دخول الدولة كمستورد للمواد الأساسية ضرورة.. الهدف كسر معادلة العرض والطلب
عجزت المراسيم الجمهورية المتتالية ذات الصلة عن تخفيض الأسعار في السوق المحلية، رغم أنها طالت تخفيض الرسوم الجمركية على المواد الغذائية والأساسية (نحو 30 مادة) لتصل نسبة الرسوم إلى الصفر على بعض هذه المواد، وتخفيض رسم الإنفاق الاستهلاكي، الذي يعد من أهم الضرائب غير المباشرة التي تثقل كاهل المواطن السوري، والمترافقة مع تخفيض أسعار مادة المازوت بنسبة 25%.
لا بل إن سعر العديد من السلع شهد ارتفاعاً بالتزامن مع هذه المراسيم وهذا التخفيض، مما جعل الأسعار المغرد الدائم خارج أي قانون اقتصادي لعدم قدرة كل التخفيضات التي طالت موادنا الغذائية من التأثير في مجريات سوقنا الاقتصادية، فأين دور الدولة الرقابي؟! وما هي أساليب التدخل الحكومي الأكثر جدوىً في ظل احتكار غير مخفي لعدد غير قليل من المواد الغذائية وغير الغذائية، وهو ما يجعلها خارج السيطرة؟!
احتكار متجذر
بنية اقتصادنا المشوه بإجماع العديد من الاقتصاديين ساعدت على خلق شبكة مستفيدين من كبار التجار والمستوردين، والمرتبطين بفاسدين في القطاع العام، مما جعلهم من المتحكمين بمفاصل الاقتصاد الوطني، ليكونوا شبكة خفية عصية عن كل الإجراءات والقوانين، وهي المعبر عن تحالف حفنة من الفاسدين في قطاع الدولة وبين بعض أصحاب رؤوس الأموال، وهذا التزاوج هو من استطاع شفط الاقتصاد الوطني تاركاً خلفه سلسلة من ارتفاعات الأسعار، وانخفاضاً في القيمة الشرائية للعملة الوطنية، ونسب غير قليلة من الأسر السورية الفقيرة، التي تصل إلى 11%، وهذا ما أدى عملياً للوصول إلى حالة من الاحتكار المتجذر لأغلب المواد الأساسية منها والكمالية في السوق من بعض التجار والمستوردين، والذين كدسوا ثرواتهم على حساب الاقتصاد الوطني ..
وهذا الاحتكار المتراكم خلق آلية معقدة من تزاوج المصالح بين شريكين ساعيين إلى منفعة خاصة أحدهما في العام والأخر في الخاص، وهو ما عقد عملية دخول منافسين جدد في مجال استيراد السلع وتسويقها، وصنع حلقة مغلقة تخدم مصالح عدد من المحتكرين فقط..
25% للتاجر الواحد
انفراد شخص في السوق يجعله متحكماً كلياً أو جزئياً فيه، ولكن وجود عدد كبير من هؤلاء الأشخاص يخلق حالة من المنافسة على المستوى الجزئي في كل مادة، وتعميم هذه الثقافة، يخلق اقتصاداً يتمتع بتنافسية عالية، لكن من الملاحظ أن مستوردي السكر، أو الأدوات الطبية، أو الأسمدة، أو اللقاحات، أو الحديد، أو العديد من المواد الغذائية والأساسية يعدون على الأصابع، وهذا لم يأت من فراغ بل إن نص القانون يتيح لشخص واحد (مستورداً كان أم تاجراً) أن يسيطر على 30% من حاجة السوق، وهذا يعني أن بإمكان أربعة تجار أو خمسة احتكار السوق على أن يستحوذ كل منهم على 20 – 25% من حاجة السوق..
حالة خاصة
ومن التوصيف العمومي إلى الحالات الخاصة، فمادة السكر خير مثال على ذلك، ولا نسمع إلا بأزمات متتالية من انقطاع أو ارتفاع لأسعارها في أسواقنا، وأغلب هذه الارتفاعات لا مبرر له، وهذه الأزمات تخيل لدى البعض أن إنتاجنا من السكر محدود، وهذا ما خلق الأزمات المتكررة، ولكن النظر إلى حجم إنتاجنا من هذه المادة يبدد الكثير من الشكوك، فالقطاع الخاص في سورية ينتج نحو 1,1 مليون طن من السكر من خلال شركتين فقط، ومعامل القطاع العام تنتج ما يقارب 300 ألف طن من هذه المادة، وحاجة القطر من السكر سنوياً لا تتجاوز 800 ألف طن، أي أن إنتاجنا المحلي يكفي حاجة القطر وزيادة، وهذا يعني أنه من المفترض ألا ندخل بأزمة في هذه المادة ما دام إنتاجنا المحلي «بيكفي وبيزيد»، وهذا يحتم علينا التساؤل: ما الذي يمنع من استجرار هذه المادة من الإنتاج الوطني؟! ولماذا نصدر إنتاجنا من السكر لنعيش في أزمة دائمة؟!
التدخل الحكومي ضرورة
سعي البعض لتبرير عدم انخفاض الأسعار لا يمكن تقبله، ليس لأن نسبة التخفيضات التي طالت الرسوم الجمركية ليست بالقليلة فقط، بل لوجود حالة من الركود الجدي الذي تعاني منها أسواقنا أيضاً، وباعتراف الجميع، وهذا الركود يعني وجود كساد في المواد، وقلة في الطلب، وهذا وحده يجب أن يساهم في تخفيض الأسعار، وهذا ألف باء الاقتصاد، لكن الأسعار لم تعرف سوى طريق الارتفاع، وهذا يؤشر على وجود حلقة خفية هي من تتحكم بالسوق ما تزال خارج مرمى أية رقابة، وليست تحت سلطة أي قانون، ولكن، وقبل الحديث عن كيفية تشكل هذه الحلقة المحتكرة للسوق، التي قد يعيدها البعض إلى طبيعة الاقتصاد تاريخياً، وإلى أن ضربها يحتاج لوقت ليس بالقليل، لأنها كجبل الجليد المكون عبر سنوات طويلة، كسره ليس بالأمر السهل، ولكن هذا حتّم على الدولة لعب دور لم تسع للعبه منذ زمن بعد، لا بل إنها انسحبت منه تحت يافطة اقتصاد السوق الاجتماعي، فآلات الرقابة لم تثبت جدواها في ظل اقتصاد عانى من الانفلات والاحتكار، وهذا حتم دخول الدولة كمستورد للمواد الغذائية والأساسية، وترك الكماليات للقطاع الخاص، لكن ليس لإخراجه من دوره في الاقتصاد السوري، بل لأن هذا التدخل هو ضرورة يقتضيها هدف كسر معادلة العرض والطلب التي سيطرت عليها مزاجية وأرباح مستوردين وتجار قلة في السوق اليوم...
■ ح. منجه