إعداد وحوار: جهاد أسعد محمد إعداد وحوار: جهاد أسعد محمد

كيف يصنع القرار الاقتصادي في سورية؟

تتابع قاسيون ما بدأته في عدديها الماضيين بفتحها ملف «كيفية صنع القرار الاقتصادي السوري»، الذي يسعى من خلال مساهمة عدد من الاختصاصيين والمهتمين للإجابة على جملة من الأسئلة المتعلقة بالقرارات الاقتصادية في سورية والعوامل والعناصر المؤثرة فيها، وآليات صناعتها وأهدافها وآثارها. واليوم نعرض وجهتي نظر لكل من وزير الصناعة السابق د. غسان طيارة، ونائب عميد كلية الاقتصاد د عابد فضلية..

د. طيارة:وصلنا إلى اقتصاد سوق حر بقوانين مخيفة! 

• كيف يمكن توصيف القرار الاقتصادي السوري وما هي المرتكزات التي يستند عليها قبل إصداره؟

 أي قرار يحتاج لدى إصداره إلى مستلزمات، لقد تعلمت أثناء دراستي في الاتحاد السوفيتي شيئاً أساسياً يسمى الهدف الوظيفي، فأي قرار ليس واضحاً فيه هذا الهدف الوظيفي لا معنى له، وبالتالي لن ينفذ.. لنأخذ التناقض في القرار الذي اتخذ في بلدنا على أعلى المستويات (اقتصاد السوق الاجتماعي) مثالاً، فكيف يمكن أن تقول إننا نريد أن نسير باقتصاد السوق الاجتماعي وقطاعنا العام متخلف ومريض؟ أول مستلزمات اقتصاد السوق الاجتماعي أن يكون لدينا قطاع عام معافى وقطاع خاص معافى، إننا في ظروف سورية عندما تبنينا اقتصاد السوق الاجتماعي لم نحدد مفهومه، ولم نحدد مفهوم الاجتماعي في الاقتصاد، ولدينا اقتصاد مريض وخاصة في القطاع العام، وبالتالي من الطبيعي أن ينتج عن هذا القرار تداع سيء أولاً على القطاع العام وثانياً على القطاع الخاص، وهذه النقطة بكل أسف،لم تعالج حتى الآن..

إذاً، عندما اتُخذت القرارات كان من المفترض تحديد الأهداف ومستلزمات تنفيذها، أما أن تكون لدينا قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات والتجارة مريضة، فلن نصل إلا إلى اقتصاد السوق الحر بقوانين مخيفة، وهذا ما يحدث حالياً في سورية. 

• إذاً كيف وُلد قرار الاقتصاد السوق الاجتماعي؟

تعتمد القيادة السياسية عند إصدار القرارات، على التقارير التي ترفعها الحكومة، وقد وجدت القيادة قبيل المؤتمر العاشر نتيجة هذه التقارير أن هناك ضرورة لشيء من المنافسة، لوجود سوق دون احتكارات يكون للدولة دور المسيطر عليه، فاتخذت قرارها بالتوجه نحو اقتصاد السوق الاجتماعي، لكن القيادة السياسية ليس من مهامها تحديد وسائل ومتطلبات تطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي، هذه مهمة الحكومة، والآن على القيادة أن تحاسب الذين قصّروا في تطبيق هذا التوجه..

في أواخر 2006 قرر مجلس الوزراء تكليف بعض أعضاء الفريق الاقتصادي بتعريف اقتصاد السوق الاجتماعي، كونه ليس مسلمة أو بديهية، وحتى الآن لم يتم ذلك.. وبالتالي لم تقم الحكومة بوضع موازين ومؤشرات، وراحت تتخذ قرارات مصيرية مثل إعادة توزيع الدعم، الذي نتج عنه تداعيات خطيرة، دون دراسة متطلباتها، أو انعكاساتها.. وبذلك استمر التخبط وحدثت الأزمات: ركود وبطالة ومشكلات اجتماعية واقتصادية لا حصر لها.. كل ذلك بسبب ارتجالية القرارات وعدم تحديد الهدف الوظيفي له وهو الذي يتطلب معرفة الأسباب والوسائل والأهداف وكيف يمكن أن نؤمن الدعم الشعبي لتطبيقه.. 

• ما تقيمك لذلك؟ هل هو قصور معرفي، أم هناك ما يختبئ وراء الأكمة؟

 لا أريد أن أذهب وراء الأكمة.. أنا أعتقد أن السبب هو نقص الخبرة، وهذا أمر بسيط، إن كنت لا أحمل الخبرة علي أن أسمع النصيحة من غيري. مع الأسف كل من برأس الطاولة (هو على حق) لأن في داخل كل منا دكتاتور صغير..

