(التشاركية).. نجاح مؤقت (لضيقي الأفق)!

نقلت قاسيون عن عبدالله الدردي في عام 2010 قوله بأن: (الحكومة تقوم بإعداد مشروع قانون التشاركية من خلال مشاورات مع كبريات الشركات العالمية، ومكاتب المحاماة والمؤسسات المتخصصة في قضايا الشراكة عالمياً)، وبالفعل (لم يضع الجهد الدولي سدى) فقد قامت الحكومة بعد رحيل الدردري، واندلاع الحرب، والوصول إلى عتبات الحل السياسي، بإنجاز وإقرار قانون التشاركية..

وأتت موجبات القرار بحسب القانون والوزراء المعنيين: لحماية دور الدولة، بل وتوسيعه وتطويره، وحماية سورية من المديونية الخارجية، عبر تمويل مشاريع البنى التحتية من خلال الشراكة مع المال الخاص.. وللحديث عن الشراكة والتشاركية ينبغي أن نتوقف عند اللحظة التي نعيشها والحاجات الفعلية..


إعادة الإعمار.. إغاثة واستثمار

تنشر التقارير الدولية أرقامها حول كلف إعادة الإعمار السورية، وهي لا تقل عن 165 مليار دولار حتى اليوم، لإعادة إعمار وتأهيل البنى التحتية والمساكن والمستشفيات والمدارس وغيرها، ومجمل ما يتطلبه من إنفاق جاري عام للمهمات الإنسانية الملحة، التي يجب أن تقوم بها الدولة لإعادة أكثر من 4,2 مليون سوري لاجئين في دول الإقليم، وتأمين أكثر من 6,5 مليون سوري نزحوا داخلياً وخسروا منازلهم ومصادر رزقهم، وتكاليف إعادة  أكثر من 50% من الأطفال السوريين إلى مدارسهم التي تسربوا منها، ومعالجة وتأمين أكثر من 10% من السوريين الذين أصبحوا معاقين بسبب الحرب. بالإضافة إلى ما تتطلبه عملية إعادة الإعمار من إنفاق استثماري عام، لتشغيل أكثر من 53% من السوريين العاطلين عن العمل، ولزيادة أجور السوريين الضرورية لانتشالهم من الفقر، بعد أن أصبحت أجورهم أقل من حد الفقر المطلق -122 ألف ل.س- بثلاث مرات على الأقل!.


مهمات لجهاز دولة «منحاز للعامة»

مجمل هذه المهمات التي تعتبر العتبة الرئيسية لإعادة السوريين إلى نقطة الصفر، وإيقاف كارثتهم الإنسانية، لا يمكن أن تتم إلا بوجود جهاز دولة يضع هذه الأولويات ويراها ضرورية، أي ينطلق من مصلحة متضرري الحرب، لا المنتفعين منها!.
ليدير المال العام ويحول كل التدفقات المالية المتوقعة من إعادة الإعمار لخدمته، ضمن خطة وطنية عامة، بحيث تستطيع أن تشكل حلاً تدريجياً للمشاكل الكبرى، وتؤمن موارد مستمرة للمال العام تسمح باستمرار عملية إعادة الإعمار، وتحويل أموال التعويضات والتدفقات الدولية، إلى تعويض حقيقي للسوريين عن خسائرهم، لا تحويلها إلى أداة ارتهان للمال الدولي.


لدى السوريين «فرصة».. ولكن!

تتوفر للسوريين فرصة إقامة نموذج في إعادة الإعمار، مختلف عن عمليات إعادة الإعمار في دول العالم الثالث التي أدارتها مؤسسات دولية ومنظمات غير حكومية، وجهات داعمة، أعادت إنتاج الأزمات بل ورسختها، وأدخلت دول مثل لبنان والعراق وأفغانستان في دوامة غير منتهية من الأزمات، ومحولة إياها إلى «دول فاشلة».. وفرصة السوريين مبنية على أن ظروف اللحظة السياسية القائمة على التوازن الدولي، تتيح لهم حلاً سياسياً مع بقاء جهاز الدولة السورية، وقدرته على التحكم بالعملية.
لكن عدا عن الظرف الدولي الذي يتيح لسورية أن تقوم بنموذج إعادة إعمار وحيد، يسمح بانتشال سورية من أزمتها، ولا يعيد إنتاجها، هل لدى قوى السوق الكبرى والمؤثرة في سورية الرغبة بذلك؟ على ما يبدو بأن لقوى المال والفساد الليبرالية وجهة نظر أخرى ستودي بجهاز الدولة السوري إلى مزيد من الضعف والانحياز لمصلحتها.
«الشراكة» تغير السياسات وتفرض الربح
إقرار قانون التشاركية في نهاية العام 2015، سيعني مزيداً من تكييف مهمات جهاز الدولة القادمة مع «الشركاء» بالمال الخاص، ورهن المشاريع والأولويات لتدفق المستثمرين وشروطهم، وجعل السياسات رهن تحالفات قوى المال الكبرى القادرة على المشاركة في عمليات الاستثمار في البنى التحتية، هذا أولاً، أما ثانياً: فإن تحفيز المال الخاص للشراكة سيؤدي إلى اعتماد منطق الربح في الخدمات الاجتماعية العامة كافة، الكهرباء والماء والنقل وتأمين السكن والصحة والتعليم، لتنتج أرباح المستثمرين إما من المستهلكين المباشرين، أو من المال العام الذي ستدفعه الحكومة للمشاركين في عوائد هذه العمليات..
الشراكة لن تحقق أياً من موجبات إقرارها المزمعة، بل سترهن خطة إعادة الإعمار، وجهاز الدولة لقوى السوق، ولن تقلل من ارتهان سورية للمديونية الخارجية، بل ستصبح تدفقات أموال إعادة الإعمار، تصب لدى قوى السوق الكبرى، عوضاً عن جهاز الدولة، والشراكة لن تؤدي إلى توسيع دور الدولة وتحسين الخدمات العامة، بل ستحولها إلى خدمات مأجورة، أو تحولها إلى استثمارات ذات عوائد اقتصادية رابحة للمستثمرين، وأرباحها مدفوعة من المال العام، الذي ستتراجع موارده مع تراجع الوزن الاقتصادي لجهاز الدولة، وسيتحول إلى مال يجبى من الضعفاء ليحفز الأقوياء كما هو الحال الآن وأكثر..

