ملف إعادة الإعمار في سورية (1): (تجربة الكونغو وعقدة جهاز الدولة)...

ملف إعادة الإعمار في سورية (1): (تجربة الكونغو وعقدة جهاز الدولة)...

ستفتح قاسيون ابتداءً من هذه المادة ملف إعادة الإعمار بشكل مستمر، فالمهمة التي ستقبع على أكتاف الشعب السوري وقواه الوطنية بعد الخروج من هذه الأزمة، هي ولوج هذه العملية من باب نموذج تنموي جديد يؤمن العدالة الاجتماعية والنمو الاقتصادي، ما يسمح لفقراء الشعب بالتنعم بشيء من خيرات هذا البلد، ويمنع إعادة إنتاج الأزمة الوطنية التي كان أحد أسبابها (النموذج التنموي) السابق القائم على السياسات الليبرالية، وما سبقه من نماذج أخفقت في إنجاز ما ينبغي عليها.

سنسلط الضوء على بعض الدراسات الأكاديمية التي تناولت تجارب إعادة الإعمار في العديد من بلدان العالم التي تعرضت لأزمات وطنية حادة وأليمة قد تكون مشابهة بعض الشيء أو كثير لأزمتنا، إلا أن المهم هو الخروج بخلاصات علمية جادة من هذه التجارب لنراعي في نموذجنا اللاحق الإشكالات التي واجهت تلك الدول مع الانتباه إلى خصوصية الحالة السورية وإن تشابهت أزمتها في بعض خطوطها العامة مع أزمات أخرى.

سنستعرض جزءاً من الخطوط العامة عن إعادة الإعمار في جمهورية الكونغو الإفريقية من خلال قرائتنا لدراستين رئيسيتين الأولى هي (إعادة الإعمار الاقتصادي في مرحلة تحولات مابعد الصراع: دروس جمهورية الكونغو الديمقراطية) للباحث كراسينا ديل كاستيلو المتخصص في هذا المجال والمنشورة في عام 2003 عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الدولية (OECD)، ودراسة (الأبعاد الدولية لأزمة الكونغو) للباحث جورج نزونغولا ناتالاجا مدير مركز أوسلو للحوكمة التابع للأمم المتحدة الإنمائي:

• Economic reconstruction in post-conflict transition: Lessons for the Democratic Republic of Congo (DRC)

• The International Dimensions of the Congo Crisis

30% من إنتاج الماس العالمي!

تعتبر جمهورية الكونغو الديمقراطية من أغنى الدول الإفريقية بالموارد الطبيعية وتمتاز بامتلاكها ثروات هائلة من الماس والذهب واليورانيوم، وهي أكبر منتج في العالم للكوبالت ولديها 70% من الاحتياطي العالمي للكولتان والذي يستخدم في تصنيع الهواتف المحمولة والأجهزة الإلكترونية، و30% من إنتاج الألماس عالمياً، بالإضافة لامتلاكها شبكة واسعة من الطرق والممرات المائية الصالحة للملاحة ومع ذلك هي من أكثر دول العالم فقراً وأقلها تطوراً.

الصراع الأمريكي- الفرنسي على ثروات الكونغو:

لقد عزا الباحث جورج نزونغولا أسباب الصراع على الكونغو الذي انفجر بشكل كبير في عام 1998 بعد سلسلة من الأزمات المتتالية، بأنها ناتجة عن الصراع الدولي الفرنسي الأمريكي في إفريقيا والذي ألهبت سعيره خيرات هذا البلد الذي احتاجه الفساد وعدم الاستقرار بشكل كبير منذ مطلع تسعينات القرن الماضي. وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى عدم الاستقرار لعقود وانهيار جهاز الدولة الذي سيشكل معضلة إعادة الإعمار لاحقاً. وقد شاركت ست دول إفريقية في الصراع بدافع من طموحاتها الإقليمية في ثروات الكونغو بالإضافة إلى الصراعات البينية والإثنية التي غذتها الدول العظمي (أمريكيا وفرنسا) والتي دربت معظم الميليشات المتحاربة كل لطرفه. فتدخلت كل من أوغندا ورواندا وبوروندي إلى جانب "المتمردين" والذين دعمتهم الولايات المتحدة ووقفت زيمبابوي وأنجولا وناميبيا إلى جانب حكومة الرئيس لوران كابيلا الذي كان يتهم بالفساد، والذين دعمت فرنسا مقاومتهم لاحقاً.

