الثلاثاء الاقتصادي يبحث السياسات الاقتصادية السورية في ظل الأزمة العالمية
تستمر جمعية العلوم الاقتصادية السورية باستضافة الباحثين الاقتصاديين لإبداء وجهات نظرهم حول الأزمة المالية ـ الاقتصادية العالمية، أسبابها، تداعياتها، وآفاق سيرها وانعكاسات تطوراتها المحتملة على الاقتصاد السوري، سواء من الارتدادات الخارجية المتوقعة أم من السياسات الداخلية المتبعة. وكان ضيفا الثلاثاء الأخير 24/3/2009 كل من الدكاترة زياد زنبوعة ونبيل مرزوق اللذان قدما على التوالي بحثين تحت عنوان مشترك «السياسات الاقتصادية في سورية في ضوء الأزمة الاقتصادية الراهنة»..
د. زنبوعة: لابد من نفض السجادة بكاملها بدلاً من ترقيعها!
• بدأ د. زياد زنبوعة بحثه بالإشارة إلى أن سورية تعاني أزمتين: الأولى هي ما تسرب إلى اقتصادنا جراء الأزمة العالمية؛ والثانية هي عدم امتلاك معلومات عن جوانب التأثر ومداه جراء هذه الأزمة. وأكد أنه من اللازم قبل التحدث عن السياسة الاقتصادية في سورية البدء بتحديد الاستراتيجية الاقتصادية في سورية، وهنا أشار د. زنبوعة إلى أن المسؤولين الاقتصاديين يتحدثون عن استراتيجيات كثيرة خلال تنفيذهم للخطط، منبهاً من أن ذلك يعني قيامهم بالخلط بين الخطط التنفيذية متوسطة الأمد وبين الاستراتيجيات، وأوضح الباحث عن اعتقاده بأن لدى سورية استراتيجيةً اقتصادية واحدة هي «نقل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد السوق الاجتماعي بحسب ما أقرته القيادة السياسية»، منوهاً إلى أن اعتبار الانتقال إلى اقتصاد السوق هو الاستراتيجية الاقتصادية السورية، يتطلب تهيئة كل متطلبات ذلك إلى جانب التحضر لكل منعكساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية الثقافية، وعلى اعتبار ذلك الاستراتيجية الاقتصادية الوطنية فإنه لابد من توافقها مع الاستراتيجية العامة للدولة «وأقصد هنا دستور الدولة الذي يحدد نظامها السياسي ـ الاقتصادي ـ الاجتماعي» وهنا تساءل د. زنبوعة: «هل هناك مثل هذا التوافق؟» ليجيب «إذا تصفحنا الدستور الصادر بالمرسوم رقم 208 تاريخ 13/3/1973 فإننا سنقرأ العبارات التالية:
ـ لا تكاد صفحة من صفحات الدستور تخلو من تكرار كلمة الاشتراكية بحيث يمكن اعتبارها كلمةً مفتاحيةً بامتياز.
ـ ص5: تحقيق.. الاشتراكية..
ـ ص6: حزب البعث العربي الاشتراكي.
ـ ص7: إقامة النظام الاشتراكي.
ـ ص11: الجمهورية العربية السورية دولة.. اشتراكية.
ـ ص12: حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة.
ـ ص13: الاقتصاد في الدولة اقتصاد اشتراكي مخطط.
ـ ص13: أنواع الملكية هي: ملكية الشعب، الملكية الجماعية، الملكية الفردية.
ـ ص15: يهدف نظام التعليم والثقافة إلى إنشاء جيل عربي قومي اشتراكي».
واستنتج المحاضر أن ذلك يبين مدى التعارض بين استراتيجة الدولة العامة والاستراتيجية الاقتصادية فيها، متسائلاً: «من يجب أن يتغير؟».
وتعرض الباحث للأزمة العالمية شارحاً بعض أسبابها مع ومقدماً لبعض مؤشراتها، وسعى عبر ذلك إلى توضيح ثلاث نقاط هي: بيان وتأكيد عمق وشمول الأزمة وخطورتها؛ وبيان ضرورة الشفافية لدى معظم الدول وضرورة نشر البيانات حرصاً على تشخيص الأزمة لتسهيل المعالجة الاقتصادية لها؛ وبيان تقصير الحكومة السورية الكبير في موضوع المعلومات والبيانات، والذي يرى الباحث أن له تفسيران فقط: إما انعدام البيانات الإحصائية وتقصير الإدارات في توفيرها بالوقت المناسب، وإما انعدام الشفافية والتعتيم على المشكلة وطمر الرأس في الرمل.