لم تحقق سورية نمواً حقيقياً إلا عندما توسع جهاز الدولة بالاستثمار الاقتصادي المباشر لموارد البلاد، والموارد المتدفقة في مرحلة السبعينيات، وكان لقوى الفساد والسوق الدور الأكبر لاحقاً في إعادة التوزيع من جهاز الدولة إلى الخارج، ليعود هؤلاء ويقولوا منذ التسعينيات بفشل النموذج، ولينجحوا في فرض أموالهم على الأملاك العامة وعوائدها في مرحلة إعادة الإعمار.. لتكون التشاركية كنظام لتمويل الاستثمار العام، هي اعتماد على المال الخاص المنهوب تاريخياً أو المال الأجنبي، مما يخسره عوائده أولاً، وثانياً والأهم أنه يُخسر الدولة استقلالها عن قرار ومنطق الربح في السوق!..
فشل النموذج السابق عندما كانت الدولة تدير العمليات الاقتصادية، وسيفشل النموذج الليبرالي اللاحق، ودائماً الفساد وقوى السوق الكبرى، وهيمنة المصالح الخاصة على القرار ستكون السبب، إلى الحين الذي يفرض فيه عموم السوريين مصلحتهم على إدارة المال العام، الذي ينتجونه، في نموذج اقتصادي بديل يجمع بين «أعلى نمو وأعمق عدالة اجتماعية».

10,5% نمو

لسورية تجربة هامة في إدارة الأموال المتدفقة من الخارج فمرحلة عقد السبعينيات حين تدفقت أموال (الريع السياسي) إلى سورية، أعقبها نمو استثنائي وضع سورية في مقدمة النمو في المنطقة متوسطه 10,5% سنوياً، حيث كان جهاز الدولة يدير العملية وحيداً ويتوسع بالإنفاق الاستثماري تحديداً..

50% للفساد
جهاز الدولة في سورية كان يمتلك نصف الأصول الثابتة، وينتج أكثر من نصف الدخل الوطني تقريباً، ولكن أرباحه الحقيقية أقل من إنتاجه للدخل، والفارق بينهما هو أكثر من نصف الدخل الذي ينتجه القطاع العام، وهو ما يتسرب ويعاد توزيعه كأرباح للفساد، ولا يعود للمال العام.

100 مليار دولار
استطاعت سورية أن تبني اقتصاداً قوياً في مرحلة السبعينيات، واستطاعت قوى الفساد أن تشكل مركز ثقل حقيقي، ابتداءً من تلك المرحلة أيضاً، لننتقل إلى نموذج سوري تستطيع قوى الفساد والسوق أن تنهب فيه مبالغ قدرت بـ100 مليار دولار في عام 2004 خارج سورية، فهل هذه أموال المغتربين الموعودة؟!..

-43%  نقص كفاءة
مرحلة ما بعد قانون الاستثمار رقم 10 وإشراك القطاع الخاص، وتوسع الليبرالية بعد عام 2000 وتراجع دور الدولة الاقتصادي، أدت إلى ضياع ما نسبته 43% من الاستثمارات بين 1996-2006 فقط نتيجة تراجع الكفاءة الحدية للاستثمار، وستؤدي إلى ضياع مانسبته 33% إذا ما استمرت حتى عام 2025.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


*تم الاعتماد على تقرير سورية 2025، ودراسات اقتصادية للدكتور قدري جميل، وعلى تقارير لمنظمة الصحة العالمية، ومفوضية شؤون اللاجئين، والإسكوا، وحسابات قاسيون للأجر وحدود الفقر.