في ندوة الثلاثاء الاقتصاديّة: من «هوامش على متون السياسات الاقتصاديّة السوريّة» إلى «فرمتة» الوعي الاجتماعي

ضمن سلسلة ندوات الثلاثاء الاقتصادية ألقى د. رياض الأبرش محاضرة بعنوان «هوامش على متون السياسات الاقتصادية السورية» في 25/3/ 2008 بطريقة مغايرة لعادة الندوات.. إذ تنازل المحاضر عن كل ما قاله بعد عدة مداخلات أعقبت محاضرته، تميزت بالعمق الاقتصادي، والرؤية الموضوعية للواقع السوري، وخلّصت الحضور من النعاس الذي أصابهم في المحاضرة، وأصر أن الأفكار التي طرحها لا تعبر، بالضرورة عن رأيه، بل هي هوامش من هنا وهناك..

بدأ د.رياض بالقول: «سأقوم بوضع هوامش على متون السياسات الاقتصادية، ساعياً في هذه المحاضرة، إلى التأكيد أن الاختلاف في الرؤية والاجتهاد والأساليب لا يفسد للود قضية، لأني أبقى كما كنت دوماً من أشد الرجال حماسة للفكر الذي أوحى بهذه التطبيقات الليبرالية ذات الطبيعة الإصلاحية.

خلال عقد تسعينات القرن الماضي، وبعض سنوات من مطلع هذا القرن، احتدم في سورية نقاش حواري محموم بين أنصار أولوية الحريات الاقتصادية واقتصاد السوق من ناحية، وبين أنصار أولوية العدالة الاجتماعية. فعلى الرغم من تبني مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي، منذ مدة، مايزال بعض أنصار العدالة الاجتماعية في سورية يعتبرون هذا المفهوم طرحاً سفسطائياً، غير فعال، وغير حقيقي، وأنه مجرد غطاء لتبني اقتصاد السوق، الذي جعلوه هدفاً أبدياً لسهامهم، بحجة أن هناك مؤامرة على القطاع العام لحجب الاستثمارات عنه.

لقد انتهى الآن هذا التجاذب الفكري والإيديولوجي، وجرت عودة من ثقافة الطبقة، والصراع الطبقي إلى رحاب الوطن الواحد الجامع.

كما لم يبق هناك من مكان لجدل فلسفي، والبحث حول مفاهيم الثنائيات المطلقة. الآن وقد اعتمدت صيغة اقتصاد السوق الاجتماعي، بإجماع موافقة المتحدثين عن مختلف شرائح الدخل، وطبقات المجتمع السوري، أصبح النقاش والجدل الاقتصادي محصوراً فقط حول مدى رشد وعقلانية وحسن أداء القائمين على تنفيذ السياسات، أي على مدى تلاؤم الإدارة مع الحلم، والأمل والتطلعات العقلانية من ناحية، وكذلك على مدى صحة مسار وجدية ملاءمة الأداء الإداري الاقتصادي، لتحقيق الأحلام الوطنية التي ماتزال تراود الكثير منا في سورية، وأقل كلفة اجتماعية واقتصادية ممكنة».

 نموذج القدوة

ثم أكد الأبرش أن: «الشعب السوري شعب فخور يأبى التبعية ويرفض الاستسلام والخنوع، وهو ما كان يدفع به دوماً، إلى رفض الوصفات الجاهزة المهملة للجانب الإنساني والاجتماعي والسياسي في الحياة، لاسيما تلك التي كانت تقدمها بعض المنظمات الدولية المعروفة كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، لما فيها من تجاوز للسيادة الوطنية، وإهمال للجانب الإنساني. فالبحث عن النموذج القدوة لدى أصحاب التجارب الاقتصادية الناجحة بدا وكأنه استقر على نموذجين رائعين من حيث الكفاءة في الأداء: أولاهما وهو الصين كحل يرضي توجهات وتطلعات المخضرمين، وثانيهما يرضي تطلعات الفكر الشاب المتفتح، وهو نموذج إمارة دبي..