ولقد لخص الباحث "نزونغولا" القوى الدولية الرئيسية في الصراع والتي لعبت دوراً في تطور الأزمة بـ:

• القوى الكبرى: وبشكل خاص الولايات المتحدة وفرنسا اللتان كان لهما مصلحة استراتيجية في السيطرة على المعادن النادرة في الكونغو عبر شركاتها العابرة للحدود بحجة محاربة التهديدات بما فيها الأصولية الإسلامية والإرهاب وتجارة المخدرات.

• الشركات متعددة الجنسيات: والتي سنوضح دورها لاحقاً، حيث ترافق تصاعد دورها مع بدء عملية إعادة الأعمار.

ناهيك عن دور القوى الإقليمية المجاورة والتي كان دورها مشتقاً من دور القوى الدولية كراوندا وأوغندا وزيمبابوي الخ الخ..

لقد نتج عن هذا الصراع كوارث هائلة راح ضحيتها ملايينن الناس، ووفقاً لـ كراسينا ديل كاستيلو فقد:

• انخفض نصيب الفرد من الدخل الوطني من 380$عام 1985 إلى 224$ عام 1990 إلى 80$ عام 2000.

• 2% من السكان فقط يعملون في القطاع الرسمي بمتوسط أجر شهري 15$.

• قتل 5 ملايين شخص منذ نشوب الصراع وأكثر من 3 ملايين نازح.

برامج إعادة الإعمار.. بين السياسي والاقتصادي

وضعت الكونغو لنفسها بالتعاون مع المجتمع الدولي، الذي تعهد بتقديم المساعدة للخروج من الصراع وذلك بالتوازي مع اتفاقيات السلام الهشة التي وقعت في 2003، خطة لإعادة الإعمار تمحورت وفق "ديل كاستيلو" حول ثلاث بنود: الانتقال من الحرب إلى السلام. الانتقال من الصراع إلى المصالحة الوطنية، الانتقال من سوء إدارة الاقتصاد الكلي إلى اقتصاد إعادة البناء.

وفي هذا الإطار وقعت حكومة الكونغو عدة اتفاقيات لإنهاء الصراع  مع دول الجوار تنص على خروج القوات الأجنبية، وعملت مع المجتمع الدولي على وضع برامج للتسوية السلمية للصراع ومن أهمها برنامج "الأرض مقابل نزع السلاح" الذي تضمن نزع السلاح وتسريح المقاتلين السابقين وإعادة دمجهم في الأنشطة الإنتاجية بشكل دائم وتوطين السكان المشردين. وفقاً للباحثة فإن عيب هذه البرامج الرئيسي هو أن برامج صندوق النقد الدولي واتفاق الأمم المتحدة بشأن التسوية السلمية ونزع السلاح لم يتضمن تأمين وتمويل المشاريع المتعلقة بالسلام، وهذا ما وضع السلطات الوطنية في معضلة تأمين الاستقرار السياسي عبر اتفاقيات السلام في الوقت الذي لايوجد مايكفي من التمويل للمشاريع التي تسهم بإدماج المقاتلين السابقين وبالتالي إبعادهم عن حمل السلاح، ما أدى إلى استمرار الصراع.

وهو ماتلخصه الكاتبة بعقدة "تأمين الاستقرار السياسي لأجل تأمين النمو الاقتصادي وبرامج الإدماج الاجتماعي والذي يستدعي تمويلاً لايملك الاقتصاد الكونغولي طاقته". وهو الإشكال الذي رأت الباحثة لحله: ضرورة الاعتماد وإن بشكل مؤقت على المساعدات الدولية. والاعتماد بشكل كبير على برامج صندوق النقد والبنك الدوليين والمنظمات غير الحكومية، بالإضافة إلى الاعتماد بشكل رئيسي على القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي الذي يستدعي سلسلة إصلاحات هيكلية.

