الصناعة السورية في الأزمة إلى أين .. الصناعات الهندسية من 12 شركة عامة إلى أربع شركات

الواقع الاقتصادي اليوم يقول بأن الصناعات السورية تجد صعوبة في الاستمرار، وفي مقدمتها صناعات القطاع العام التي كانت تعاني ما تعاني قبل الأزمة الحالية، وقبل الصعوبات الأمنية المتعلقة بالطرق ومستوى المخاطر وتأمين المواد، والصعوبات السياسية المتعلقة بالعقوبات المفروضة على المصارف الرسمية وصعوبة تأمين المستلزمات المستوردة، ويضاف إليها الصعوبات الاقتصادية المتعلقة بانخفاض كبير في الطلب الداخلي، وماينتج عنه من صعوبات التوزيع..

الصناعات الهندسية التي تعتبر في مقدمة الصناعات السورية من حيث مستوى تطورها، والتي كانت يوماً عبارة عن 12 معملاً وشركة تابعة لجهاز الدولة، تقلصت اليوم ليعلن في الأزمة أن أربعاً من هذه الشركات فقط تعمل..
توجهنا إلى أيهم جرادة رئيس نقابة عمال الصناعات المعدنية لنطلع على رأي النقابات بواقع القطاع وشركاته،كانت ردة الفعل الأولى للنقابات على موضوع ملفنا ونقطة انطلاقه وهي إعلان توقف ثماني شركات تابعة للصناعات الهندسية، استنكاراً ناعماً لسرعة التصريحات وحزمها..
وقد اتضح لنا أن السرعة في إعلان وفاة العديد من شركات الصناعات الهندسية، ليست دقيقة أو موضوعية،، وقد تم هذا سابقاً في عام 2009 عندما أصدرت رئاسة مجلس الوزراء في حكومة العطري السابقة كتاباً لوزارة الصناعة بوقف العمل بـ 17 شركة من القطاع العام، سبع منها تتبع للمؤسسة العامة للصناعات الهندسية، وعرضها للاستثمار، بينما بقيت المؤسسة والنقابات تعتبرها شركات حدية ولم تلتزم بإيقافها..

بردى نواة الشركة يجب أن تبقى

يرى أيهم جرادة رئيس نقابة عمال الصناعات المعدنية، أن قرار إيقاف شركة بردى ليس نهائياً حيث لم تنته بعد عملية الجرد الدقيقة والنهائية لوضع الشركة بعد تعرضها للاعتداء، والفرق كبير بين تعرض الخطوط الإنتاجية الرئيسية للتدمير وبين أعطال وأضرار ثانوية من الممكن للعمال إصلاحها..
إلا أن شركة برادات بردى كانت تعتبر شركة حدية مع مجموعة من شركات الصناعة الهندسية التابعة للقطاع العام، وحدية أي بين الرابحة والخاسرة، وإيقافها يتوقف على تطورها اللاحق.. وهذا ما قبل التدمير والاعتداء، ولكن الشركة التي كانت منتجاتها يوماً ما منتجات أساسية في منازل السوريين، تعاني الكثير من المشاكل،أهمها تكاليف منتجاتها العالية والصعوبات الكبيرة، أما  النوعية التي كانت ميزتها الوحيدة بالمقارنة مع منافسيها في السوق، بدأت تتراجع منذ سنوات، إلا أنه على الرغم من ذلك، لديها الاسم والخبرات الفنية ولديها أهمية اقتصادية اجتماعية تجعل النقابات تؤكد أن إعلان توقف نهائي لهذه الشركة هو عمل خاطئ، لابد من إبقاء نواتها الأساسية عاملة لتعيد إحياء الشركة في ظروف وواقع اقتصادي أفضل، كما اقترح النقابي أيهم جرادة أن تضم الشركة بعد تخليصها من أعباء اقتصادية، إلى شركة الكابلات في دمشق المشتقة من بردى سابقاً والتي تعتبر من أنجح شركات الهندسية اليوم.
وبالحديث يتضح أن مفاعلات حدث اليوم والأزمة الحالية أقل وطأة على واقع هذه الشركات، من أحداث الأمس المتتالية التي كانت تدمر هذه الشركات بسلسلة من المشاكل البنيوية المشتركة بين مؤسسات القطاع العام الإنتاجية تحديداً، والتي تبدأ بالعامل الذاتي أي طفيلية الجهاز الإداري المتسع وبقائه بعيداً عن أي محاسبة ومراقبة، لتتحمل لاحقاً الشركات والعاملون وأموال الدولة، نتائج التسهيلات وغض النظر، التي كانت تقدم لهذه الإدارات مقابل الندب من قبل الحكومات المتتالية بأن التسهيلات المقدمة «للقطاع العام ومؤسساته»، أصبحت فوق القدرة على التحمل...