• إذا بحثنا في نتائج القرارات كيف نجدها؟ ومن خدمت فعلياً؟

 أهم نتائج القرارات التي لا تراعي مستلزماتها الفساد، أي قرار خاطئ سيؤدي إما إلى الاحتيال لتنفيذه، أو إلى الفساد.

ثمة مقولة تقول: (القانون حبل يقف أمامه الحمار) أما سواه، فإما يمر من فوقه وإما ينزل من تحته. هذا بالنسبة للقانون، فكيف بالقرار إذا كان غير واضح؟؟ من الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى الفساد. لنأخذ مثالاً: اليوم تورد بعض الصحف الكثير من المعيقات في نظام العقود تؤدي إلى عزوف الشركات عن التعاقد مع القطاع العام، ومع ذلك ثمة أشخاص معنيون يتعاقدون لأنهم قادرون على الدخول من ثغرات القانون.. هذا فساد .. أشكال الفساد وخاصةفي غياب الرقم الشفاف الذي يعطي مصداقية، أرقامنا لا شفافة ولا علمية، وهذه مسألة خطيرة فعندما تعطى القيادة أرقاماً وهمية بخلاف ما أكد عليه السيد الرئيس، تُتخذ قرارات غير صائبة وغير شعبية، وهذا خطير...

• مَنْ تخدم حزمة القرارات التي اتخذت خلال السنوات القليلة الماضية، وكيف يمكن معالجة كل هذه الأخطاء المتراكمة؟

 هناك قانون في الماركسية أنا مؤمن به هو قانون التراكم الذي سيفعل مفاعيله، فنحن لا يمكن أن نستمر على هذا المنوال إلى ما لا نهاية، لابد أن نجد الطريق الصحيح... لكن إذا لم تتفاعل الأفكار، وإذا لم تحدث حوارات حقيقية لن نصل بسرعة.. الحكومة يجب أن تتحاور مع كل الناس، فهي تعرف أن (س) من الناس غير موافق على العلاقة مع البنك الدولي، و(ع) غير موافق على القرارات الاقتصادية، فما الضرر من طاولات مستديرة لمناقشة هذه الأمور؟ لو نوقش قرار رفع سعر المازوت مع الاختصاصيين لكان الحل سيأخذ منحى أخر، لا أحد يملك الحقيقة المطلقة بمفرده. هذا الحوار هو الذي سيؤدي إلى اكتشاف طريق الصواب.

• لماذا لا تكون القيادة السياسية هي الراعية لهذا الحوار؟

 قامت القيادة السياسية بذلك.. ولكن اختصاصاتها ليست على صلة مباشرة بموضوع الاقتصاد والصناعة والتجارة والمال.. هم يصوغون التوجهات العامة... ولكن لا أعتقد أن القيادة السياسية قالت للفريق الاقتصادي ألا يجتمع مع أهل الخبرة.. هناك الكثير من الاقتصاديين يقولون ما يجري ليس الحل لاقتصادنا.. هناك مشكلة، والمشكلة الأبرز أن الاختصاصيين الاقتصاديين الذين لا يوافقون على القرارات الحكومية لا يجتمعون مع بعضهم. نحن نحتاج إلى لقاءات نوعية متخصصة

• برأيك ما دور أو تأثير المؤسسات الدولية في كل ما يجري على مستوى الاقتصاد السوري؟

 أنا منذ العدوان الثلاثي أكره البنك الدولي، فهو يقدم سياسة ولا يقدم خبرة.. وعلاقتنا معه، وعلاقتي أنا الشخصية معه غير إيجابية، لا نستطيع أن نركن إلى البنك الدولي ووصفاته ومعوناته، لأن جميع الصناديق بلا استثناء يسيطر عليها ويوجهها من يدفع أكثر، وهؤلاء الذين يدفعون ويوجهون معروفون بالنسبة لنا من هم.. وفي العموم قبل استقدام الخبراء من المنظمات الدولية وقبول نصائحهم علينا أن نسأل أنفسنا هل فتشنا عن خبراتنا وتأكدنا أن لا خبراء لدينا؟ ما يجري أننا نستقدم الخبراء من البنك الدولي وخبراؤنا جالسون يتفرجون.. هذا ظلم.. 