اقتصاد سوق... نعم، ولكن اجتماعي. تخطيط نعم، ولكن استشرافي. د.الأبرش، عاد إلى رأيه المبطن عندما قال: «وإني أعترف علناً هنا أن رجال إدارة الاقتصاد السوري، في مطلع القرن الحادي والعشرين الميلادي، كانوا أكثر واقعية واهتماماً بالجانب العملي للمسألة الاقتصادية، من أسلافهم، في القرن الماضي الذين أوقفوا الجدال الأيديولوجي خاصة فيما يتعلق بالاستثمار الخاص أولاً وأخيراً، ومن ثم إحداث شركات قابضة مثل سورية، شام، ليصبح هذا القطاع العام فاعلا،ً وقادراً على أداء الدور المطلوب منه سواء في عملية النمو والتنمية، أو في مجال الاندماج في السوق الدولية «رأي عجيب». وفي هذا الإطار كان لابد من إعادة تشكيل المناخ الاستثماري في سورية، بحيث يصبح جاذباً للرأسمال الخاص محابياً له».

إن أهم الصعوبات الحالية تكمن في:

أولاًـ ظاهرة التضخم وارتفاع الأسعار.

ثانياًـ ظاهرة تفاقم المشكلة البيئية.

ثالثاًـ ظاهرة تراكم ودائع المصارف السورية.

رابعاًـ استمرار ظاهرة البطالة.

خامساًـ استمرار ظاهرة الفقر.

سادساًـ ظاهرة انخفاض الأجور والفساد وضرورة معالجتها ودور الدولة الاقتصادي.

وفي النهاية سأل المحاضر كيف يمكن لتوزيع دخل ما أن يكون عادلاً. ما هو التفسير المقبول لكلمة عادل؟.. ولقد كان «إرضاء الناس غاية لا تدرك». ولهذا إني آمل من القادرين بين الحضور أن يعرفوا لي أو لأنفسهم على الأقل مفهوم العدل الذي يتصوره كل منهم..

وأخيراً دعونا نصلي لسلامة سفينة اقتصاد سورية وهي تمخر وسط دوامات أعاصير السياسات والضغوط الدولية والإقليمية العنيفة».

 مداخلات إيقاظ

بلغة الحاسوب وقوة البرق!

أحمد الناصير: قال إن المحاضر تناول كل موضوعة في الوسط ما بين السياسي والاقتصادي، لذلك «دعنا نقل لك أنك رحبت بالمستثمرين واستثماراتهم، فهل يعني هذا أننا نرحب باستثمار موقع ابن هانئ المغلق منذ عشرات السنين؟ أما فيما يخص الأرقام التي أعطاها المحاضر عن الصادرات والواردات الزراعية السورية، فماذا تعني هذه الأرقام وسورية تعتبر دولة منغلقة اقتصادياً بموجب تقرير مقارنة مع باقي المنطقة، وأُعطينا أرقاماً عن الرسوم الجمركية أغفلت أن الرسم غير الجمركي يعادل 20 % من قيمة الواردات، وذكرت من خلال دراسة أن الفقراء في سورية 30 % وأنا سآخذ برأيك وأقول إن معظم سكان سورية فقراء!.

