السوريون ينتظرون قراراً حكومياً يعاقب فيه المتهربون ضريبياً بالحبس وبالغرامة الرادعة
لن نقف في صف الرافضين لسعي الدولة تأمين مواردها المستحقة من المتهربين على اختلافهم، وهذا ما تفعله كل الحكومات دون استثناء، إلا أن العدالة في تحصيل الموارد المستحقة لتمويل الخزينة العامة يجب أن تبقى الموجه الأساس لتلك السياسة الاقتصادية، وهذا المعيار كان ولا يزال آخر الاهتمامات والإمكانات الحكومية، مما جعل من الشريحة الأضعف الأكثر تمويلاً للخزينة العامة ليس الآن فقط بل خلال السنوات الطويلة السابقة..
«نقطة في بحر» التهرب الضريبي
من رحم هذا المنطق، أتى القانون رقم 23 لعام 2012، والذي ينص على المعاقبة بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر وبغرامة قدرها 15 بالمئة من قيمة الطاقة الكهربائية المستجرة بشكل غير مشروع وبما لا يقل عن 5000 ليرة سورية، ونص المرسوم على أنه تضاعف العقوبة في حال التكرار على كل من أقدم على استجرار الطاقة الكهربائية بصورة غير مشروعة أو ساهم بذلك... فهذا الاستجرار غير المشروع يعبر عنه بالفاقد التجاري الذي تجاوزت نسبته 10 بالمئة، وتقدر تكلفته بالحد الأعلى بنحو 5 مليار كيلو واط ساعي، وذلك انطلاقاً من متوسط ما يدفعه السوريون لقاء كل كيلو واط ساعي في «فواتير الكهرباء» المقدرة في الأوساط الرسمية بنحو 2.5 ليرة، فهذا يعني أن حجم التهرب جراء الاستجرار غير المشروع سيكون بحدود 12.5 مليار ليرة بشكل إجمالي، ومهما ارتفع الاستجرار غير المشروع فلن تتجاوز فاتورته 25 مليار ليرة، بينما يصل التهرب الضريبي إلى 200 مليار ليرة حسب التقديرات الرسمية، وهذا لا يشكل أكثر من «نقطة في بحر» التهرب الضريبي عموماً، ولكبار المكلفين بشكل خاص، ففاتورة تهرب عشرات المتهربين ضريبياً في دمشق وحدها تتجاوز حجم الاستجرار غير المشروع للكهرباء..
«إغراء حكومي»
هذه التجربة المرفوضة بطبيعة الحال تدفع للتساؤل: إلى متى ستبقى شريحة أصحاب الدخول المحدودة هي صاحبة النصيب الأكبر من تمويل الموازنة العامة مقارنة بنسب دخلها؟! ولم هم وحدهم من تستنزف جيوبهم في كل مناسبة ومع كل قرار جديد؟! من رفع أسعار المازوت وصولاً لكل الاجراءات الحكومية اللاحقة!. بينما تتسابق الإعفاءات على الجهة الأخرى، وينشئ جناح فاخر بوزارة المالية «للأكابر» من كبار ومتوسطي المتهربين ضريبياً، إلا أن هذا «الإغراء الحكومي» فشل في اقناعهم بتسديد استحقاقاتهم، ولم تلجأ كل الحكومات المتعاقبة إلى اتخاذا أي اجراءات رادعة شبيهة بتلك التي تتخذ اليوم بحق الاستجرار غير المشروع للكهرباء، وهذا يؤكد من جديد أن الاجراءات والقرارات الحكومية كانت ولا تزال تأخذ مصلحة طبقة أصحاب الثروات على رأس أولوياتها، ويبدو أنهم سيبقون الصنّاع الفعليين للقرار الاقتصادي في زمن كل الحكومات المتعاقبة..
بانتظار «جرأة زائدة»
لا ننفي أن من حق الدولة البحث عن مواردها، إلا أن هذا الرقم لا يشكل بطبيعة الحال أكثر من 12 % من حجم التهرب الضريبي الإجمالي المعلن منذ عام 2009، ونعتقد جازمين بأنه أكبر من هذا الرقم بكثير حالياً، إلا أن الإجراء الحكومي اقتصر في حينها وحتى الآن، على إغداق كبار المتهربين ضريبياً بسلسلة من الإعفاءات الضريبية على أمل تسديد التزاماتهم لاحقاً، ولم نجد الادارة الاقتصادية شديدة الحرص على الأموال العامة بالقدر الذي تحرص فيه على معاقبة المتخلفين عن سداد التزاماتهم الكهربائية المتأخرة، فالاثنان في عرف القانون مخالفة، والتهرب الضريبي يهدد أسس العدالة الضريبية غير الموجودة أساساً، ويوسع فجوة التوزيع غير العادل للثروة لحساب الأرباح، بينما نشأ الاستجرار غير المشروع بجزء منه نتيجة عجز البعض عن سداد استحقاقاتها المالية على هذا الصعيد..
وعلى مبدأ التعامل بالمثل، كان من الأجدى إصدار قانون مشابه يعاقب به المتهرب ضريبياً أسوة بالقانون الذي أصدر لمعاقبة الاستجرار غير المشروع للكهرباء، على أن يدخل هذا القانون حيز التنفيذ عملياً على كبار ومتوسطي المكلفين قبل صغارهم، والذين لا تتجاوز أعدادهم بضعة مئات يتهربون من عشرات المليارات سنوياً في أسوأ الأحوال، فهل ستتمرد الحكومة الحالية على سابقاتها، وتسعى لإصدار قانون يعاقب فيه بالحبس وبغرامة مشابهة بحق المتهربين ضريبياً الذين يهددون أسس النظام الاقتصادي والعدالة الاجتماعية؟! فالسوريون في انتظار هذه «الجرأة الحكومية الزائدة» علها تكون الخطوة الأولى في طريق الألف ميل لإصلاح الاقتصاد الوطني!..