أنصفوا مهندسي القطاع العام المنسيّين
يُعَدّ المهندسون أحد ركائز الصناعة الحديثة، ومن المستحيل الاستغناء عنهم في الإنتاج الآلي، وحتى في الإنتاج الحرفي، فإن العديد من الورش الناجحة تعود ملكيتها لمهندسين عمليين ومبدعين، يمتلكون مهارات يدوية رفيعة المستوى.
مع ارتفاع الأسعار المنفلت والمستمر، تردى حال المهندسين العاملين في الدولة، لدرجة أصبح غالبيتهم يعمل ورديتين، وترغمهم الحاجة على العمل بأعمال ليست ضمن اختصاصهم، ويبتزهم القطاع الخاص، فيضطرون للعمل بأجور منخفضة. إن تنفيذ سلة التعويضات التي أقرها القانون 50 بات أمراً ملحاً لإنصافهم وإنصاف جميع العمال العاملين في الدولة.
حددت المادة 98 من القانون 50/لعام 2004 التعويضات للعاملين في الدولة على الشكل التالي: 8 % لقاء العمل الفني المتخصص، 5 % لقاء الإجهاد الفكري، 9 % لقاء مخاطر العمل
8 % لقاء طبيعة العمل الخاصة للوظائف والأعمال... على ألا تتجاوز 40 % من الراتب المقطوع الذي يتقاضاه العامل.
كل التعويضات أعلاه وبقيمها العليا يستحقها المهندسون كل حسب مكان وطبيعة عمله، لكن لم ينالوا سوى تعويض لقاء العمل الفني المتخصص، وحدد بـ6.5 %، و5.5 % لقاء طبيعة عمل، بالتالي تساوى مهندسو الأعمال الإدارية مع مهندسي المواقع الإنتاجية. مرة أخرى تقف المساواتية المبتذلة عائقاً أمام تحفيز العنصر البشري وتطوير الإنتاج وإصلاح القطاع العام.
تحسن دخل القضاة وأساتذة الجامعة بشكل ملموس نتيجة للتعويضات التي منحت لهم، وبقي المهندسون العاملون في الدولة منسيين.. ويتصور بعض من بيدهم القرار، أن كل المهندسين في مواقع المسوؤلية وزراء ومدراء، وبالتالي هم في دائرة الفساد المباشر وغير المباشر بهذا القدر أو ذاك بهذا الشكل أو ذاك، لذلك ليسوا بحاجة لتعويضات، أما الشرفاء (الأغبياء) فليدفعوا ثمن مواقفهم الوطنية الخشبية اللاواقعية، وهذه نظرة متجنية وحاقدة، فغالبيتهم دخلوا في نطاق ذوي الدخل المحدود.
اضطهاد قوى الفساد للشرفاء، والأجور المنخفضة للكوادر الفنية الشريفة في القطاع العام وراء هروبهم إلى القطاع الخاص والى دول الخليج، وهذا أحد أسباب خسائر قطاع الدولة.
رفضت البيروقراطية مشاركة العمال في إدارة مؤسسات القطاع العام الإنتاجية، لخشيتها من مراقبة ومحاسبة الشغيلة لها، لذلك لجأت لتعين المثقفين خريجي الجامعات في المناصب الإدارية. تستطيع البيروقراطية عزل الإداريين عن العمال بمنتهى السهولة وافتعال التناقضات داخلهم للسيطرة عليهم، والتخلص منهم بجرة قلم في أية لحظة يخرجون على طاعتها، وهذا الوضع المعقد والمرهق الذي يعيشه المثقفون يعود لانتمائهم لفئة اجتماعية غير مستقرة طبقياً، ومترددة فكرياً، اعتمدت بصورة خاصة على المهندسين لإدارة المعامل والمصانع الحكومية، وبالتالي انتقل عدد من المهندسين من الأعمال الفنية إلى الأعمال الإدارية، فأصبح بعضهم مدراء فروع ومدراء عامين لمعامل قطاع الدولة، وفي ظل نظام إدارة مفرط بالمركزية والأوامرية تحول قسم من المهندسين إلى بيروقراطيين آمرين ناهين لا يتجرأ أحد على إبداء الرأي في قراراتهم.
تستر بعض المهندسين بالشعارات الاشتراكية الرائجة للوصول إلى المناصب الحكومية، وتحكم هؤلاء بصرف أموال طائلة تقدر بمئات الملايين من الليرات سنوياً، مع تفشي ظاهرة الفساد المباشر وغير المباشر، وانغمس الكثيرون منهم بالفساد، وترأسوا شبكات الفساد المنظم لغياب الرقابة الشعبية واقتصارها على رقابة أجهزة الدولة المالية والتفتيشية البيروقراطية، التي تحولت مع الزمن إلى أداة لتغطية النهب المنظم للاقتصاد الوطني، وشريكة فيه. بعدما تغيرت المواقع الطبقية لهؤلاء المهندسين انقلبوا على الاشتراكية، وأصبحوا جزءاً من البرجوازية البيروقراطية والطفيلية السند الرئيسي للسياسة الاقتصادية الليبرالية التي ستوصل البلاد والعباد إلى الكارثة.
هنا يلح علينا السؤال: أين نقابة المهندسين من كل ذلك، أم أن مهمتها الوحيدة هي الدفاع عن مهندسي المكاتب فقط، والتهافت على المصالح الفردية الخاصة؟
بصورة عامة، إذا لم ينحز المثقفون إلى جانب طبقة، تعرضوا إلى استهتار ولامبالاة جميع الطبقات، وفي حالتنا فإن تواجد المهندسين الدائم مع الطبقة العاملة يسرّع من تطورهم الفكري وانحيازهم إلى جانبها، وهم بحاجة ماسة لحماية الطبقة العاملة من تعسف وتسلط البيروقراطية. مأساة المهندسين تكمن في تسابقهم وتهافتهم على نيل رضا البيروقراطية التي تتلاعب بهم كالكرة، مستغلة طموحهم في الوصول إلى المناصب والبعثات الخارجية لتحسين دخلهم، هذه الأوهام سبب ضعفهم وترددهم ومصدر بلائهم وشقائهم، لذلك لا سبيل أمامهم للخلاص من التهميش والجور سوى الانحياز التام إلى جانب الطبقة العاملة والكادحين عموما للقضاء على الفساد المنظم والتسلط البيروقراطي البليد.