• ألا تتدخل هذه المؤسسات الاقتصادية في القرار الاقتصادي السوري؟

 عندما كنت وزيراً للصناعة لم يتدخل أحد في عملي، لكني اليوم أعلم أن لهم دوراً في التأثير على القرار الاقتصادي. عندما يأتي خبراء البنك الدولي ويجرون دراسات ويقترحون الحلول فهم يتدخلون.. النائب الاقتصادي يقول إننا نأخذ ما يعجبنا من اقتراحات البنك الدولي وصندوق النقد، لكن المسألة أكبر من ذلك، لقد قرأت في تقاريرهم أن علينا رفع الأسعار ورفع الدعم، وقد تطابقت «الاقتراحات» الدولية مع القرارات التي تم اتخاذها محلياً..

اليوم، أنا لا أحمّل هذه الحكومة وحدها كل أسباب ونتائج ما يحدث في بلدنا وفي القطاع العام.. وفي الاقتصاد الوطني، وإن ساهمت بصورة كبيرة فيه بسبب قراراتها وتوجهاتها وسياساتها التي لا تتماشى واقتصاد السوق الاجتماعي، فالمشكلة أكبر وأقدم، والحقيقة أنه ينبغي علينا ألا نطرح الشعارات التي نعجز عن تنفيذها بسبب عدم توفير المستلزمات التي تتطلبها لتحقق غاياتها وأهدافها. 

د. عابد فضلية:القرار الاقتصادي ليس بالمستوى النوعي المطلوب دائماً.. 

فيما يتعلق بالقرار الاقتصادي يجب التمييز بين ثلاثة مستويات من التشريعات:

المستوى الأول ـ القوانين والمراسيم: وهذا المستوى من التشريع يدرس بعناية من القيادة السياسية ولا يتم استصدار أي من تشريعات هذا المستوى إلا بعد موافقتها. لكن، إن حدث وكان هناك خلل ما في واحد من هذه القوانين والمراسيم فإن الخلل يكون (أصلاً) في التكييف (غير الموفق) للأسباب الموجبة من الجهات الحكومية التي اقترحت المسودة أو في رؤيتها أحادية الاتجاه للقضية الاقتصادية التي يفترض أن يعالجها القانون. وفي معظم الأحوال لا تكمن مشكلة التشريعات الاقتصادية في القوانين والمراسيم، بل بالتعليمات التنفيذية التي تصدرها الجهات الحكومية لهذه القوانين والمراسيم، وكذلك بالآلية (المشوهة أحياناً) لتطبيق هذه التعليمات، بل وتكمن المشكلة على الأخص بالعقلية الضيقة (والنفعية) لدى بعض صغار الموظفين في استخدام الآلية الصحيحة الموضوعية لتنفيذ التعليمات التنفيذية لهذه القوانين والمراسيم الاقتصادية (وكذا الأمر بالنسبة لغير الاقتصادية).

المستوى الثاني من التشريعات الاقتصادية ـ القرارات والتعليمات التي تصدرها رئاسة مجلس الوزراء والمجالس واللجان التابعة لها:

وهذه التشريعات تخضع (عادةً) لدراسة ورقابة حكومية عالية المستوى، ولا تصدر إلا بعد استمزاج آراء الجهات الحكومية ذات الصلة كافة، ولكن هذا لا يعني أنها كانت دائماً وأبداً صائبة وحققت الهدف من استصدارها، لسبب رئيس وهو أن آثار القرار الاقتصادي لها أوجه متعددة ولها ارتدادات وخلفيات قد تكون متناقضة، بمعنى أن التشريع وإن نجح في تحقيق الهدف الذي صدر من أجله، ولكنه قد يخلق آثاراً اقتصادية سلبية في جوانب أخرى (لم تكن محسوبة بدقة) و/أو ليس لها ذات المستوى من الأهمية الاقتصادية بالمقاربة مع الهدف الذي قصد تحقيقه.

أما المستوى الثالث من التشريعات الاقتصادية ـ فهو القرارات الوزارية والتعليمات التي تصدرها الوزارات والجهات الأدنى التابعة لها، وهنا تظهر (على الأغلب) التناقضات غير مدروسة الآثار والمشاكل غير محسوبة الأبعاد، ويحدث ذلك (بالواقع) لعدة أسباب أهمها:

