د. حيان سلمان لـ«قاسيون»: المطلوب دور فعال للقطاع العام
■حاوره: يوسف البني
موجة الغلاء الفاحشة التي تجتاح الأسواق السورية، بلغت حداً غير مسبوق في التوحش والشراهة، وقضّت راحة المواطن السوري، وصار عنوانها الوحيد: انعدام الإحساس بالأمن الغذائي والمعيشي. ونحن في «قاسيون» وقد أخذنا على عاتقنا الدفاع عن كرامة الوطن والمواطن، وعن لقمة العيش الحرة الكريمة، فقد تساءلنا عن أسباب هذه الأزمة والعوامل المؤثرة فيها والخالقة لها. من هذا المنطلق كان لنا هذا الحوار، مع الدكتور الاقتصادي حيان سلمان، الذي أجاب عن أسئلتنا بما يلي:
• إن موجة الغلاء المتوحشة في سورية لم يسبق لها مثيل، هل هي طبيعية ومرتبطة بالغلاء العالمي فقط.. أم أن هناك أسباباً أخرى داخلية خاصة بسورية؟!
ـ إن موجة الغلاء التي تجتاح الأسواق السورية، وترافقت مع ارتفاع كبير في الأسعار غير متوقع، ووصلت الزيادة في أسعار بعض المواد إلى أكثر من 50 % من سعرها، وانعكست بشكل مباشر على القدرة الشرائية لليرة السورية، وعلى أصحاب الدخل المحدود، وعلى الفئات الفقيرة، وبالتالي لو ناقشنا الأسباب فبرأيي أنه يمكن تقسيمها إلى قسمين: أسباب داخلية، وأسباب خارجية، أما الأسباب الخارجية فقد عُرف أن الدول الغنية، تسعى دائماً إلى امتصاص الفوائض النقدية في الدول النامية، عن طريق التضخم، وهو ما يدعى بالتضخم المستورد، فقد حصل ارتفاع في أسعار بعض السلع المصدرة، ويمكن للكثير من الدول، إذا أرادت أن تتلافى هذه الارتفاعات في الأسعار، عليها أن تسعى إلى تأمين البدائل. فقد وصل إجمالي المستوردات إلى أكثر من 80 % من السلع التحويلية، ونحن نملك كل المقومات للتعويض عن هذه السلع، من خلال تصنيع موادنا الأولية. وبمقدار ما نقوم بتصنيع المواد المتاحة، خاصة ونحن ننتج بحدود 5 مليون طن من الحبوب، و3 مليون طن من الخضار الفواكه، و1.5 مليون طن من الشوندر وغيره، أقول بمقدار ما نقوم بتصنيع هذه المواد، نقلل التبعية للخارج، وتصنيع هذه المواد محلياً ينعكس على انخفاض الأسعار في بلدنا من جهة، إضافة إلى تشغيل الأيدي العاملة، وزيادة القيمة المضافة، وتحسين الميزان التجاري، وتأمين الأمن الغذائي والاقتصادي إلخ... لو قمنا بدراسة اقتصادية فقط للمنطقة الشرقية التي تعتبر المورد والمخزون الإستراتيجي، حيث أنها من أكثر المناطق التي تكثر فيها البطالة، فإذا ما قمنا بتصنيع المواد الأولية المتاحة فيها، سواء في القطاع الزراعي أو الحيواني، فإننا حينئذ سنمتص البطالة ونؤمن الاكتفاء الذاتي، ويمكن أن نقلل المستوردات، وأن نضع آلية لكبح جماح التضخم. أنا لا أنكر دور العوامل الخارجية، ولكن العوامل الخارجية عندما تؤثر في دولة ما، من ناحية الأسعار، فإنها تترافق عادة بزيادة الدخول.
• ما مدى تأثرنا بهذا العامل الخارجي، بنسبة مئوية محددة ؟!