وعن هيكلية الاقتصاد السوري في مواجهة الأزمة رأى د. زنبوعة أن الجزء الأكبر من النمو الاقتصادي المحقق خلال السنوات الأربع الماضية كان في القطاع المالي وتحديداً في قطاع المصارف، و«إذا أضفنا إلى ذلك ارتفاع أسعار النفظ خلال العامين المنصرمين بشكل كبير، لعرفنا جوهر النمو الاقتصادي الذي نتغنى به»، وتابع الباحث تشخيص الهيكلية العامة للاقتصاد وصولاً إلى استنتاج أن «هيكلية اقتصادنا ليست على ما يرام، وما نتفاخر به بأن اقتصادنا لم يتأثر كثيراً بالأزمة المالية العالمية لأنه طبيعي، هو مجرد وهم، فالأصح القول إن اقتصادنا بالفعل ليس «نقدياً» بالشكر المطلوب ولكنه أيضاً اقتصاد بدائي متخلف، والسبب يكمن (حسب د. زنبوعة) في السياسات الاقتصادية غير المثالية والتي تقوم على مبدأ سد الثغرات، ولكن بعد أن تكون الهوة قد اتسعت، والخرقة قد بليت فلم يعد يصلح لها الترقيع ولابد من نفض السجادة بكاملها بدلاً من ترقيعها».
وأسهب د. زنبوعة في عرض السياسات الاقتصادية السورية عبر تبويبها إلى مالية، نقدية، تجارية، وسعرية، مقدماً اقتراحات لتطوير كل من أبوابها على حدى وصولاً إلى اقتراحات إجمالية تتلخص في القضاء على الفساد، والتركيز على أهمية التطوير الإداري ومحاربة البيروقراطية، وتعزيز الشفافية ووضوح القوانين والتعليمات الناظمة لعمل المؤسسات، وتحسين الخدمات المقدمة للمواطن من صحية واجتماعية وثقافية..الخ، وإدخال مفاهيم الجودة في مؤسسات الدولة.
د. مرزوق: أين الجانب الاجتماعي من «اقتصاد السوق»؟
• د. نبيل مرزوق بدوره بدأ تقديم بحثه بالتشديد على ضرورة التوافق حول فهم أسباب الأزمة العالمية الحقيقية وتحديد سبل معالجتها قبل الشروع في تبيان منعكساتها المتوقعة على البلدان النامية وعلى سورية، وتحديد الإجراءات التي اتخذتها الحكومة السورية للحد من الآثار السلبية المتوقعة. وأوضح د. مرزوق أن بعض الدول الأوروبية ترى أن سبب الأزمة الرئيسي يعود إلى نموذج «الليبرالية الاقتصادية» الأمريكي القائم على الحرية المطلقة للأسواق ورأس المال، وأن هذه الدول «إذ تطالب بإعادة فرض بعض الضوابط على حركة الرساميل والأسواق، وباستعادة دور فاعل للدولة في الرقابة والتدخل التصحيحي، فإنها توجه بشكل غير مباشر إدانةً للتوجه الليبرالي الذي ساد منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضي»، وفي الوقت نفسه (يتابع د. مرزوق) تحاول الولايات المتحدة حصر الأسباب في سوء إدارة المؤسسات والأسواق وفساد بعضها وفي نقص السيولة نتيجة التباطؤ الدوري في النشاط الاقتصادي والإنتاجي..
وبعد عرضه لمظاهر الأزمة وتداعياتها على الصعيد العالمي والتوقعات بالنسبة للدول النامية، وإسهابه في توضيح جذور الأزمة وأبعادها الاقتصادية والاجتماعية التاريخية، خلص د. مرزوق إلى أن الليبرالية الجديدة قد فشلت حتى الآن في تحقيق خرق على مستوى مسارات العولمة المختلفة الإنتاجية والتكنولوجية والاجتماعية، وقادت النظام الرأسمالي إلى مزيد من التمركز والتركز في الثروة ما أدى إلى تزايد الفقر والحرمان في مجتمعات عديدة بما فيها مجتمعات الدول الرأسمالية المتطورة، كما أدى إلى اندلاع النزاعات والحروب الأهلية في أكثر من بلد نام، ويتضح من الأزمة الحالية أن الحرية المطلقة للأسواق ورأس المال قد جعلت النظام المالي العالمي كازينو للمضاربين وقناصي الفرص على حساب المجتمعات والدول، وهنا تساءل د. مرزوق «ما هي الفوائد التي يمكن أن تنتظرها الدول النامية ومنها سورية من اعتناقها الأيديولوجية الليبرالية الاقتصادية الجديدة؟».