إن إصدار وصياغة هذه القرارات و/أو التعليمات تتم عادةً بهدف معالجة مشكلة ما أ, حالة آنية حادة أو لإزالة معوقات معينة، فتكون هذه المعالجة بالتالي معالجة (كردة فعل)، وغالباً ما تكون أحادية الجانب من وجهة نظر (أو بناءً على خلفية فلسفية معينة ولكنها مختلفة لـ) الوزارة أو الجهة التي أصدرتها، وهنا يقع غالباً التعارض أو التناقض بين الأنظمة النافذة والصلاحيات والمصالح بين الجهة الحكومية والجهات الأخرى (حكومية و/أو خاصة)، وفعلاً كان قد حدث (كمثال) أن ضم أحد المدراء العامين (في وزارة الصناعة) صوته إلى صوت صناعيي القطاع الخاص ضد تشريعات أصدرتها وزارة الاقتصاد (بالسماح بالاستيراد) وأخرى تعتمدها وزارة المالية بخصوص الرسوم الجمركية، كما حدث (كمثال آخر) أن صرح أحد المدراء العامين (في وزارة المالية) بأن اللجان المشكلة (بهدف تقييم الواردات) من جهة حكومية أخرى «تخالف حتماً قانون الجمارك العامة»، أو كما صرح (كمثال ثالث) أحد المدراء التابعين لرئاسة مجلس الوزراء بأن «هناك من يطلق الرصاص على الاستثمار»، ويقصد بذلك (جهات حكومية أخرى)، وذلك بعد جاءه رد من إحدى الوزارات (بما معناه) أن لا علاقة لكم بوزارتنا، وهذا ما دفعه للقول بعدم «وجود قانون تشريعي واحد وواضح إلى جانب غياب المرجعية الواحدة للاستثمار في سورية». 

وخلاصة القول:

1. إن اتخاذ القرار الاقتصادي في سورية، وبفرض أنه لا تشوبه أية شائبة من منظار حسن النية، ليس دائماً بالمستوى النوعي المطلوب، فقد حدث كثيراً ومازال يحدث على أرض الواقع، أنه وإن ساهم هذا القرار بحل معضلة ما فهو يفتح النار على جبهات أخرى ليس أقل أهمية من الناحية الاقتصادية، وبالتالي لابد من إعطاء القرار الاقتصادي مزيداً من الاهتمام والجدية لجعله أكثر عقلانية ورشداً. وقد سعت رئاسة مجلس الوزراء لتغطية هذه الفجوة من خلال إحداث (مديرية دعم القرار)، والتي (تحير) القرار الاقتصادي أحياناً أكثر مما تدعمه، باعتبارها (من خلال ما تقوم بنشره من تقارير) تعرض الواقع أو الوضع الاقتصادي رقمياً (بشكل جيد)، إلا أنها لا تحلله ولا تعلق عليه كما يجب، فتصمت أحياناً عن ثغرات يجب التنويه إليها بينما الإيجابيات أينما وردت، وفي النهاية لا نقرأ لها ما قد يساعد في دعم القرار الاقتصادي.

2. يتم اتخاذ بعض القرارات الاقتصادية بشكل منفعل وليس فاعل، أي أنه يتخذ نتيجة ردة فعل (بضغط سلبي) وليس (كفعل) أو كمبادرة وشتان ما بين هاتين الحالتين.

3. إن اتخاذ القرار الاقتصادي يتطلب ويحتاج إلى عمل مؤسساتي حكومي، ينسى فيه الأطراف مصالحهم الوظيفية الضيقة، كما يحتاج إلى حس نقدي بالمسؤولية الوطنية (خارج إطار التفكير الفردي)، وبالتالي فهو (على الأقل يتطلب التنسيق بين الجهات الحكومية، وكذلك بينها وبين الجهات والتنظيمات والفعاليات الاقتصادية، حيث إن القرار الاقتصادي (وكما ذكرنا أعلاه) له دائماً أوجه متعددة وخلفيات مصلحية متناقضة. ففي مرحلة الإصلاح والتطوير والتحديث التي نعيشها، لم يعد مقبولاً اتخاذ قرارات توصف بأنها جيدة وإيجابية، ثم وبعد ساعات قليلة يتم الاكتشاف بأنها تعتريها الثغرات وتضعفها الاعتراضات. والمثال الـ(الأنموذج) على ما نقول هو القرار (الإيجابي) الذي اتخذته وزارة الاقتصاد بـ (حصر استيراد البضائع الصينية من الصين: بلد المنشأ)، والذي كان إيجابياً بما يصبو إليه (لمنع التلاعب بوثائق بلد المنشأ) ولكنه (وبالوقت ذاته) أهمل العديد من العوامل الهامة الأخرى المتعلقة بتأمين قطع التبديل اللازمة والضرورية لخطوط الإنتاج (من غير بلد المنشأ)، ولم يستثن المستوردات المتعلقة بقطاع المعلوماتية، أي أنه (تشريعياً) ساوىبين استيراد ألعاب الأطفال وبين استيراد أجهزة الحاسوب يعد قراراً اقتصادياً (جيداً) ولكنه (ناقص)، وكان يجب ألا يكون ذلك، وعلينا بالمستقبل التفكير ملياً بشكل شمولي وعميق وسليم ومتوازن قبل استصدار القرار الاقتصادي.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الإثنين, 01 آب/أغسطس 2016 13:32