صندوق النقد والبنك الدوليين وكبرى الشركات في الصراع

مع استمرار غياب التوازن الاقتصادي وتعثر الكونغو وعدم قدرتها على سداد الديون الخارجية وفوائدها لمؤسسات التمويل الدولية (IFIs) دفعها إلى قبول سلسلة من  برنامج صندوق النقد الدولي عام 2001 والذي تضمن مجموعة من السياسات والتدابير الكفيلة بتحرير الاقتصاد وتحسين الاستقرار، ودُعم البرنامج بمبلغ 50 مليون دولار مقدم من المؤسسة الدولية للتنمية (IDA) وتضمن البرنامج: (تعويم سعر الصرف- تحرير أسعار البترول – الدفع نحو الخصخصة- إجراء مجموعة من الإصلاحات الهيكلية في الموازنة العامة للدولة).

وفي عام 2002 خلصت مشاورات الصندوق أن الكونغو التزمت بالبرنامج وكانت النتائج إيجابية وبناءً على ذلك تعهد المانحين الدوليين بتقديم مبلغ 2.5 مليار دولار استجابة للاحتياجات المتزايدة للكونغو، وكان التعهد عبارة عن مقاصة للديون المتأخرة وغير المسددة!.

مع إقرار سلسلة "الإصلاحات الهيكلية" التي تم الاتفاق عليها مع المنظمات الدولية وذلك لأجل إنعاش الاقتصاد، تم التمهيد لدخول استثمارات القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية فصار دور الدولة في الكونغو قيد الاضمحلال.

ومع دخول الشركات المتعددة الجنسيات العاملة في مجال التعدين والتنقيب وهي التي رأى فيها الباحث جورج نزونغولا العامل الخارجي الثاني الفاعل في أزمة الكونغو، والتي وقفت تارة إلى جانب "المتمردين" وتارة أخرى إلى جانب الحكومة التي تحولت إلى شبه ميليشيا بسبب ضعف قدراتها، وكان المعيار الأساسي لتلك الشركات هو مصالحها الخاصة في الحصول على عقود امتياز طويلة الأجل وبأقل الأسعار الممكنة بما يضمن استمرار استغلالها ونهباً لثروات البلاد الكونغو. ويؤكد ذلك تقرير "لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة عام 2000" بشأن الحرب وتدخل القوى الإقليمية والاستغلال غير المشروع للموارد في الكونغو والذي أشار إلى تجاوز 85 شركة دولية لمعايير العمل الدولية ومنها 21 شركة بلجيكية و10 شركات بريطانية و8 شركات أمريكية و5 شركات كندية، وطالب التقرير توقيع عقوبات مالية على 29 شركة ولكن التقرير لم يتم التعامل به في الأمم المتحدة بسبب معارضة الدول الغربية.

نتائج من سياسات إعادة الإعمار في الكونغو

لقد كانت المنهجية التي اعتمدها الباحث "ديل كاستيلو" متوافقة تقريباً مع رؤى المؤسسات الدولية، والتي يتمخض فحواها في حل عقدة تأمين الاستقرار السياسي عبر تأمين النمو الاقتصادي، والذي يستدعي بدوره إصلاحات هيكلية اقتصادية فأدى إلى نتائج عكسية، حيث أضعفت هذه الإصلاحات السلطات المركزية عبر تخفيض دور الدولة وبرامجها التنموية، وقوت دور الشركات الأجنبية والشركات الخاصة الباحثة عن أي ربح سريع ماجعلها تزيد الأزمة لأجل تضخيم أرباحها وضرب الاستقرار السياسي المنشود، فخلصت نتائج إعمار الكونغو وفق نموذج صندوق النقد والبنك الدولين إلى مايلي:

• حتى عام 2011 كانت جمهورية الكونغو الديمقراطية لديها أدنى مؤشر للتنمية البشرية من 187 بلداً مرتبة.

• احتلت الكونغو المرتبة 178 عام 2008 وفقاً للبنك الدولي أي المرتبة الأخيرة في العالم بحسب قدرتها على توفير السيولة الحقيقية للقيام بالأعمال التجارية.

• معدل التضخم السنوي للفترة 2001-2005 بلغ 367.4%.

• 70% من الأسر تعاني من انعدام الأمن الغذائي وعدد الفقراء حوالي 44 مليون شخص.

الديون الخارجية للكونغو الديمقراطية 12.6 مليار دولار أي ما يعادل 200% من الناتج المحلي في عام 2004 وهذه الديون وفوائدها تستنزف الاقتصاد وتقف معيقاَ أمام الانتقال السلمي من أجل إعادة البناء الاقتصادي.

آخر تعديل على الأربعاء, 22 نيسان/أبريل 2015 21:59