إفشال القطاع العام.. من أجل إعدامه؟!
خصصت الخطة الخمسية العاشرة 21 مليار ل.س سنوياً لإصلاح القطاع العام، ورغم أن هذا المبلغ لا يكفي لإصلاح عدد محدود من شركاته، إلا أننا نجد انخفاضاً في الجانب الاستثماري بينما لم تتم المباشرة بالإصلاح المطلوب، بل توجيه أصابع الاتهام للقطاع العام بانخفاض ربحيته وإنتاجيته وتعرض بعض مؤسساته للخسارة.
لم تدرس حتى الآن أوضاع هذا القطاع رغم عشرات مشاريع الإصلاح التي طرحت ولم تنفذ، والوقائع تثبت بأن المقاربة الثلاثية «الخاسر والرابح والحدي» هي مقاربة تهدف إلى تفكيك هذا القطاع من بوابة فرزه، ومن ثم توصيل الرابح إلى حافة الخسارة، ومن ثم ليس إلى الخصخصة، لأن مؤسسة خاسرة لا أحد يشتريها، وإنما إلى الإنهاء التام لما يسمى قطاع عام.
والحقيقة فإن علينا قبل المطالبة بإصلاح القطاع العام، وتخصيص المبالغ التي رصدت في الخطة الخمسية العاشرة لإصلاحه، علينا إصلاح العقل الصناعي أو العقل المخطط والوصائي على الاقتصاد الوطني وعلى القطاع العام.
لسنوات طويلة والقطاع العام يُنهبُ بشكل مبرمج ومنظم من الإدارات وأصحاب النفوذ عبر المناقصات وطلبات العروض، حيث ينشط السماسرة على أبواب الشركات والمؤسسات بدءاً بمحاولة الحصول على دفتر الشروط وطلب العروض، وانتهاءً بالدس على القرار، وعشرات المديرين تركوا مواقعهم وباتوا يستخدمون خبراتهم للحصول على امتياز السمسرة لصالح الشركات الأجنبية التي تعرفوا عليها خلال تأديتهم لمهامهم، وتكمن خطورة هذه الظاهرة ليس في هوامش الأرباح والعمولات التي يتلقاها هؤلاء فحسب، وإنما في تخريب قطاع كبير في المجتمع من إدارات وتيارات وعمال مع تعطيل واضح لدور مؤسسات عديدة.
ويرافق ذلك أيضاً معوقات لا تنتهي في عملية المناقصات أو استدراج العروض لمواد أولية لشركات إنتاجية عديدة، وهذه المعوقات كانت السبب في إحجام العديد من الشركات العالمية عن تقديم عروض.
ومثال على ذلك شركة الإطارات التي تستورد مائة مادة في تصنيع الإطار، وحالياً كافة الشركات الأجنبية الموردة عزفت عن التوريد إلى سورية نتيجة الشروط المجحفة، حيث تصل مدة الارتباط إلى 90 يوماً، وهذا الشرط السوري لا تقبله دول العالم في ظل التحولات الدولية الاقتصادية المتسارعة التي تفرض تحولاً في الأسعار، الأمر الذي أدى إلى انعدام توفر المواد الأولية، وبالنتيجة توقفت الشركة عن الإنتاج، والخسارة سنوياً مئات الملايين ولا تستطيع الشركة الشراء مباشرة بموجب القوانين.
في شركة أخرى إستراتيجية وعلى مدى سنوات عديدة كان يتم شراء أكياس لتعبئة الإنتاج بمبلغ 10 ل.س للكيس الواحد من القطاع الخاص، في سنة أخرى ارتفع سعر الكيس إلى 13 ل.س وقد اضطر المدير العام للشراء بهذا السعر، ولو تأخر لينتظر المراسلات والعروض والمناقصات لتم هدر مئات الملايين من الإنتاج المتراكم في المستودعات والذي يتعرض للفساد، اضطر للشراء على مسؤوليته.. وأن يأخذ القرار.
اتهم المدير بهدر مبلغ 9 مليون ل.س، ودفع ثمن ذلك، ولكن المدير أنقذ إنتاجاً بمئات الملايين والسؤال:
هل نسمي هذا الاجتهاد هدراً أو فساداً أو انحرافاً؟
ولو أن المدير لم يتخذ القرار، ولم يشتر الأكياس إلا بعد الموافقات وهدرت مئات الملايين هل كان أحد سيحاسبه؟ بالتأكيد لا!!.
في الشركات والمؤسسات الإنتاجية رقابة داخلية، وفي سورية جهاز مركزي للرقابة المالية وأجهزة تفتيشية أخرى عديدة.. ولكن هذه الأجهزة كافة ليست لها علاقة بتراجع هذه الشركة أو تلك، أو بخسارة هذه الشركة وغيرها، أو بفساد الطاقم الإداري. وتأتي هذه الأجهزة لتمارس دورها في المصادقة على الميزانيات الختامية، وأحياناً تتأخر هذه المصادقة لسنوات، وتقيم الأجهزة التفتيشية لأشهر عديدة في تلك الشركة أو تلك للتحقيق في قضية خطيرة، وهي مكافأة منحها المدير العام لأحد العمال دون وجه حق، أو منح اللباس، أو الوجبة الغذائية واخترق القانون بذلك.. في حين يتم تغييب القضايا الأساسية كمحاسبة مهربي المواد من المستودعات ومحاسبة رافعي التكاليف والمسؤولين عن الهدر، ومراقبة لجان المشتريات والتصدير والاستيراد والعقود والمناقصات..
وانطلاقاً من ذلك فقد تفاقم الفساد في شركات ومؤسسات القطاع العام، وتراكمت الأموال نتيجة النشاطات الطفيلية مقطوعة الصلة بتطور الاقتصاد الوطني، بل تحولت هذه النشاطات إلى معاول هدم في الاقتصاد وفي القطاع العام، وتحولت السياسة الاقتصادية خلال سنوات إلى تغذية النشاطات المتطفلة التي أدت إلى مجموعة من الاختلالات..
وضمن نهج التغطية على الأزمات والحقائق تم إفشال القطاع العام، والآن تسدد الحراب نحوه.