د.نبيل مرزوق شكر د.أبرش على لهجته التصالحية الذي قدمها بين التيار الليبرالي وما سماه بالتيار الاجتماعي، واعتبر هذا تقدماً «لكن في أي مجال يمكن أن نرى هذا التقدم في الواقع؟ يستند د. رياض إلى مقولة (اقتصاد السوق الاجتماعي) وهو من خلال عرضه يبين بأننا ليس ما نطبقه هو ذاك الاقتصاد، وإنما نطبق سياسة سوق حر مفتوح، والجانب الاجتماعي سيتحدد لاحقاً، فالحكومة عندما طرحت شعار (اقتصاد السوق الاجتماعي) أعفت نفسها من أي حوار، لأنها قامت بالمصالحة التي تقدم بها المحاضر، أي المصالحة الاجتماعية، وبالتالي هي الآن غير ملتزمة بالاستماع إلى مطالب الفئات الاجتماعية الأخرى، والعمال عليهم أن ينتظروا قراراً برفع أجورهم!! على الفقراء أن ينتظروا برامج الإعانة الاجتماعية، إذ ليس هناك حوار مع الحكومة، بمعنى أنه ليست هناك أية مصالحة ولا يمكن أن توجد، فهناك مصالح متناقضة لا بد من تحقيقها أحدهما على حساب الآخر. وإذا أردنا القول إنه توجد مصلحة وطنية في التنمية فإن كل التجارب تؤكد بأن أهمها «التنمية البشرية» كعامل أساسي في التنمية لتحقيق نوع من الرفاه الاجتماعي للأسرة والأفراد. إذاً هناك ترابط بين عملية التنمية وعدالة التوزيع والعدالة الاجتماعية بشكل عام، وهذا ليس مطلباً أخلاقياً أو ميتافيزيقياً كما يقال، بل هو شرط وضرورة في عملية التنمية، ودون ذلك لا يمكن تحقيقها.

 خطة خمسية دون تخطيط

د.قدري جميل: إن الاستماع للمحاضر يفسح المجال للرأي والرأي الآخر وينشط الحوار. لكنني سأبدأ بالأستاذ غسان القلاع وقبل التحدث عن الجوهر هناك ملاحظة هامة لابد منها، وهي أنه قد تم الحديث عن الحوار والمصالحة، وهذا كلام جميل، والرائع فيه عندما يكون موجوداً في الواقع، ولكن لو تحقق اتفاق فعلي حول المفاهيم والمصطلحات، فالتقدم كان بشكل أسرع نحو المصالحة الفعلية والتفاهم الحقيقي.

ماذا حصل؟ لنأخذ روسيا مثالاً، الاقتصاديون الذين خربوا روسيا عندما كانوا ينظّرون لم يكن هناك تنفيذ على أرض الواقع، وحين بدأ التنفيذ وتوضحت الآثار التخريبية والتدميرية لآرائهم النظرية، وقالوا إننا لم نكن نقصد هذا، وحتى بعضهم أصبح في التيار اليساري المدافع عن العدالة الاجتماعية. القصد من هذا الحديث أنه بالإضافة إلى الحرب الاقتصادية والسياسية والإعلامية، هناك حرب للسيطرة على الوعي الاجتماعي، وعلى المصطلح والمفهوم من خلال تضليل العقول، ويجري عبرها «فرمتة الوعي الاجتماعي»، أي مسح «الهارد ديسك» لتنصيب برامج جديدة، تخدم الأهداف الكبرى لصاحب المشروع الكبير. ونحن دون أية دراية منا، نستخدم تلك المصطلحات والمفاهيم، وندخل في سياق «السوفت وير»، فكيف يحصل هذا؟!

الأستاذ غسان قال «اقتصاد مخطط»، والسؤال هو: من الذي قال إن اقتصادنا كان مخططاً؟ وهل وجود خطة خمسية يعني وجود تخطيط؟! نحن كنا نضع خطة خمسية ولكن دون تخطيط، فماذا يعني التخطيط؟! حسب ما ندرسه الآن، بالمفاهيم الأولى يعني تأمين تناسبات القضايا الكبرى «أجور، أرباح، استهلاك، تراكم، كتلة نقدية، كتلة سلعية... الخ» لذلك سأطلب من الأستاذ غسان دراسة كل الخطط السورية، من الأولى إلى التاسعة، والبحث عن التناسبات التي تم الأخذ بها، والعمل على إجرائها وتطبيقها، بالحقيقة لن تجد ذلك، لأن خططنا كانت برامج استثمارية لا غير، وإذا اتفقنا بعدم وجود تخطيط، فكيف يصرحون بوجود تخطيط مركزي؟!

