سياسة الأجور في سورية.. الغبن الهائل!
حصة الأجور من الناتج المحلي في القطر العربي السوري صغيرة جداً، مثلها مثل باقي الأقطار العربية، مقارنة بالدول الصناعية. هذا من مخلفات الاستعمار الأوروبي للوطن العربي الذي نهب الثروات وخرب بنية الاقتصاد، وعلينا عمل الكثير ليتعافى اقتصادنا ويتحرر من الخلل البنيوي الذي لحق به. تصل حصة الأجور في سورية حول /20%/ في حين وصلت في ألمانيا مثلاً إلى /60%/ من الدخل القومي خلال الفترة الزمنية 1960 ـ 1990، أي ثلاثة أمثال مثيلتها في سورية ، وارتفعت هذه الحصة إلى أكثر من 72% عام 1991 بعد ضم ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الاتحادية.
هذه هي الحال في جميع الدول الصناعية، وإن كانت تختلف قليلاً من بلد إلى آخرتبعاً لوعي الطبقة العالة وقوتها.
مستوى الأجور منخفض جداً في سورية مثل باقي الأقطار العربية مع بعض الفروق من قطر لأخر، وقد بينت سياسة الأجور في وطننا العربي والدول النامية الأخرى على مقولة استعمارية شريرة، تقول بأن انخفاض الأجور هو مزية نسبية اقتصادية تحفز المستثمرين في الداخل والخارج على مزيد من الاستثمار، انطلاقاً من كلفة عمل متدنية مما يجعل الاقتصاد في وضع تنافسي أفضل. الأجور التي يحصل عليها العمال ومعظم المشتغلين بأجر لا تكاد تسد الرمق، وتفرض حياة حرمان وجوع وإملاق عليهم وعلى أسرهم، وحال الفلاحين ليست أفضل من حالهم، فتصبح قوة العمل غير قادرة على الإنتاج كما يجب وتتدنى إنتاجيتها أكثر من تدني مستوى الأجور، فينجم عن ذلك خسارة للعمال ينجم عنها تدني قدرتهم على تأمين العيش اللائق وتوفير حياة كريمة، وتخسر الشركات والمصانع بسبب تدني إنتاجية العمل، وتخسر الخزينة موارد ضريبة بسبب الركود الاقتصادي نتيجة خلل الدورة الاقتصادية من طلب على السلع .. الخ.
بالمحصلة يخسر الاقتصاد برمته وتتباطأ وتيرة التنمية الاقتصادية فيه.
إن الاستثمار في رأس المال البشري يعتبر حالياً أهم بند لرفع وتيرة النمو والتنمية الاقتصادية معاً، فهل يمكن لعامل جائع قلق لا يستطيع أن يضمن قوت أسرته أن يعمل بكل طاقته؟
ترتفع إنتاجية العامل بارتفاع أجره النقدي والعيني معاً، مثل توفير الطعام الساخن لوجبة الغداء والفطور الصحي بأسعار أقل من كلفتها، كما تفعل المصانع والشركات في الدول الصناعية الاشتراكية مثل الصين وكوبا وكوريا الشمالية والاتحاد السوفيتي السابق وأوروبا الشرقية سابقاً والدول الرأسمالية، وليس إعطاء معظم العمال لمتعهد هدفه الربح حيث يتناول العمال طعامهم ضمن شروط لا تتوفر فيها النظافة ولا الراحة، أو يناولون الشطائر المحضرة بيئياً في العراء كما يحدث مع عمال البناء مثلاً.
في دراسة أعدت منذ أكثر من عقد من الزمن، حول تأثير عدم ارتياح المشتغل لجو العمل في أوروبا، تبين أن خسارة الاقتصاد في ألمانيا الاتحادية لهذا السبب بلغت رقماً يفوق ميزانية الجيش الألماني في تلك السنة. فكم تبلغ عندنا إذا أجريناها؟ نستطيع باستثمارات غير مكلفة توظيف العقول والكفاءات العربية في قطرنا لتنظيم العمل ومحاسبة مدير ومجلس إدارة كل شركة سنوياً بإبقائه ومكافأته، أو تسريحه من العمل تبعاً للميزانية السنوية آخر العام ومعاقبته.
لنعط العمال حصة من الأرباح سنوياً حول 15 ـ 25% مثلاً إضافة لأجرهم كحافز على الإنتاج، فماذا تكون النتيجة؟ مزيداً من الإنتاج وجودة أفضل وكلفة أقل، ويتولى خبراء اقتصاديون عرب سوريون وضع معايير ملائمة.
لقد تم رفع الحيف عن المشتغلين في الخطة الخمسية الحالية الحادية عشرة، ورفعت الأجور بنسبة /30%/ منذ أسابيع وهذه خطوة جيدة على الطريق الصحيح، إذ كان الحد الأدنى للمعيشة قبل سنوات /25/ ألف ل.س وأصبح الآن حول /50/ ألف ل.س أو /700/ يورو، فالمشتغل يعيل /3-5/ أشخاص معه، ينبغي لتحقيق توزيع دخل أكثر عدلاً وتنشيط الدورة الاقتصادية، رفع الأجور في القطاعين العام والخاص معاً كل ستة أشهر بنسبة /50%/ حتى نتجاوز الحد الأدنى للمعيشة. ونخطط للوصول إلى مستوى الأجور في الدول الصناعية في الخطة الخمسية الثانية عشرة. آنذاك نستطيع عندما ندفع أجوراً عالمية، نستطيع أن نسمح للأسعار عندنا أن تقارب الأسعار العالمية، أما إذا فعلنا ذلك الآن فهذا غبن شديد للجمهور الواسع من الشعب.
نكلف فريقاً من الاقتصاديين منذ الآن بالتعاون مع المكتب المركزي للإحصاء بإعداد دراسات حول تأثير زيادة الأجور وتوقعات زيادة الطلب على سلة الاستهلاك وتغيير تثقيله على السلع المختلفة، من مسكن وملبس وطعام وصحة ونزهة وثقافة الخ.. واقتراح خطط لزيادة الإنتاج لإرواء هذا الطلب المتنامي تفادياً للتضخم الذي قد ينجم عن ذلك، ومنع الاحتكار بمراقبة شديدة وعقوبات رادعة أو بتولي الدولة تجارة الجملة لشتى المنتجات الزراعية والسلع الضرورية.
يزعم البعض عدم توفر موارد اقتصادية لرفع الأجور، هذا غير صحيح لأن ارتفاع الإنتاجية سيغطي كلفة زيادة الأجور ويفيض عنها خلال أشهر، عندما يترافق ذلك مع توفير إدارات اقتصادية للشركات والمصانع والمؤسسات وقيام وزارة الاقتصاد بمهامها على أكمل وجه في إزالة العقبات والاختناقات أمام القطاعين العام والخاص، وتسهيل استيراد السلع الاستثمارية والمواد الخام برسوم زهيدة والبحث عن أسواق وغير ذلك.
لتكن أول زيادة جديدة للأجور بنسبة /50%/ مع حلول عيد الفطر السعيد القادم، فالفوائد سيجنيها العاملون والشركات والخزينة والاقتصاد ككل في آن واحد. لأنها تصبح توزيعاً للدخل بشكل أكثر عدالة سينشط الدورة الاقتصادية ويفتح الطريق أمام تنمية اقتصادية جيدة.