د. قدري جميل لـ«الاقتصاد والنقل»: يجب القضاء على الفساد الكبير.. ضماناً للاستقرار..
نشرت الزميلة «الاقتصاد والنقل» في عددها الأخير تحقيقاً موسعاً عن الفساد في سورية بعنوان: «الفساد في سورية نسخة عصية على التقليد»، التقت فيه عدداً من الباحثين الاقتصاديين، وسألتهم عن آرائهم ورؤاهم في هذه القضية، مفردة بهذا الخصوص مساحات واسعة للدكتور قدري جميل. وفيما يلي مقتطفات من التحقيق المذكور..
«يقول رئيس تحرير جريدة «قاسيون» الباحث الاقتصادي قدري جميل: إن الفساد موجود دائماً، ولكن عندما يبلغ حجم الفساد درجة أن يقتطع مبالغ هائلة من الدخل الوطني تمنع عملياُ حسن توزيع الدخل، فإن المشكلة ليست في الفساد والقضاء عليه كظاهرة (عادية)، بل كظاهرة تمنع تطور الاقتصاد الوطني. وعندما يبلغ حجم الفساد (الكسب غير المشروع) أن تقتطع أجزاء من الدخل الوطني، ويصبح من المستحيل على أساس هذا الاقتطاع وحجم الفاقد تحسين مستوى المعيشة أو تأمين النمو، وعندما يبلغ هذا الحجم إلى حد يصبح عائقاً أمام ضرورات التطور اللاحق، يصبح القضاء عليه أمراً لا بد منه، لأن استمراره يعني القضاء على النظام الاقتصادي والاجتماعي وحتى السياسي. إننا أمام أحد أمرين: فإما أن يقضي النظام السياسي الاقتصادي على الفساد، أو أن الفساد بسبب بطنه الكبير ينسف أساس الاستقرار.
والحقيقة المؤكدة بحسب قدري جميل أن أي نظام اقتصادي اجتماعي يستمر بقدر مايؤمن متطلبات المجتمع بحدودها الدنيا على الأقل. وعندما يصبح عاجزاً، تصبح أسس استمراره مهددة،
ولذلك فإن التشخيص الحقيقي اليوم: بأن الفساد في بلدنا هو أساس كل المشكلات وضرب الفساد الكبير هو القاطرة والعقدة بآن واحد.
فساد كبير وآخر صغير:
ولكن هل من تقديرات ما لحجم الفساد في الاقتصاد الوطني؟
يقول جميل: إن التقديرات تشير إلى أن نسبة الفساد من الاقتصاد الوطني تتراوح بين 20% و40%، وهي نسبة كافية كما يقول لحل كل مشكلاتنا الاقتصادية بدلاً من أن نبحث عنها خارجاً في الاستثمارات الخارجية. وبحسب تقديرات أخرى فإن المناقصات لدينا تكلف 40% زيادة عن المعايير العالمية، وبالتالي فإن الفساد ضريبة يدفعها المجتمع من لحمه ودمه لكبار أصحاب الرساميل.
المشكلة الأساسية بحسب قدري جميل أن هناك فسادين، كبير وصغير: الأول سبب والآخر نتيجة، فإذا عالجت السبب تعالج النتيجة.
فالفساد الكبير يبلع 80% من الفاقد الاقتصادي، وهذا يعمم نمطه الأخلاقي في المجتمع ليحمي نفسه.
وبحسب الباحث الاقتصادي نبيل سكر، فإن الفساد الكبير يمكن أن يؤدي إلى إقامة مشروعات ليست ذات أولوية للبلد، والأهم أن هذه المشروعات ستكلف الدولة بشكل أكبر بكثير من كلفتها الحقيقية.
بحسب الدراسات الاقتصادية، فإن أهم مطارح الفساد هي الوصلات في النشاط الاقتصادي للدولة وخاصة الإمداد والتسويق، ويسمي الباحث الاقتصادي قدري جميل هذه المطارح بقوله إن التجارة الخارجية كإمداد لقطاع الدولة هي مصدر فساد، وتسويق منتجات القطاع العام هي مورد فساد حيث يشهد تواطؤاً بين الفاسدين في جهاز الدولة، كما أن الوصلة بين المنتج والمستهلك هي مصدر فساد، فهذه الحلقة الطفيلية تحقق أرباحاً خيالية وبطرق مختلفة على حساب الطرفين.
إن المطارح الأساسية في كل دول العالم هي في تلك القطاعات التي تحقق أكبر قيمة مضافة وهو ذلك الإنتاج المادي الذي يحقق قيمة عبر النقل (كالنفط والكهرباء والاتصالات) ويكفي أن نعرف هنا الفرق بين الكلفة والسعر!
