كيف يُصنع القرار الاقتصادي في سورية؟
لاشك أن فتح ملف (كيف يُصنع القرار الاقتصادي في سورية) استطاع أن يقدّم بعض الأجوبة على عدد من الأسئلة الهامة في الشأن الاقتصادي – الاجتماعي الوطني، ولكن تبقى هناك أسئلة لا تقل أهمية وعمقاً دون أجوبة، وهذا ما سوف نسعى للإجابة عليه في ملفات قادمة.. أما ونحن نقلب أواخر صفحات الملف الحالي، فقد التقينا كلاً من د. نبيل مرزوق الاقتصادي المعروف، والنقابي نزار ديب عضو مجلس الاتحاد العام لنقابات العمال.. وكان لنا معهما الحواران التاليان..
د. نبيل مرزوق:
هناك عدة جهات تضغط على القرار الاقتصادي فتعيد توجيهه
• كيف تتم عملية صناعة القرار الاقتصادي في سورية؟ وما هي الموجبات التي يراعيها مصدر القرار قبل اتخاذ القرار؟
نحن في سورية، شأننا شأن بقية دول العالم لدينا دستور، وهناك جهات ومؤسسات وهيئات توكل إليها مهام محددة في إطار الدستور، ومن المفترض أن يتم اتخاذ القرار في هذه الهيئات كونها تشكل المرجعية القانونية في البلاد. هذه الجهات هي المسؤولة عن اتخاذ القرار.. هذا من الناحية النظرية العامة، وبالمقابل يقر الدستور بدور متميز لحزب البعث العربي الاشتراكي، وهذا يجري تجليه بالدور المتميز للقيادة القطرية في صناعة القرار وفي توجيهه بشكل عام على مستوى البلاد، ولذلك تم حصر جزء هام من القرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في إطار هذه القيادة. أيضاً فإن إقامة الجبهة الوطنية التقدمية في سورية، أعطاها الفرصة لتكون المرجعية العليا لاتخاذ القرارات في شتى المجالات وعلى الأصعدة كافة.
• هذا هو الحال واقعياً، أم أنه افتراضي نظري؟
هذا يمكن أن نراه من الناحيتين النظرية والعملية، فهناك دور مباشر للقيادة القطرية وبعض أعضائها في القرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وتتم ممارسة هذا الدور بصورة عملية، فلهذه الجهة الرأي المرجعي في كل ما يتعلق بشؤون البلاد، فهي التي تسمي الحكومة والوزراء، وهي التي تتخذ القرارات العليا وتعيّن الإدارات وضباط الجيش.. إلخ..، إذاً هي تمتلك دوراً استثنائياً وخاصاً، ربما ليس لجميع أعضائها، قد يكون لعدد محدد منهم.
ولكن أيضاً من الناحية العملية، هناك عدة مرجعيات تتدخل وتقوم بدورها في تشكيل نوع من الضغط ونوع من التوجيه للقرار بشكل غير مباشر، ومثال ذلك ما تمارسه بعض الجهات الداخلية مثل غرف الصناعة والتجارة واتحاد نقابات العمال والمؤسسات الكبرى في الدولة، حيث يمكن أن يكون لها دور الرأي المرجح والهام في التأثير على القرار واتخاذه، وفي الفترة الأخيرة ظهرت آلية فساد نمت وتطورت في البلاد، سمحت بوصول بعض الأفراد عبر شبكات فساد إلى موقع التأثير على القرار الاقتصادي والاجتماعي.
• إذاً هذا ما يتعلق بالقرار وصانعيه، لكن في مسألة تقديم الاقتراحات والتصورات والتمهيد لصياغة هذا القرار، ما هي العوامل والعناصر المؤثرة؟
العوامل الممهدة والمراعاة، مرتبطة بالمصالح العامة، وبميزان القوى الاجتماعية المختلفة في البلاد، وبمصالح قوى داخلية وخارجية، وأحياناً هناك تأثير لشركات كبرى تابعة لدول معينة، والتي تؤكَّد بشكل غير مباشر عبر أشخاص معينين ترتبط مصالحهم بمصالح هذه الشركات.
