الحد من الهدر.. تمخض الجبل فولد (فِئراً)!
أكثر بعض "الحريصين" من مقولاتهم الداعية لتقليص الدعم عن المواطن السوري، وصنفه البعض في خانة الهدر الاقتصادي رغم ضروراته الاجتماعية والاقتصادية، والقضية لم تكن وليدة اليوم، بل إن التسسريبات الحكومية على هذا الصعيد لا تعد ولا تحصى، ففي كل يوم رقم جديد، وفاتورة دعم افتراضي أعلى، من دعم المشتقات النفطية، مروراً بالكهرباء، وصولاً للماء والمواد التموينية، حتى أن البعض تجرأ وطالب برفع الدعم عن الخبز، إلا أن جهابذة "الحرص" الانتقائي على المال العام - إذا ما قرأنا القضية بـ "حسن نية" - لم يشيروا إلى اساليب هدرٍ أشد فتكاً بالمال العام من الدعم المفترض، وأصرّوا على الصمت امامها والتعتيم عليها..
لم تطرح قضية هدر المال العام في سورية كأحد أخطر المشاكل التي يواجهها الاقتصاد الوطني، وأصرّ البعض الحكومي والإعلامي على تصنيفها في خانة هامشية، وما كان طلب رئيس مجلس الوزراء وائل الحلقي من جميع الوزارات التشدد في منع هدر المال العام واختصار الورقيات والصرفيات والنفقات المختلفة منذ عامين تقريباً سوى خطوة على هذا الصعيد، لأن تعميم الاخير قزّم قضية الهدر المخيف على بنية الاقتصاد السوري ككل إلى مرتبة ورقيات ليس إلا؟!
أين يتم الهدر إذاً؟!
أين يتم الهدر الحقيقي في الثروة الوطنية؟! سؤال أختزل البعض الإجابة عليه إما بالورقيات كما فعل رئيس مجلس الوزراء، أو بالحديث عن أسطول من السيارات الحكومية التي تكلّف الخزينة العامة ملايين الليرات كمصروف للبنزين وعمليات الإصلاح، أو بتقدير عدد الأسماء الوهمية للعاملين في الدوائر المختلفة التي تقبض رواتبها دون أن يكون لها أي وجود فعلي وفاعل في المؤسسات الحكومية، أو بالحديث عن التكاليف الباهظة وغير الضرورية لترميم المكاتب في والوزارات والإدارات والمؤسسات، وتغيير الفرش مع قدوم كل مسؤول جديد لتلك المديرية أو الوزارة، أو صيانة الأبنية والسيارات العامة بفواتير مبالغ بها، ووهمية أحياناً، إلا أن بنود الهدر تلك على أهميتها تبقى في خانة الهدر الصغير، لأن في سراديب الهدر الكبير ما هو أعظم من ذلك..
خلال العقد الماضي (2006)، كشف تقرير صادر عن هيئة تخطيط الدولة أن هناك هدرا سنويا في تنفيذ المشاريع الحكومية يبلغ 8 مليارات ليرة سورية، مؤكدا أن الرقم المتوقع هو نحو 20 مليار ليرة، وأوضح التقرير أن هذا الهدر هو عبارة عن بذخ ومبالغات كبيرة جدا في التكييف ووضع الرخام المستورد من الخارج والترتيبات المختلفة، فكم تضاعفت تكاليف الهدر حالياً؟!
وبالعودة إلى الوراء قليلاً، شكل انهيار جسر الميلبية على طريق دير الزور الحسكة خلال هطول الأمطار في عام 2011، وانهيار سد زيزون في عام 2002، وتجاهل المسؤولين لعدة تحذيرات بعد ظهور تشققات في السد، والخسائر المتتالية لأكبر المؤسسات الحكومية الإنشائية، وشركات المياه، وخسائر مبقرة طرطوس، وتراجع عدد رؤوس الأبقار فيها بشكل مخيف، ويضاف إليها الكثير الكثير من صفقات إصلاح الآلات وشراء قطع الآليات من الخارج للمؤسسات العامة، لا بل إن التهرب الضريبي الذي قدره مسؤول حكومي كبير في عام 2010 بنحو 200 مليار ل.س سنوياً ما هو إلا شكل فاضح من أشكال الهدر الاقتصادي المتعمد، وما خفي من تلك السلسلة الطويلة أعظم، كل ذلك بمجموعه يجسد عمليات الهدر الكبرى للمال العام على أكثر من صعيد دون حسيب ولا رقيب، وعلى الرغم من الحجم الكبير لهذا الهدر، إلا أن الأوساط الحكومية تصرّ على التعامل معه كأمر اعتيادي وهامشي..
الكيل بمكيالين
كم من المليارات يكلّف الهدر سنوياً؟! سؤال لا تتوفر الإجابة الدقيقة عنه، ومعظم ما يقال من أرقام هو مجرد تكهنات، إلا أن رقمه لن يكون أقل مما تبقى من دعم المازوت أو البنزين أو الخبز أو الأرز والسكر التمويني ولا حتى الكهرباء إلا أن أحداً من صانعي أو منفذي القرار الاقتصادي لم يتحرك للحديث عن هذا الفاقد الاقتصادي، ولم يطالب بتقدير قيمته السنوية، كما فعلوا مع غيره من الفواقد الاقتصادية إذا ما أرادوا أن يكونوا منصفين من حيث الشكل فقط، وهذا التجاهل لم يأتِ من فراغ، بل لأن المتورطين في عمليات الهدر الكبير للمال العام هم أقوى من القرار الاقتصادي بحد ذاته، وهم من أقطاب صناعته أساساً، وهذا ما ألمح إليه العديد من المهتمين والمتابعين للشأن الاقتصادي..