفع فاتورة الكهرباء لعدة دورات متتالية، وفي هذه الحالة، تتفنن وزارة الكهرباء في حساب فاقدها التجاري، وتكون قادرة على تحديده بالرقم الدقيق، وتعلن عنه في كل مناسبة، وتعتبره أساس مشكلة الخسائر الحاصلة في مؤسسة الكهرباء، وتطالب الجهات التنفيذية المعنية بالتصرف، وكثيراً ما يتم قطع الكهرباء عن المنازل المخالفة لعدد من الدورات لمعاقبتها على عدم التزامها بدفع مستحقات الدولة، وهذا حق من حقوق الدولة بالطبع، أي بالمحصلة من حقوق الشعب ويجب تحصيله، ونحن بالطبع من الرافضين لهكذا نوع من التخلف عن السداد..
أما في حالة التهرب الضريبي للتجار وللمنشآت الكبرى عن سداد الضرائب المستحقة على أرباحهم، نجد أن للدولة تعاطياً أكثر تمييزاً عن سابقتها، فأرقام التهرب الضريبي تتجاوز عشرات الملايين سنوياً، وهذا يعني أن تهرب تاجر واحد عن الدفع يوازي بالمحصلة المادية امتناع ألف منزل عن سداد فاتورة الكهرباء، إن لم يكن أكثر من ذلك..
أما بالنسبة لوزارة المالية، فنجدها حذرة في تقديم أرقام التهرب الضريبي الإجمالي في البلد، وخصوصاً المتهربين الكبار، وتعمل بشكل متعمد على عدم تقديم رقم حقيقي أو تقريبي لحجم التهرب الحاصل، وهي ذاتها التي أعلنت منذ عامين تقريباً الـ 200 مليار ليرة كرقم تهرب ضريبي، ثم «عضت أصابعها ندماً» على إعلانها لهذا الرقم، وحاولت مراراً التملص منه كرقم صادر من قبلها، وهي إلى اليوم لا تسعى لتقديم أي رقم معتمد عن هذا التهرب على الرغم من كونه مشكلة اقتصادية كبرى تمتد لعشرات السنوات إلى الوراء..
وفي هذه الحالة، وعلى الرغم من ضياع المليارات من مستحقات الخزينة العامة، والتي تجبر -بحكم الدفاتر الوهمية- على أن تبقى «ابن الخزينة الضال»، لتصل بذلك أرباحاً مزيفة برائحة وطعم الفساد إلى جيوب التجار ومن في صفهم..
وأمام كل هذا، لا تجد وزارة المالية وسيلة لردعهم إلا بتقدم التسهيلات، والإعفاء من غرامات التأخير، والهدف حثهم على سداد ما تهربوا منه، وتخصص لهم وزارة المالية «سويت» في أحد طوابقها لكبار المكلفين المتهربين، وهو أشبه بفندق خمس نجوم، لكي ترتاح نفس التجار الذين أرادوا «التكرم» على الدولة وخزينتها العامة، ودفع ما تخلفوا عن سداده في الماضي..
التعاطي يتم على أسس مزدوجة، وهذا يدفعنا للتساؤل: أليس الاثنان يصنفون –قانوناً- في خانة المتخلفين عن سداد مستحقات الدولة؟! ومن منهم هو الأكثر تأثيراً على الاقتصاد ويتسبب بالأضرار الكبيرة له، هل من يتهرب بعشرة ألاف أم ذاك الذي يبتلع في جيبه عشرات الملايين ولو على حساب الخزينة العامة؟! ألا يعتبر هذا التعاطي المزدوج أحد مشجعات التجار على زيادة تهربهم؟! ونحن نعلم أن التاجر سيبقى متهرباً من دفع ما للدولة وخزينتها من مستحقات حتى لو فرضت عليه ضريبة من الجمل أذنه، وبما لا يتعدى الواحد بالمئة..
قضية التهرب لا علاقة لها بحجم ما يفرض عليهم من ضرائب، ولا بادعائهم الدائم بالإرهاق من حجم هذه الضرائب، وإنما لكونه تربى على ثقافة التهرب الضريبي، واعتاد على ممارستها، والتفنن في التهرب منها، وهذه الثقافة هي التي تمنعه من الالتزام اليوم بسداد مستحقات الدولة..
فإذا لم يجد التاجر الرادع الحقيقي الذي يرغمه على سداد تهربه الضريبي، فإنه لن يلتزم بدفعها مؤكداً، فلا التسهيلات ولا الإعفاءات تغري المتهربين ضريبياً، وذلك لسطوة ثقافة التهرب التي تمتلكهم على تعاملاتهم، وخاصة مع الدولة..