ـ حسب الدراسات، العوامل الخارجية تؤثر بحدود الـ 55 % من التضخم، لكن برأيي، هذا الرقم إذا ما أسقط على الواقع السوري، سيكون كبيراً جداً، لأسباب كثيرة، وهي أن حركة الأسواق تشهد ارتفاعاً في أسعار السلع ذات المنشأ الداخلي، الخضار والفواكه والبطاطا والزيتون، السلة السلعية كلها تعرضت إلى ارتفاع كبير في الأسعار، والحكمة الاقتصادية هي بوضع حد للتأثيرات السلبية للتضخم الخارجي، على الأسواق الداخلية، بمقدار ما أضع خططاً لوقف جماح التضخم الخارجي، وعدم انعكاسه على الداخل، بمقدار ما تكون الحكمة الاقتصادية صحيحة، وأحافظ على الليرة السورية التي تعتبر أحد شعارات الوطن، فأية إساءة لليرة السورية، هي إساءة للحركة الاقتصادية الوطنية، أنا من المؤمنين بأن قضية ارتفاع الأسعار الخارجية، تؤثر بشكل مباشر على الأسعار في الداخل، لكن ليس بهذا الشكل، لا يسمح لنا أن نعزو الارتفاعات السعرية كافة إلى العوامل الخارجية.
• وما هي العوامل الداخلية المولدة لموجة الغلاء هذه؟!
ـ سنبحث عن العوامل الداخلية لارتفاع الأسعار، وللتنويه هنا، ليس كل ارتفاع في الأسعار هو تضخم، ارتفاع الأسعار هو فقط أحد مظاهر التضخم. فلو تأملت حركة الأسواق، وهي (ترمومتر) الاقتصاد، وأنا أبحث هنا عن السعر العادل.
• وما هو السعر العادل؟!
ـ هو السعر الذي يقيَّم اجتماعياً، وفق مفهوم نظرية القيمة، والذي يساوي التكلفة زائد هامش ربح محدد، ويحقق الربحية الوطنية، فهل من المعقول أن يصل سعر كيلوغرام البندورة إلى 55 ليرة سورية؟! ولو عدت إلى الفلاح المنتج، كم يتقاضى هذا الفلاح من سعر البندورة؟ أنا متأكد أنه لا يتقاضى نصف هذا المبلغ! وهل من المعقول أن يصل سعر كيلو الرز إلى 80 ل.س؟! السلّة الغذائية يجب أن تُدرس وفق ما يدعى بالخريطة التسويقية، التي تعني أن أقوم بدراسة الفجوة التسويقية الموجودة في السوق، وأكلف الجهات العامة، ممثلة بمؤسسة التجارة الخارجية، أو بمؤسسة الخزن والتبريد، لتقوم بتأمين هذه الاحتياجات وفق خطة عملية، فالسوق لا يضبط بالأمنيات. السوق يضبط بآلية اقتصادية، ليشعر المحتكرون بأن هناك جهة أخرى، ساهرة على تأمين السلع، بالنوعية والكمية والسعر المدروس.
• وهذا الدور من الذي يجب أن يقوم به؟!
ـ هذا الدور هو للقطاع العام وللجمعيات التعاونية، وللقطاع الخاص أيضاً بنسبة محددة. إن تضخم الأرباح لا يتم بزيادة الأسعار، بل بزيادة المبيعات، إذا زادت المبيعات وبأرباح قليلة أفضل من قلة المبيعات وبأرباح كبيرة. نحن الآن في ظل اقتصاد السوق الاجتماعي، إذا طبق تطبيقاً صحيحاً، كفيل بحل هذه الإشكالية. فما المشكلة إذا كلفت مؤسسة التجارة الخارجية بالأسمنت؟! نحن ننتج من الأسمنت بحدود 6 مليون طن سنوياً، ونحتاج في السوق إلى 8 مليون طن، هنا تم تحديد الفجوة التسويقية: 8-6=2 مليون طن. أكلف مؤسسة التجارة الخارجية باستيراد 2 مليون طن، القاعدة الاقتصادية تقول ذلك: العرض= الطلب، يعني أن هناك توازناً في الأسعار. العرض أكبر من الطلب يعني انخفاض السعر، العرض أقل من الطلب، هناك ارتفاع في الأسعار. إذاً فنقطة البداية التي يجب أن أنطلق منها، للمحافظة على توازن الأسعار، بإيجاد الخريطة التسويقية، على مبدأ الخريطة الاستثمارية نفسها.