الإدارات فاسدة أم الهيكل مفسد

تؤكد النقابات على الدور الأولي والمباشر للإدارات المتتالية الفاسدة لهذه الشركات الهامة، ولكن تشير بالوقت نفسه إلى عوامل موضوعية متعددة، أهمها القوانين التي تحاصر هذا القطاع بمركزية بيروقراطية، فالمستلزمات والمواد المستوردة تحتاج إلى اقتراح المعمل وترشيح المؤسسة، والمصرف المركزي وهيئة التخطيط واللجنة الاقتصادية، وكل هذه المراحل لصرف القطع المطلوب لعملية شراء خارجي لمصلحة معمل ما، مما يؤخر وصول المستلزمات، ويجعل بعض معامل الصناعات الهندسية على سبيل المثال تستورد موديلات تصبح قديمة خلال فترة التأخير.
نقطة أخرى تشير إليها النقابات أن الإدارات تقوم بمخالفة قوانين العقود بين شركات القطاع العام التي تنص بإلزام الجهات العامة باستيراد مستلزماتها التي تنتج من قبل جهات القطاع العام من هذه الجهات حصراً، دون اللجوء إلى المناقصات أو الاستيراد من القطاع الخاص، أو من الخارج، نظراً لأن هذه العملية تؤمن الطلب الداخلي على منتجات القطاع العام، وهنا على سبيل المثال يذكر النقابي أيهم جرادة قيام وزارة الاتصالات بتوقيع عقد لشراء الكابلات من معمل «غريواتي»، مما جعل شركة الكابلات العامة مع النقابات تدعو لفسخ العقد نظراً لمخالفته لهذا القانون، وقد تم الأمر، إلا أن الضغط هنا لتنفيذ القانون، يمتلك مقومات منها قدرة منتجات كابلات دمشق على المنافسة، أما في حالات أخرى فإن تحجج الجهات العامة بارتفاع تكاليف منتجات القطاع العام، بالإضافة إلى أسباب أخرى منها عمولات الجهات العامة عن طريق المناقصات، وغيرها من العوامل تجد طريقها لتغافل  «المركزية» وأصحاب القرار عن تطبيق القانون، فشركة الإنشاءات التي تعتبر من بين الشركات الحدية في اعتبارات النقابة، والمتوقفة في اعتبارات المؤسسة العامة للصناعات الهندسية، هي من أكثر الشركات التي يرتبط عملها وسوقها الداخلية بمؤسسات القطاع العام، وتعتبر من أكثر الشركات تضرراً من عدم تنفيذ هذا القانون، وتعاني من منافسة المتعهدين الكبار أصحاب الحظ الأوفر في مناقصات الجهات العامة، كونهم أصحاب العمولات الأكبر، تطبيق هذا القانون يتيح تجاوز مشكلة أساسية هي المفارقة التي يعاني منها إنتاج بعض مؤسسات وشركات القطاع العام، الذي ينتج بأقل من النسب المخططة والمطلوبة، ولكنه بالمقابل يتراكم في مستودعات هذه الشركات، ويمنعها من تحقيق الإيراد اللازم لسد ديونها المتراكمة على مصارف الدولة.
وهو ما يوصلنا إلى المشكلة الأخرى التي تطرأ نتيجة إقراض هذه المعامل والشركات من المصارف العامة لتأمين مستلزماتها، وعدم قدرتها في بعض الحالات على سداد الأقساط، أو تراخيها، مع العلم أن أقساط هذه القروض محسومة من العمال، وغير مدفوعة للمصرف، إلى أن وصلت بعض المصارف إلى حجز أموال هذه الشركات والمعامل والامتناع عن تزويدها بقروض إضافية مما شكل عاملاً إضافياً يعيق تأمين مستلزمات الإنتاج ..
مشكلة أخرى تطرح هي العمالة الفائضة، حيث تبدو العمالة هي الفائض الوحيد في هذه المؤسسات والمعامل مقابل نقص السيولة، وضعف الإنتاج، وتراجع النوعية، وقلة التطوير في خطوط الإنتاج والآلات حتى انعدامه، لكن مقابل هذه العمالة الفائضة في بعض المعامل، تعاني معامل وشركات أخرى من نقص كبير في الخبرات الفنية، وهو الذي يدفع النقابات إلى التمسك بنواة أساسية من الفنيين في شركة بردى على سبيل المثال والدعوة لضمها إلى الكابلات التي على الرغم من كونها أنجح شركات الهندسية إلى أنها تعاني من نقص في العمال..
 تعددت هذه المشاكل التي تعتبر مشتركة بين مؤسسات ومعامل الإنتاج التابعة للمؤسسة العامة للصناعات الهندسية، والتي يمكن أن تجعل العامل الإداري أقل حسماً، أي ناتج عن بنية كاملة،  فبظل المركزية التي تعيق مرونة عمل الشركات من حيث تأمين مستلزماتها وربطها بعدد كبير من الجهات الإدارية والإشرافية، تختفي هذه المركزية عن عملية المراقبة والتقييم العامة لمشاكل القطاع الموضوعية وهذه التجاوزات التي يتيحها غض النظر العام عن إدارات تجعل المخالفات القانونية مشرعة ومتاحة بالنسبة إليها، وتجعل الهدر والنهب قانوناً في هذه المعامل والمؤسسات.