• والمؤسسات الدولية المختلفة؟ هل تشكل عاملاً ضاغطاً على صناعة القرار الاقتصادي؟
في حال كان المرجع هو الدستور، وهو ما ظل سائداً فترة طويلة، لن تستطيع هذه المؤسسات أو سواها أن تلعب أي دور في التأثير على القرار الوطني، لكن من خلال شبكة المصالح والارتباطات الناشئة حديثاً بدأنا نلحظ أنها تؤثر تأثيراً غير مباشر عبر أناس معينين يمكن أن يكونوا على مقربة من موقع القرار.. علماً أن سورية ظلت تتميز بموقفها الخاص من قرارات وتوصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ورفضت كل البرامج والتوصيات التي اقترحت عليها خلال الفترة الماضية، ورأت فيها إملاءات وشروطاً، وتم اتخاذ موقف منها، وبالتالي رفضها، أما الآن فما يحدث هو محاولة استرجاع لدور هذه المؤسسات ومحاولة الاستشهاد بدورها الكبير، وبالتالي الأخذ بنصائحها وتوجيهاتها وآرائها وتطبيقها مباشرة في الاقتصاد، ولكن هذا يتم عبر مجموعة من المسؤولين ومجموعة التشابكات في المصالح ورغبة لدى البعض في السير بهذا الاتجاه.
• في المحصلة وبشكل مجمل، من خدمت حزمة القرارات والإجراءات الاقتصادية الأخيرة التي اتخذت خاصة بعد الانتقال إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، وما هي الآثار التي نتجت عنها اقتصادياً واجتماعياً؟
من المعروف أن المؤتمر القطري العاشر اتخذ قراراً بالتوجه نحو اقتصاد السوق الاجتماعي، لكن هذا القرار لم ترافقه آليات تنفيذ وقرارات تنفيذية مناسبة، ولم يتم تحديد ملامح هذا السوق وتحديد أبعاده بشكل صحيح وواضح، كما غابت عنه سلة التشريعات والقرارات اللازمة للبدء بتنفيذه كما كان متصوراً له، مما أتاح المجال عملياً للإجراءات والخطوات التي تمت لاحقاً لتمضي باتجاه خدمة آلية السوق وحريته، متجاهلة السعي لبناء اقتصاد سوق اجتماعي، وسبب هذه المشكلة أنه لم يتم تحديد مرجعية واضحة ومحددة لطبيعة هذا الاقتصاد (الاجتماعي). كما أن عدم محاسبة الجهاز التنفيذي على نتائج هذه التوجهات سمح بمزيد من القرارات والإجراءات ذات التوجه نفسه، أي نحو السوق وتحريره فقط، دون الالتفات إلى مسألة الجانب الاجتماعي في اقتصاد السوق.
• بعد كل هذا التخبط، ألا ترى أننا بتنا في مواجهة أزمة اقتصادية حقيقية في سورية؟
الحقيقة أن هناك تأثيرات واضحة للأزمة الاقتصادية العالمية على سورية، تتزامن مع السياسات الاقتصادية السائدة عندنا، حيث بدأنا نلاحظ تداعيات هذه التأثيرات الأولية سواء بالنسبة للتصدير أو التحويلات الخارجية أو فرص العمل المتاحة ونسب البطالة، أو بالنسبة للاستثمار الخارجي الأجنبي... إذاً لقد بدأت بالبروز في بلدنا جملة من المظاهر السلبية، يمكن من خلالها تلمس بوادر آثار أزمة نعيشها، والحقيقة أن هذه المظاهر سرعان ما ستنعكس بشكل أوسع وبصورة أوضح على الاقتصاد الوطني في الفترة القادمة.
نزار ديب:
القرار الاقتصادي يحقق مصالح طبقة معينة.. ولا يمكن لغني أن يخدم فقيراً!!
