الزراعة تتراجع بالمؤشرات كافة ... والحكومة تصّر على تجريدها من الدعم!

الأوربيون، وعلى الرغم من تقدمهم الصناعي، ما يزالون يعتمدون على الزراعة، ولم يمنع تقدمهم الصناعي من العناية بالزراعة، وإيلائها الدعم والمكانة المناسبين، لا بل إننا كثيراً ما نلجأ للمقارنة بين حجم دعمهم للزراعة لتبيان طبيعة الفجوة مقارنة بالدعم المتراجع لقطاعنا الزراعي، فالإحصاءات تشير إلى أن أكثر من نصف الأراضي الأوروبية تُستغل في الزراعة، كما يفوق عدد المشتغلين فيها عدد العاملين في أي نشاط اقتصادي آخر، إذ يعمل أكثر من 15% من الأوروبيين في القطاع الزراعي، وهذا خلق واقعاً يتصف بأن الأوروبيين ينتجون معظم المواد الغذائية التي يحتاجونها محلياً، إذ لا تستورد القارة أكثر من نحو خمس المواد الغذائية، أي أن ما يميز القارة الأوروبية اليوم هو اكتفاؤها الذاتي من كافة السلع الإستراتيجية، مما جعلها بمنأى عن الحاجة لغيرها، ففي دول الاتحاد الأوروبي عموماً يحصل مزارع القطن على سعر أعلى مرتين من السعر العالمي، وحتى في فترات السعر المرتفع يأخذ منتجو القطن الأوروبيون دعماً من الحكومة.

وقد يحاول البعض التغطية على أخطاء الفريق الحكومي بالقول، إن الاتحاد الأوروبي يتكون من 27 دولة، وهذا يعطيه هامشاً كبيراً في تحقيق الاكتفاء الذاتي، لتنوع مناطقه المناخية، وبالتالي تنوع زراعاته، ولكن، ألا يمكن حقاً تطبيق هذا النموذج لدينا؟! فإذا كنا قد حققنا الاكتفاء الذاتي من القمح مثلاً في العام 1994 لنبدأ بالتصدير بعد عامين أي في العام 1996، فهل من المنطق القبول بالرجوع للوراء، والركون للاستيراد خلال الأعوام الثلاثة الماضية وبكميات كبيرة؟! ألا يضع ذلك علامات استفهام كبرى حول حقيقة الأزمة التي يعيشها القطاع الزراعي في سورية والأسباب التي أدت لتراجعه؟!.

وبالرجوع إلى واقع الزراعة السورية، نجد أن أحدث الأرقام الإحصائية تشير إلى تراجع مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي إلى 14.5%، وكذلك تراجع مساحات الأراضي المزروعة إلى 24,9 بالمئة حسب ميزان استعمالات الأراضي الصادر بالمجموعة الإحصائية للعام 2008، وكذلك تراجعت نسبة الأراضي القابلة للزراعة إلى 33 بالمئة من إجمالي مساحة القطر، وانخفاض قوة العمل في القطاع الزراعي خلال السنوات العشر الماضية من 24% إلى 18%، والذي هو نتيجة وسبب في الوقت عينه لتراجع حجم الإنتاج الزراعي بالكمية وبالقيمة المطلقة، وهذا ما برر تراجع مساهمة القطاع الزراعي في الميزان التجاري من 20% إلى 13% اليوم. وعلى الرغم من التراجع الواضح للقطاع الزراعي بكافة المؤشرات، إلا أن بعض الأوساط الحكومية اعترضت على زيادة نسبة النمو المقترحة للقطاع الزراعي في الخطة الخمسية الحادية عشرة، والتي تبلغ 2 %.

فانخفاض دخول العاملين في القطاع الزراعي بنتيجة ارتفاع أسعار مدخلات ومستلزمات الإنتاج الزراعي أدى لتراجع هذا القطاع، كما انعكست الظروف المناخية سلباً على الإنتاج الزراعي أيضاً. إذاً، فأسباب التراجع متنوعة ومتشعبة، ولا يمكن حصر مسؤوليتها عند جهة بعينها، ولكن هذا لا يعفي بكل الأحوال الحكومة من مسؤوليتها تجاه هذا القطاع الاستراتيجي الذي شكل ولفترة طويلة ربع الناتج المحلي الإجمالي في سورية، فهل تساءلت الحكومة يوماً عن دور قراراتها في تراجع الزراعة السورية، خصوصاً وأن بوادر التراجع الواضح في الإنتاج الزراعي بدأت في العام 2008 عندما بدأ مشروع رفع الدعم عن المشتقات النفطية، والمستلزمات الزراعية؟!. كما لا بد من التساؤل عن سبب الإصرار الحكومي على تجريد الزراعة السورية من حقها في الدعم، بينما تحافظ الدول الكبرى على حجم إعاناتها لمزارعيها حتى في أوقات ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية عالمياً!..