• إذاً ما حجم مسؤولية السياسات الاقتصادية الحكومية، عن الغلاء وارتفاع الأسعار؟!
ـ أنا بصدد أن أعلل هذه الظاهرة، وأضع الحلول لها، هذه مسؤولية الجميع، لكن الذي يضطلع بهذه المسؤولية أكثر، السياسات الاقتصادية التي هي على تماس مباشر مع الطرفين الأساسيين، (المنتج والمستهلك)، طلبات المنتج معروفة، فهو يريد تحقيق أرباح، وكذلك طلب المستهلك الذي يريد الحصول على السلعة بسعر رخيص. مهمة السياسات الاقتصادية إيجاد تناغم بين هذين الطرفين المتناقضين.
• وكيف نخرج من هذا التناقض؟!
ـ أن أجعل المواد تنساب بشكل نظامي إلى السوق، وبسعر مقبول، يتضمن التكلفة + الهامش الربحي. وعندما تزداد المبيعات، فإن المنتجين والمستوردين لن يفكروا بظاهرة الاحتكار، التي هي السبب الرئيس في ظاهرة الغلاء، وهذا ما أكدته جميع التجارب الاقتصادية. هذه الفعلية الفوضوية يجب إعادة النظر بها. هنا نقطة هامة: فكل منتج مستهلك ولكن ليس كل مستهلك منتجاً. لا نحصل على توازن في السوق، إلا إذا كان هناك توازن بين المنتجين والمستهلكين، الدورة الاقتصادية تبدأ من الإنتاج لا من الاستهلاك. أطلب من القطاع العام والخاص والمشترك، أن يعملوا جميعاً على أرضية واحدة، فعندما يشعر المحتكر أو المنتج أن هناك سلعة تنافسه، سيضطر إلى تخفيض سعره، لأنه لا فائدة من الإنتاج، إذا لم يُسوَّق، أما إذا كان وحيداً في الساحة، فسيتاح له إمكانية التحكم بتحديد السعر الذي يناسبه. أدعو إلى إجراءات اقتصادية حاسمة، إلى زيادة نقاط التقاطع بين المنتج والمستهلك، ودخول القطاع العام كمنافس حقيقي بكل معنى الكلمة.
في مقال لي بعنوان (السفاح الاقتصادي)، جوهره أن أمريكا فرّغت مستشاراً اقتصادياً لديها، وهو عميد في المخابرات الأمريكية، وأرسلته إلى كثير من الدول لإثارة مشكلة اقتصادية، في هذه الدول، ويعترف في كتاب مذكراته، أن هدفه ربط ثروات هذه البلدان النامية (غواتيمالا وبعض الدول الأفريقية)، بالدورة الاقتصادية الأمريكية، ويقول الكتاب: إن السفاحين الأمريكيين بنوا أكبر إمبراطورية اقتصادية في الوجود، التضخم المستورد موجود، والمطلوب منا الوقوف ضده، لأنه يدمر مرافقنا الإنتاجية ومرافقنا الاستهلاكية، أما المواد ذات الإنتاج الداخلي، إذا لم يستفد من ارتفاعاتها المنتجون الحقيقيون، لا فائدة من زيادة أسعارها، هناك فئة قليلة محتكرة، تمتص تعب وعرق العمال والفلاحين، وعليَّ أن أضع حداً لممارساتها، من خلال تدخل القطاع العام، الذي يعمل على تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، والمحافظة على القوى الشرائية، وعلى كرامة الليرة السورية.
■ عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.