وعن السياسات الاقتصادية المتبعة في سورية قدم د. مرزوق موجزاً تاريخياً للاقتصاد السوري منذ البدء بتطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي المتدرج عام 1986 بناءً على توصيات صندوق النقد الدولي في حزمة ما يسمى سياسات التثبيت الهيكلي التي تمثلت بتقليص الإنفاق العام وتقليص الدعم الاستهلاكي، وتجميد الأجور، ووقف التعيين في الدولة والقطاع العام إلا على شاغر، ووقف التوسع في القطاع العام الإنتاجي..الخ، مقابل إعطاء القطاع الخاص فرصة الدخول والاستثمار في صناعات كانت حكراً على الدولة..الخ، وأوضح الباحث أن تطبيق هذه الحزمة بيَّن أن الاستثمار الكلي قد تراجع بدرجة كبيرة لعدم إقبال القطاع الخاص على الاستثمار لتعوض غياب الاستثمارات العامة، الأمر الذي أدى إلى بروز مشكلة البطالة وتفاقمها واستمرار حالة الركود الاقتصادي، وبالنتيجة لم يحقق الاقتصاد الوطني نمواً مناسباً ومستقراً، ما انعكس على القدرة الكلية للاقتصاد السوري في إيجاد فرص عمل وفي تحسين المستوى المعاشي للفئات الأوسع من المجتمع، في حين بدأت تتفاقم التفاوتات في توزيع الدخل وانقسام المجتمع إلى فئتين: فقيرة واسعة؛ وغنية ضيقة. وتابع د. مرزوق أنه مع بداية الألفية الجديدة طرحت من جديد أولوية الإصلاح الاقتصادي وضرورته لمواجهة التحديات الداخلية من زيادة سكانية وبطالة وفقر.. والخارجية المتمثلة بفتح الأسواق والتطور الهائل في مستوى الإنتاج والتقانة وتعاظم القدرة التنافسية للشركاء التجاريين لسورية، وصولاً إلى التحديات المتعلقة بالأمن الوطني والسيادة المتمثلة بالضغوط والتهديدات الأمريكية والإسرائيلية.. ومع ذلك «فإن الإصلاحات المطلوبة مازالت موضع نقاش وخلاف حول الأولويات، ورغم تصريحات بعض المسؤولين في الحكومة عن وجود برنامج إصلاح، إلا أن هذا البرنامج لم يعلن على المواطنين حتى الآن، وتم الإعلان فقط عن التحول إلى «اقتصاد السوق الاجتماعي» دون تحديد مضمونه وأبعاده، ولم يلمس المواطنون الجانب الاجتماعي منه وتكرس السوق بمعناه الحر والمتحرر من الضوابط والقيود عبر العديد من القرارات والإجراءات التي من شأنها تكريس أزمات الاقتصاد الوطني وزيادة حدة تناقضاته».
وأنهى د. مرزوق بحثه بالإشارة إلى أن «الأزمة الأخيرة في النظام الاقتصادي العالمي بينت أن مسار الليبرالية الاقتصادية وحيد الرؤية، قاد النظام (كله) إلى مأزق سوف تدفع ثمنه المجتمعات من رفاهها واستقرارها الكثير، وما تخبئه الأزمة للدول النامية- التي ستتحمل على حسابها وعلى حساب أمن مجتمعاتها جزءاً من استعادة الاستقرار واستئناف النشاط والنمو-، يتطلب سياسةً أخرى ورؤية وطنية لإمكانات النمو والتقدم التي تتيحها استراتيجية تنمية متجهة نحو الداخل معتمدةً على قوى المجتمع ومنتجيه، والتجارب الناجحة اليوم في دول أمريكا اللاتينية تبين أن ذلك ممكن كما أنه ممكن أن تتخذ العولمة مساراً آخر باتجاه مصلحة الشعوب ورقيها، وما سوف تسفر عنه الأزمة الحالية قد يكون في هذا الاتجاه».