أسعار العقارات تحلق.. والرواتب الأجور تعجز عن الحراك
أدى التغييب المقصود لأي دور تدخلي للحكومة السورية، إن لم نقل في أسوأ الأحوال الرقابي على القطاع العقاري، إلى انفلات باب التسعير حسب المزاج والمضاربة، والذي أدى بدوره إلى تحليق أسعار العقارات متجاوزة مثيلاتها في معظم الدول العربية والشرق الأوسط، بل إن أسعار العقارات عندنا دخلت مجال المنافسة العالمية من أوسع الأبواب، حيث بينت دراسة لمؤسسة كوشمان و ويكفيلد المتخصصة بمتابعة أسعار العقارات حول العالم تربع العاصمة السورية دمشق عرش المرتبة الثامنة عالمياً بترتيب غلاء أسعار العقارات للعام الثاني على التوالي ضمن قائمة المدن العشرة الأغلى في العالم، لتسبقها حسب الترتيب كل من مدينة هونغ كونغ، طوكيو، لندن، دبي، باريس، موسكو، مومباي، وتفوقت دمشق بترتيب غلاء أسعار العقارات على نيويورك وسنغافورة في القائمة ذاتها.
الأزمة الاقتصادية العالمية التي هزت أركان أكبر الاقتصاديات في العالم عجزت عن تخفيض أسعار العقارات لدينا، وكذلك وقف الركود الذي تشهده أسواق العقارات السورية لضعف السيولة – هو الآخر راضخاً أمام ارتفاع أسعار عقاراتنا، وأدى للجوء الشعب السوري إلى الجمعيات أو الاستدانة من البنوك العامة والخاصة بقروض فاحشة الأرباح لتأمين منزل العمر، وهذا ما طرح باب التساؤلات حول الأسباب الحقيقية التي تقف وراء ارتفاع أسعار العقارات في ظل واقع اقتصادي ضعيف وسيولة شحيحة؟! حيث إن ارتفاع أسعار أدى لظهور العديد من المنعكسات السلبية، وتمثل أهمها بتأخير سن الزواج وتراجع نسبه، وهذا ما أكدته دراسة أردنية أشارت إلى احتلال سورية المرتبة الثانية عربياً بعد العراق بنسبة عنوسة وسطية تصل إلى 55%، بفارق ضعف أو ضعفين عن النسب ذاتها في معظم الدول العربية الأخرى.
وللتأكيد والبرهان على حجم الكارثة التي يعيشها الشعب السوري بغالبيته مع هذه الأسعار الجنونية للعقارات، كان لا بد من المقارنة الضرورية والفاضحة في آن واحد بين مستوى دخل الفرد وحصته في الناتج المحلي الإجمالي في كل دولة من هذا الدول العشرة، وبين حصة المواطن السوري من الناتج المحلي الإجمالي ومتوسط الأجور التي يتقاضاها، على الرغم من معرفتنا بان الفساد، والتوزيع غير العادل للثروة يقف حاجزاً في وجه وصول جزء كبير من هذا الناتج إلى مستحقيه الفعليين.
تبين أرقام تقرير التنمية البشرية لعام 2009 حجم الفجوة والهوة بين حصة الفرد السوري من الناتج الإجمالي مقارنة بباقي البلدان التي اصطفت معه في قائمة العشر الأغلى عالمياً بأسعار العقارات، حيث إن حصة الفرد في هونغ كونغ من الناتج المحلي الإجمالي تفوق حصة الفرد السوري بـ9,7 ضعف، وحصة الياباني تتفوق بـ7 أضعاف، والبريطاني 7,8 ضعف، والإماراتي يزيدنا بـ12,1 ضعف، والفرنسي يزيد الفرد عندنا بـ 7,5 ضعف، أما في روسيا التي تعد الأقل بين هذه الدول في حجم الناتج المحلي الإجمالي، تتفوق حصة الفرد لديها بمقدار 3,2 ضعف مقارنة بحصة الفرد السوري من الناتج المحلي الإجمالي. أما بالنسبة للولايات المتحدة وسنغافورة اللتين حلتا في المرتبة التاسعة والعاشرة بعد سورية في قائمة أسعار العقارات، فإننا نجد أن حصة الفرد الأمريكي من الناتج المحلي الإجمالي تفوق حصة الفرد السوري بعشرة أضعاف، فيما تفوق هذه الحصة في سنغافورة 11 ضعفاً.