إن كل منهج يحقق قيمته عبر النقل هو ريعي إلى حد كبير وفيه قيمة مضافة عالية.
قرار سياسي سيادي:
هل نقوم فعلاً بمكافحة الفساد، وهل تكفي النوايا لوحدها هنا! أم إن الأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك وما هو هذا الأكثر؟! هل هو القوانين؟ أم أن القوانين موجودة، إذاً ربما نحتاج إلى مؤسسة جديدة أم أن ما لدينا من مؤسسات وهيئات تكفي فيما لوكنا واضحين فيما نريد؟
أما الباحث قدري جميل فيعتقد أن الإدارة السياسية لمحاربة الفساد لاتعطي نتائج، لأن الآليات قديمة وهي تعود إلى ماقبل استشرائه وتحوله من أفراد منعزلين إلى شريحة متضامنة ومتضافرة، فالتطور التاريخي جعلهم شريحة متضامنة وقوية والمهم الآن هو تفكيكهم وتخفيض الفاقد الذي يهدرونه.
ويضيف: «إن النية السياسية موجودة لمكافحة الفساد إلا أنها تصطدم بتخلف الآليات، وبالتالي نحن بحاجة إلى آليات معاصرة لمحاربة الفساد والشرط الضروري هو الانفتاح على المجتمع والقوى المتضررة فيه والباقي هو مجرد تفاصيل».
حبل السرة:
في هذا السياق يقول الباحث قدري جميل: إن حبل السرة الذي يتغذى منه الفساد في أي بلد وخاصة بلدان العالم الثالث هو الاحتكارات الأجنبية، مضيفاً أن البنك الدولي الذي أنتج الفساد هو نفسه اليوم بحجة الفساد يريد تطويع هذه البلدان لتوجيه موارد الفساد باتجاه الغرب.
وكنتيجة لهذه السياسات يموت يومياً في العالم الثالث 14ألف طفل وذلك بسبب نمط توزيع الثروة الذي سببه الأساسي هو الفساد.
كما أن 30% من التجارة العالمية تقوم اليوم على تجارة المخدرات والدعارة والسلاح وهذا فساد، حتى إن ما يتراوح بين10و15 تريليون دولار تأتي سنوياً عن طريق هذا المصادر.
حاولنا تأسيس جمعية لمكافحة الفساد تقوم أساساً على إشراك المجتمع في محاربة الفساد، لأن هذا الأخير يستمد قوته من كونه ذكياً وله برامج تطوير ذاتي، فلا يمكن بالتالي مكافحة آلياته بقوى الدولة النظيفة فقط، بل عبر حركة مجتمعية مرافقة، إلا أن مصير هذه الجمعية كان المنع كما ـ يؤكد جميل ـ حيث جرت عرقلتها من وزيرة الشؤون الاجتماعية بحجج شكلية لا أساس لها.
وفي هذا السياق، النائب محمد حبش أحد لأعضاء المؤسسيين في هذه الجمعية يقول: قمنا بمحاولة صحية لتشكيل جمعية شعبية باسم «جمعية مكافحة الفساد»، لكن وللأسف لم نحظ بموافقة، ولم نتمكن من تشكيلها، والسبب كان مخاوف لدى السلطة التنفيذية أن تستغل هذه الجمعية، وتتحول إلى أداة فضائحية، وانتقامية ضد من لاتعجبنا سياساتهم، ويضيف الحبش مبرراً: قد تكون الدولة محقة في هذا التخوف، ولكن بإمكانها أن تفرض شروط التأسيس بما يمنع قيام مثل هذه المخاوف..
مرحلة حرجة:
أما الباحث قدري جميل، فيذهب إلى أبعد من ذلك معتبراً أن في ظروف سورية الملموسة فإنه أينما ذهبنا سنذهب إلى استنتاج واحد وهو أن لا مخرج إلا بالاستيلاء على مصادر الفساد ومطارحه.
إذاً، الجميع متفق على ضرورة الطابع الجذري لمكافحة الفساد وإن اختلفت الرؤى والطرق، فكلما تأخر البدء بمكافحة هذه الآفة كلما ازدادت رسوخاً وتجذراً وازداد بالتالي اجتثاثها صعوبة إن لم نقل استحالة.
وبالنهاية فإن من يدفع ثمن كل ذلك هو مجتمع بطوله وعرضه، يدفع ضريبة الفساد من لحمه ودمه والأهم أخلافه وقيمه وثقافته!