 مابين «اللعبجة» والحقيقة

المركزي، كانت الإدارة، في ظل نظام اقتصادي، كان فيه بعض ملامح بذور عمليات التخطيط التي لو توافرت لها البيئة المناسبة لكانت تطورت، وللحق، ورغم انتقادنا الشديد لعبد الله الدردري، فإن الخطة الخمسية العاشرة، كانت أول محاولة باتجاه تأمين بعض التناسبات، وهذه «تسجل له»، بغض النظر عن «اللعبجة» التي دخل فيها ولم تنجح، وكان التحدي الأكبر هو طلب تحقيق نسبة نمو ضمن خطة بشكل معاكس لجميع الخطط السابقة، فماذا توضح؟ توضح أنه لا تخطيط ولا مركزي، وهذا يأتي في سياق الهجوم على الوعي الاجتماعي. أما الأستاذ رياض الأبرش فقد طرح مفهوم العدل، وتحدى أن يكون باستطاعة أحد وضع مفهوم للعدل، وقبل أن أقبل التحدي سأناقش المحاضر، ماذا يعني طرح هذا السؤال؟ هل يعني عدم إمكانية الوصول إلى عدالة، ألا علاقة لهذا أيضاً بنظام «الفرمتة» العالمي؟.

فالعدل ليس سؤالاً، لأن الحق بالحياة والمسكن والصحة والأكل، هي حقوق طبيعية، خُلقنا لكي نمارسها، الآن من خلال «الرسملة والتسليع» يجري عملياً تسليع جميع الحقوق الطبيعية، فحتى المياه أصبحت تُشترى.

لذلك فنمط التطور الاقتصادي الجاري، يسلع كل شيء، أي لا عدالة في كل شيء، وهذه أيضاً «فرمتة وسوفت وير جديد».

أما ما يخص نموذج القدوة، فهل أي نموذج كان له قدوة قبل أن يصبح هو القدوة؟ «النموذج الصيني ـ دبي» أي أنهم نجحوا من دون أية قدوة، والذي يبحث عن نموذج القدوة، يجب أن يصنعه بنفسه، لا أن يجعل من النماذج الأخرى صورة فوتوكوبية له، والذي قد يكون مميتاً في هذه الحالة.

 نظام «الفرمتة» العالمي

أخيراً حول التضخم، في نظام «الفرمتة العالمي» يتكلمون عن جميع الأشياء المرتبطة بالتضخم إلا القضية الأساسية، التي هي ضريبة يدفعها الفقراء للأغنياء، وهو يعني أيضاً إعادة توزيع الدخل، فالمحاضر تناول التضخم بثلاث صفحات، ولم يتناول هذه النقطة لا من قريب ولا من بعيد، مع أنني موافق على كل ما قاله، لكنه لم يذكر النقاط المهمة الثلاث، وهي تمركز الثروة ثم تمركز الثروة، ثم تمركز الثروة!

عبد الله الدردري بتصريح للحياة، أكد على موضوع تمركز الثروة، عندما قال: « هناك تمركز عال للثروة، وتحسين في الوضع الاقتصادي، فازداد عدد الأغنياء، ولكن لم يزدد عدد الفقراء، وحسب أرقام الدردري والإحصاء والخطة الخمسية العاشرة، فقد تم تخفيض رقم البطالة من 12 % إلى 8 %، وكذلك خفضنا نسبة الفقر من فئة الدولارين من 30 % إلى 11 % وهذه بدورها نزلت إلى 0.5 %، هكذا تحدث الانجازات، بتغيير الأرقام فقط. إن نظام العدالة والأداء الكفاءة، توضع دائماً في موقع وموضع التناقض، أما اليوم فإن العدالة شرط ضروري لتحسين الأداء والنمو، لذلك فإن النموذج الذي نرغبه هو النموذج الذي يحقق العدالة والأمن الوطني معاً.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.