أما إذا اعتبر البعض أن حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لا تعد مقياساً دقيقا، فإننا سنأخذ العلاقة بين هذه الدول العشر مقارنة مع سورية من زاوية الرواتب والأجور، حيث إن الحد الأدنى للأجور في الاتحاد الأوربي 1200 يورو (72 ألف ليرة سورية)، بينما الحد الأدنى للأجور في سورية هو 6010 ل.س، أي أن الفارق بين الحد الأدنى لأجورهم وأجورنا يبلغ حوالي 12 ضعفاً.
وحسب الأرقام الصادرة عن مؤسسة «هانس بوكلر» في دوسلدروف الألمانية المتخصصة في مجال الأجور نجد أن معدل الحد الأدنى للأجور في الاتحاد الأوربي يزيد عن 8 يورو في الساعة (480 ل.س)، أي أن الفرد الأوربي الذي يعمل لمدة 23 ساعة في الشهر يحصل على متوسط الأجر الشهري الذي بتقاضاه الموظف السوري في القطاع العام والخاص والمقدر بـ 11 ألف ليرة سورية حسب أرقام المكتب المركزي للإحصاء 2009، أما إذا أراد الأوربي الحصول على الحد الأدنى للأجور لدينا فإنه بحاجة لـ12,5 ساعة عمل في الشهر فقط، أي يومي عمل في أسوأ الأحوال.
وبالاعتماد على الدراسة الألمانية، فإن معدل الحد الأدنى للأجور في فرنسا التي حلت خامساً ضمن القائمة، يبلغ 8,82 يورو في الساعة (529 ل.س)، أي أن الفرنسي إذا عمل لمدة 21 ساعة شهرياً فإنه سيحصل على متوسط الأجر الشهري للمواطن السوري، بينما لا يعمل المواطن الفرنسي سوى 11 ساعة إذا أراد الحصول على الحد الأدنى للأجر الشهري للسوريين، وبالانتقال إلى بريطانيا التي حلت في المرتبة الثالثة بغلاء الأسعار، فإن الحد الأدنى للأجور يبلغ فيها 6,45 يورو في الساعة (387 ل.س)، فأن الفرد البريطاني عندما يعمل لـ 28,5 ساعة شهرياً يحصل مقابلها على متوسط رواتب العاملين لدينا خلال شهر كامل، أما إذا عمل لمدة 15,5 ساعة في الشهر فإنه سيحصل على الحد الأدنى من الأجور التي يتقاضاه العاملون في سورية، وهذا يوصلنا إلى أن دخل المواطن الأوربي وفقاً لساعات العمل يفوق الدخل الشهري للمواطن السوري بعشرين ضعفاً، ومع ذلك أسعار عقاراتنا متشابهة..!!
وبالانتقال إلى دبي التي حلت في المرتبة الرابعة بغلاء أسعار العقارات عالمياً، يبلغ فيها متوسط الدخل الشهري للأسرة الإماراتية – 12 شخصاً- نحو 11,532 دولار أمريكي (530 ألف ليرة سورية)، وذلك وفقا للنتائج النهائية لمسح دخل وإنفاق الأسر في الدولة لعامي 2007-2008 الصادر عن المركز الوطني للإحصاء، في الوقت الذي لا يتجاوز فيه متوسط دخل الأسرة السورية المحظوظة ـ تمتلك معيلين ـ بين 30 ـ 40 ألف ليرة سورية شهرياً، أي أن الفارق بين دخل الأسرة السورية والإماراتية هو 18 ضعفاً.
فلن نقول للحكومة: هل من العدل والمنطق أن تكون أسعار العقارات لدينا مساوية لأسعار العقارات في قائمة المدن العشر الأغلى عالمياً بأسعار العقارات، والتي تتفوق فيها حصة الفرد عشرة أضعاف مقارنة بحصة الفرد السوري من الناتج الإجمالي، ودخلهم يفوق دخلنا بـ 15 اضعفاً؟! ولن نسألهم إلى متى سيبقى هذا الانفلات والاحتكار المرسخ من بعض التجار للسوق العقاري؟! فالأرقام تفضح وتقول ما تعجز الكلمات والجمل عن البوح به، لأنها عبرت عن مأساة المجتمع السوري، ولهاثه وراء تأمين منزل يأويه دون جدوى..