والتقت قاسيون النقابي المعروف نزار ديب عضو مجلس الاتحاد العام لنقابات العمال، وسألته عن تصوره للكيفية التي تتم من خلالها صناعة القرار الاقتصادي في سورية.. وفي مصلحة من صبت مجمل السياسات التي تنتهجها الحكومة، فأجاب:
«إن أي قرار اقتصادي يأتي نتيجة صراع مصالح طبقات، ليخدم طبقة معينة. ويمكن أن يأتي القرار توافقياً يحقق مصالح طبقات محددة مختلفة.. وبالنسبة لما يجري في سورية فهو أن الاتجاه الليبرالي يسعى جاهداً للاستئثار بالقرار الاقتصادي، وهذا الاتجاه مصالحه مرتبطة وتابعة للمصالح الخارجية، لذلك نرى أنه تلميذ نجيب ويستجيب لتوجيهات وإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية. ويأتي الموقف السياسي للقيادة السياسية الذي يقف في الضفة الأخرى لهذا الاتجاه، من خلال تأكيده على دعم القطاع العام وتطويره، وقيادته للاقتصاد، ومحاولة إصدار قوانين وتشريعات مثل قانون إصلاح القطاع العام الصناعي وكل السبل التي تسعى إلى تحسين الوضع المعاشي والمعيشي لجماهير الشعب، ويسانده في ذلك كل القوى التقدمية والوطنية والاتحاد العام لنقابات العمال. غير أن الفريق الاقتصادي في الحكومة يراوغ بهذا الموضوع بحجة أنه ينفذ قرارات المؤتمر القطري العاشر، ولكنه في الحقيقة، يعرقل هذه القرارات، وعلى سبيل المثال، هو يدّعي أنه مع القطاع العام، لكنه من ناحية أخرى يعيق قانون إصلاح القطاع العام الصناعي، ولم يكتف بذلك بل أوقف العديد من المعامل بحجة أنها متعثرة، وطرح الكثير منها إلى الاستثمار بصيغته التضليلية تمهيداً للخصخصة، ولم يقف عند ذلك بل طرح المرافئ السورية للاستثمار..
وماذا بعد؟ هل سيطرح الفريق الاقتصادي الخطوط الحديدية والمطارات والطاقة وكل شيء لا يخدم بنتائجه الغالبية العظمى لجماهير الشعب الكادح للاستثمار أيضاً؟
إذا كانت الحكومة وفريقها الاقتصادي تدعي أن مثل هذه الإجراءات تنعكس إيجابياً على الجماهير، فليجر استفتاء على ذلك ليعلم مدى رفض الناس لهذه الإجراءات. أنا أعتقد أن النتيجة الحتمية لهذه السياسات تمثل وتخدم طبقة رأسمالية قليلة ينسجم نهجها مع نهج الرأسمال الخارجي والمصالح المشتركة لكل منهما، وبالتالي المصالح المشتركة للرأسمالية هي التي تصنع القرار عندما يتاح لها ذلك، وعندما تستطيع التفرد بالقرار الاقتصادي ستسعى لصنع القرار السياسي، لأن السياسة هي انعكاس للبناء التحتي الاقتصادي.
وإثباتا على ذلك نتساءل: ما هو تبرير الهجوم الذي يقوم به الفريق الاقتصادي في الحكومة لتعديل قانون العمل وإلغاء المرسوم 49، وإلغاء لجان قضايا التسريح، وإقرار العقد شريعة المتعاقدين؟؟ أليس كل ذلك لخدمة الرأسماليين؟؟.
من جهة أخرى، أرى أن الهجوم على قانون التأمينات الاجتماعية بحجة تعديله بما يخدم الاستثمار، يأتي عملياً انسجاماً وإخلاصاً لتوجهات صندوق النقد والبنك الدوليين اللذين يشاركان علناً بمحاولة صنع القرار الاقتصادي السوري.
لماذا لا تكون الصناعة الوطنية بشقيها العام والخاص محمية من الدولة؟ الحكومة تقول إنها تريد التنمية، لكنها من جهة أخرى ترفع أسعار المحروقات!! أليس ارتفاع سعر المحروقات يؤثر على ارتفاع سعر المنتج، وبالتالي فهو يؤثر سلباً على الزراعة؟.
عندما طرح موضوع إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، اتخذ قرار إعادة الإعمار هذا بأسعار طاقة رخيصة لتسهيل عملية البناء والتنمية، وفي الضفة الأخرى، السياسية والإيديولوجية، كان الأمر مماثلاً، فقد سار الاتحاد السوفييتي في الاتجاه ذاته، أي أن النظامين الرأسمالي والاشتراكي أخذا بسياسة سعرية لطاقة رخيصة ومدعومة من الحكومات..
وخلاصة القول: إن القرار الاقتصادي عامة، يحقق المصالح الاقتصادية لطبقة معينة، ولا يمكن لغني أن يخدم فقيراً.
وكما قال الأمام علي: «ما افتقر فقير إلا بغنى غني، وإن لكل فقير حقاً في مال الغني»..